samedi 26 novembre 2011

ماذا بعد انعقاد المجلس التأسيسي؟


  عاشت البلاد التونسية يوم 22 نوفمبر 2011 يوما تاريخيّا بانعقاد أوّل جلسة للمجلس الوطني التأسيسي الذي انتخب الشعب أعضاءه في 23 أكتوبر من نفس السنة، وأوكل إليهم مهمّة وضع دستور جديد للجمهوريّة التونسيّة الثانية، يكرس المبادئ التي من أجلها ثار كل التونسيين بداية من 17 ديسمبر من العام السابق، وحتّى قبل ذلك التاريخ إذا ما اعتبرنا أحداث الحوض المنجمي بالمتلوي سنة 2008، والتي أغرقها النظام القديم في بحر العنف والقتل بتواطىء لا إراديّ من قبل إعلام مكتومة أصواته ومغلولة أيديه ومكره على إنتاج ما لم يكن عليه راضيا من أجل ألاّ يجوع صغار المشتغلين فيه، والتي كانت القادح لثورة شعبيّة انتهت بالإطاحة برمز إمبراطوريّة الاستبداد يوم 14 جانفي 2011.



  واليوم وقد زال من الطريق نظام دكتاتوري أُسّسَ على الجهل وعلى السير خارج تيَّار التاريخ، متحدّيا الراهنَ ومستوجباته، وخطونا الخطوات الأولى على درب بناء نظام ديمقراطي نابع من إرادة جماعيّة منبثقة من موجة الغضب العارم الذي انخرطت فيه مختلف الفئات الشعبيّة، التي ضاقت ضرعا بتسلّط واستبداديّة الجهلة، وفتحت بابا تسرّبت منه أشعّة ما إتُفق على تسميته ب"الربيع العربي"، الذي وُلد هلاله في ربوعنا، وخطا خطواته الأولى في أرض الكنانة، وانتصب على رجليه في ليبيا، ويتوثّب للقفز في اليمن وسوريا، فإنّ مشاريع الديمقراطيّات العربيّة الفتيّة تواجه في اعتقادي تحديين خارجيين يستوجب الوضع الراهن الوقوف في سبيليهما وهما:

  • تحدي أوّل مأتاه الغرب اللّيبيبرالي الرافع ظاهريّا رايات "حقوق الإنسان" والمنتشي بأهازيج الديمقراطيّة والسّاعي إلى ترويجها في كل الربوع التي تنعدم فيها، علما وأنّه هو من نسج منذ القرن الثامن عشر منظومة استغلال الشعوب المستضعفة والتآمر على أمنها، وهو المصاب بداء عمى الألوان فلا يرى غير ديمومة مصالح لا يضمنها غير إغراق الشعوب "النامية" في المزيد من الجهل والتخلّف والجوع والتبعيّة، ومساندة الدكتاتوريّات التي تحكمها بقدر ما تبديه من استعداد للدفاع عن تلك المصالح.

  • أمّا التحدي الثاني فهو مشرقيّ الهوى، موغل في "القدم" وفي الماضويّة، يعيش على وقع اللاّتاريخ، و لا زال يتوارث فيه حكم الرقاب بعض البطون القبليّة، منذ ثلاثينات القرن الماضي بالنسبة للبعض، أفرزها تحالف السياسي مع الديني وتقاسمهما الوظائف القياديّة، و يسعى إلى تطويع الديمقراطيّات الفتيّة بسلطان أموال النفط الطائلة التي لم يُحسن استثمارها بعقلانيّة، تطويعها على ضوء قراءاتها الخاصّة لمسار التاريخ، رغم أن المسار والحتميّة التاريخيّة الحق إنّما هي الحتميّة الحداثيّة التي لا تدير ظهرها للماضي وتتنكّر له، بل تستفيد من إيجابيّاته لتنطلق فاتحة دروبا جديدة تخلّصها من البقاء سجينة الماضي.

مشرق لا يزال يعتبر نصف مجتمعه عورة كلّه، ولا سبيل إلى أن يسير الرجل الفحل في دروبه جنبا إلى جنب مع زوجه لأنّ في ذلك انتهاك للرجولة واستنقاص للمكانة الاجتماعية.

مشرق لا يزال تدريس العلوم العقليّة فيه كالفلسفة والتاريخ تحتل مراتب ثانويّة ضمن المقرّرات التعليميّة الرسميّة!

مشرق تُحوَّرَ فيه بنود الدساتير(إن وُجدَت) لتتطابق مع مواصفات وليّ العهد في نظام لم يكن غير العرب قادرا على ابتكاره وهو نظام "الجمهوريّة الوراثيّة"!!!

مشرق لا بالمعنى الجغرافي هذه المرة، يلثم فيه ظاهر يد "أمير المؤمنين" فيتظاهر بسحبها (اليد) في تواضع متصنّع، مقرف، يؤذي إنسانيّة الإنسان، ويلحق بها إهانة الاستعباد الذي صدرت الأوامر بمنعه في بلادنا منذ سنة 1846، في عهد المشير الأوّل أحمد باشا باي.

مشرق دمج الديني في السياسي ويسعى إلى فرض رؤيته على الديمقراطيّات الفتيّة بتواطىء وموافقة من تيّارات سياسيّة محليّة، قبل الانتخابات وبعدها، وهنا مكمن الخطر.

  إن بلدا نجح في وضع حد لتسانامي الجشع الجارف، وجفّف منابع التعطّش إلى ممارسة السلطة والالتذاذ بتملّك رقاب النّاس، وأزاح نظاما تموقع خارج المجال العقلي، ليس مسموحا لأبنائه اليوم الانسياق وراء خطاب عاطفي من خارج حدود ثنائيّة العقل والمنطق،  وهما مفهومان متلازمين لا ينفصمان.

ليس متاحا لنا اليوم في ظلّ خلط السياسي بالديني، وتغليف الديني بعباءة سياسيّة، دمج المبحثين، لأنّ لكلّ منهما مستوجباته الهيكليّة والظرفيّة المانعة لتلازمهما.
  لذا وجب علينا اليوم عدم الانسياق وراء الخطابات العواطفيّة، بل علينا توظيف أداة العقل لاعتماد تمشي عقلاني نواجه به تحديات عويصة التناول، في مقدمتها التشغيل وتحريك دواليب الاقتصاد لتشتغل على نسق ما قبل الثورة في مرحلة أولى ثم تقوية ذلك النسق بما يضمن خلق المزيد من مراكز العمل لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لمواطنين ملّوا ما يعانونه يوميّا من ضغوطات الارتفاع المجنون للأسعار ارتفاعا لا حول ولا قوّة لهم عليه.

  ثم إنّ التموقع اليوم خارج المجال العقلاني والانشغال بما هو عواطفيّ واعتماد نمط تفكير رجعيّ، لا يأخذ في الاعتبار متغيّرات الرّاهن، إنّما هو خطأ جسيم لا يقدمنا بل يتركنا نراوح ذات المكان. وأماّ الانصهار في تقدّميّة قاطعة مع المميزات القاعديّة لشخصيّتنا الرّوحيّة، قد تسقطنا في التكلّس العاطفي والغلظة الرّوحيّة.

  ومهما يكن فإنّ مشغلنا الأساسي اليوم وأمّهات القضايا التي يجب أن ننكبّ على معالجتها إنّما هي قضيّة التشغيