نشر حزب التحرير في تونس ردّا على ما ورد في تصريح السيد محمد الكيلاني، حول ما لحق باجتماع القطب الحداثي الديمقراطي بقليبية. إلاّ أنّ الرد لم يتعرض للأحداث التي جرت يومها، وكأنّها لا تعنيه، بل كل ما في الأمر أنّ كاتبه استغل حقه في الرد ليذكرنا بمبادئ حزبه منذ نشأته سنة 1953، كما قال.
غير أنّ ما لفت انتباهي في الرد إيّاه، والذي جاء حسب كاتبه ليصدّ "حملة الافتراءات" و "حملة من يقول علينا الكذب"، استعراض عدد من مبادئ الحزب أراد صاحب الرد إيصالها إلى القراء مثل :
- تذكير المسلمين بسقوط دولة الخلافة.
- استئناف العيش بالإسلام(؟).
- إطلاق صفات التفاضل على الحزب من قبيل "شاكر نفسه ..." مثل : معاداة العنف من قبل حزب هو الأشمخ، والأمضى، والأرقى، والأرسخ، والأرفع، والأغنى...
هنا أجدني مضطرا إلى التعليق على ذلك تعليقا أعتبره فرض كفاية إذا لم يرتق إلى مرتبة فرض عين، وذلك حتى أساهم بكل تواضع، في إنارة السبيل أمام القارئ، المتبع لما يجري على الساحة السياسية من جدال لعلّ غثه أكثر من سمينه.
أوّلا: حول استئناف العيش بالإسلام، الذي عبّر عنه صاحب المقال ووضعه في مقدمة مشاغل حزبه. أود أن أسأله عن أيّ إسلام يتحدث؟ إذ للشيعة إسلامهم، وللسنّة إسلامهم، وللمعتزلة إسلامهم، ولإخوان الصفاء إسلامهم، ولجماعة التكفير والهجرة إسلامهم، وللسلفيين الجهاديين إسلامهم... أي أنّ لكل فرقة (يعلم اللّه وحده عددها) إسلامها، أو لنقل نظرتها وقراءتها للإسلام، ولا ترى لها بديلا، وكل من خالفها الرؤية يحشر في خانة المبتدع بدعة هي فتنة تجر إلى الضلالة بينما كل ضلالة في النّار، أو يحشر في خانة الكافر والعياذ باللّه!
إذا كان الإسلام الذي يعنيه هو إسلام المتطرّفين من السلفيين الذين لا يعترفون بحريّة الفرد في الإبداع، كما عبّر عن ذلك أحد قادة جماعة وادي الليل بتونس، ولا يعترفون بحريّة المرأة في ارتداء ما تراه لائقا بها، ويفرضون عليها لباسا ما أنزل اللّه به من سلطان، ويحجبونها عن الأعين بدعوى كونها عورة كلّها، بما في ذلك صوتها، ويمنعون عنها حقّها في إثبات ذاتها بالمساهمة في دفع دواليب التقدّم بالبلاد بالعمل، فإنّ هذا النوع من الإسلام لا يشبهني ولا يلزمني في شيء، وأشهد أنّي من السلفيين براء، كما لا أشهد بغير ربّ العزّة إلاها ولا بغير محمد رسولا وخاتما للأنبياء والرسل.
ثم هل بإمكان إخواننا (في الدين) إرشادنا إلى الكيفيّة التي كنا عليها نعيش منذ سنة 50 للهجرة، منذ يوم أن عم الإسلام ربوع هذه الأرض الطاهرة والمعطاء، حتّى يدعوا استئناف العيش بالإسلام؟
ألم يكن والدي ووالدتي رحمهما اللّه، وأعمامي وأخوالي وجيراني، ومؤذن جامع حومة باب الأقواس محمد بن مراد أطال اللّه في أنفاسه، وإمام الخمس بجامع صاحب الطابع ببطحاء الحلفاوين، العم عبد الكريم الشنّوفي نتغفر اللّه له، وغيرهم من ملايين التونسيين، ألم يكن كل هؤلاء يعيشون بالإسلام؟
بماذا كانوا يعيشون إذا؟
هل كنّا كلنا مجانيين للإسلام؟
هل كنّا كفارا دون أن ندري ذلك؟
يا ويحنا ويا طول وسواد ليلنا!
ثمّ مرحى وألف مرحى لنا، لقد جاء من مع إسلامنا سيصالحنا.
يا سعدنا ويا فرحنا، والشماتة في من ليس له سلفييون مثلنا.
أما حان الوقت لهؤلاء أن يتّقوا اللّه في التونسيين؟
أليس المسلم كما قال خاتم المرسلين من سلم الناس من لسانه ويده؟
أليس الإسلام أن نؤمن باللّه ثم نستقم؟
ألا نكون مسلمين إلاّ إذا أطلقنا لحانا وأصبحنا في هيئة تفزع الصغار وتقرف الكبار؟
إنّ الإسلام نور. إنّ الإسلام محبّة. إنّ الإسلام جمال. إنّ الإسلام نظافة باطنا وظاهرا. إنّ الإسلام جمال : قل من حرم زينة اللّه الذي أخرج؟
إنّ الإسلام صدق. إنّه استقامة وحبّ وإيثار للآخرين.
إنّ الإسلام صفاء نيّة. إنّه صدق في القول وإخلاص في العمل.
إنّ الإسلام وطنيّة . أليس حبّ الوطن من الإيمان ؟
ثم، بعد هذا وقبله، فإنّ الإيمان مسألة شخصيّة صرفة، ولا يحق لأحد أن ينصّب نفسه متكلما باسم اللّه. إنّ اللّه في غنى عنّا فلننزع عنّا هذا الشرف الذي لا يليق بغير الأنبياء والرسل. لآ ندّعي ما لسنا أهلا له. هل أصبح الواحد منا ينسب إلى نفسه وظائف ليست في حجمه؟
لقد إنتهى عصر الأنبياء والرسل. وليلتزم كل فرد حدوده، ولا يتجاوز ما عليه القيام به كمواطن من بين مواطني هذا البلد. وإذا ما أراد أن يغيّر شيئا ما فليبدأ بنفسه، وليقدم الدروس لغيره بطريقة غير مباشرة، إنّ الّلبيب من الإشارة يفهم كما تقول العرب.
إنّ الواحد منّا قد لا يكفيه عمر بحاله ليتمكّن من إصلاح أخطائه ومعالجة عيوبه ومركباته، فأنّى له أن يهدي غيره. فيا أيها الرجل المعلّم غيره هلاّ لنفسك كان ذا التعليم. هكذا كان يقول من سبقونا إلى الدار الدّائمة.
حدثني أحد زملائي من الذين منّ عليهم اللّه بالمشاركة في التعاون الفني خارج البلاد، وبالسفر ضمن أول بعثة من المدرسين الذين تحولوا إلى فانواتو، بالقارة الأسترالية، وهي تبعد 28000 كلم عن بلادنا، انه فكر مع مصاحبيه من الأساتذة في تشييد مسجد بسيط يقيمون فيه صلاة الجماعة أساسا، واتخذوا مكانا في مدخل غابة، نظفوه وسقفوه بسعف النخيل، ووضعوا إناء كبيرا ملؤوما ماء طهورا للوضوء، والناس من حولهم متحلقون ويشاهدون ما يصنعون. وحرصوا كل الحرص على نظافة المكان. بدأ السكان المحليّون يتساءلون ويراقبون حركات وسكنات إخواننا المدرّسين في الشارع في علاقاتهم بالباعة، في تعاملهم مع جيرانهم، في سلوكهم مع تلاميذهم إناثا وذكورا ويقيمون عطاءهم المهني.
النتيجة : بعد شهرين من انطلاق العمليّة أصبح مكان الصلاة يغص بمرتاديه، فاضطروا إلى توسيعه .
انظروا كيف انتشر الإسلام في مكان يبعد حوالي 30 ألف كلم عن تونس، انتشر بفضل الدعوة بالتي هي أحسن وعملا بقول الرسول : الإسلام أن تقول لا إلاه إلاّ اللّه وأن تستقم بعد ذلك.
نسيت جزئيّة : عندما سافر زملاؤنا إلى فانواتو لم يكن كلّهم يصلّون، لكن قبل عودتهم إلى تونس قاموا كلّهم بدون إستثناء بأداء فريضة الحج.
ثانيا : حول تذكير المسلمين بسقوط دولة الخلافة.
نعلم أن من بين أهداف حزب التحرير إعادة مؤسسة الخلافة لتسهر على شؤون المسلمين من الماء إلى الماء.
لكن من حقّنا التساؤل عن أيّ خلافة يتحدثون؟
إنّ النص القرآني صامت فيما يتعلّق بقضيّة الحكم والسلطة. لا وجود لنظام حكم مضبوط بقوانين في النص القرآني.
من إذا يفتري على من؟
إنّهم يتحدثون عن نظام لم ينزل فيه حكم لا في الكتاب ولا في السنّة.
أم تراهم يتحدثون عن اجتهاد اجتهده الناس إثر وفاة الرسول وأقاموه لتنظيم شؤونهم من أنصار ومهاجرين، بعد أن كادوا يتقاتلون، وتسفك دماء الصحابة من أجل الهرولة للانقضاض على الحكم!
أيتحدثون عن نظام سفكت من أجله دماء المسلمين أكثر مما سفكت في الحروب مع الأعداء؟
عمر بن الخطّاب قتل.
عثمان بن عفان قتل.
علي بن أبي طالب قتل.
ثلاثة أرباع خلفاء رسول اللّه قتلوا!
وتسمّون هذا نظاما؟ أيّ نظام هو؟ نظام سفك دماء المسلمين التي حرم اللّه سفكها إلاّ بالحق؟
أيبشّروننا بمعارك كمعارك صفّين والجمل؟
أيبشّروننا بأمثال معاوية بن أبي سفيان الذي ضرب بمبدأ الشورى عرض الحائط، وحجز له مكانا نهائيّا في مقبرة المبادئ، يوم دعا لابنه يزيد من بعده وجعله وليّا للعهد بعد أن اعتمر سنة 56 للهجرة؟
أيبشروننا بخلفاء بني أميّة أمثال يزيد بن معاوية الذي أنشده الشاعر ابن مازن ما يلي :
اللّه أعطاك التي لا فوقها وقد أراد الملحدون عوصها
عنك فيأبى اللّه إلاّ سوقها إليك حتّى قلّدوك طوقها
فيقول له يزيد بعد أن استحسن كلامه : أدن منّي يا ابن مازن، حتى جلس قريبا منه.
ونلاحظ أن الشاعر وصف المعارضين بالإلحاد والزندقة. وهي صفات ستطلق كثيرا في التاريخ العربي-الإسلامي على كل معترض على السلطة وعلى كلّ مفكر له رأي مخالف. ما أشبه اليوم بالأمس البعيد؟
ألم يكفّر السلفيّون كل من صدع برأي يخاف رأيهم؟
يا اللّه هل نحن في سنة 2011 أم في سنة 70 للهجرة؟
حوّس تفهم كما يقال في الجزائر.
هذا اليزيد خلعه أهل المدينة لإسرافه في المعاصي!
ويقول عنه المؤرخون: "هو رجل ينكح أمّهات الولد، والبنات، والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة".
أيبشّروننا بالخليفة الوليد بن يزيد الذي قال فيه أخوه سليمان يوم وفاته : بعدا له (أي بالدارجة التونسية : ملاّ راحة منّو)، أشهد أنّه كان شروبا للخمر، ماجنا فاسقا، ولقد راودني عن نفسي!
خليفة المسلمين، يا اللّه، حكم المسلمين سنين طويلة، ملك فيها رقابهم، يشرب الخمر ويترك الصلاة و... يراود أخاه عن نفسه؟ أيّ خلافة هذه؟
أتبشّروننا بهذا النوع من الحكم؟
يؤكّد الذهبي ما يحكى عن الوليد فيقول : لم يصحّ عنه كفر ولا زندقة، بل اشتهر بالخمر واللّواط ( فقط؟)
أيبشروننا بالوليد بن عقبة، وهو أخ لعثمان بن عفّان لأمّه، والذي عيّنه أخوه الخليفة واليا على الكوفة، وكان يشرب الخمر مع ندمائه ومغنّيه، ولمّا أذن المؤذن للصلاة، تقدّم وصلّى بالناس صلاة الصبح في أربع ركعات ثم استدار لهم قائلا : أتريدون أن أزيدكم؟
أنهي هذا التعليق بما ورد على لسان الشاعر ابن هاني في الخليفة الفاطمي المعزّ لدين اللّه :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهّار
وكأنّما أنت النبىء محمد وكأنّما أنصارك الأنصـــار
لا أقول لكم ماذا كان رد فعل الخليفة. ابحثوا عن ذلك في المصادر التاريخيّة وستكتشفون ما ستكتشفون. أقول فقط أنّه لم يغضب، لم ينهره، لم يستغفر مولاه، لم يأمر بحبسه، لم يضرب عنقه، لم يعاقبه ولو عقابا رمزيّا...
نقشة :
في يوم من الأيام، كنت أتابع دروس الحلقة الثالثة، على يد أستاذ فاضل. كان ذلك في بداية ثمانينات القرن الذي هرب، (جميل هذا الفعل، أصبحت أتلذذ معناه منذ 14 جانفي 2011) وكنّا يومها نقوم بتحليل لخطبة حجة الوداع وتحديدا حديث غدير خمّ. طلبت من الأستاذ استفسارا عن أمر لم أعد أذكره قلت : أنت تعرف يا أستاذي... لم أتمم الجملة، قاطعني، قال بهدوئه الذي اعتدناه : يا سي فلان (أنا طالب أتعلّم على يديه، وهو يخاطبني بسي فلان!)، قال : أنت توجّه لي تهمة لا طاقة لي بتحملها يوم لا ينفع مال ولا بنون !أنت تقول أني أعرف، أنا لا أعرف شيئا وما أوتيته من العلم فهو قليل.
الرجل وقتها تجاوز الستين من عمره، ولا يعرف إلاّ القليل. يموها تلقّيت أثمن درس في حياتي، درس عنوانه التواضع ونكران الذات مهما ارتقيت في سلم المعرفة. وأصبحت أومن إيمانا راسخا لا محيد عنه أن التواضع أبو الشمائل.
هذه دروس قيّمة نأخذها عن أمثال هؤلاء الرجال.
فكفانا تطاوسا، كفانا تعملقا، كفاناى تشعبطا.
لنلتزم حدودنا. ولا ندعي أننا مكلفون بوظيفة ما عند العلي القدير.
إنّ الدين للّه أماّ الوطن فهو للجميع.
وختاما نقول ... عاش ... عاش ... باعث القناة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire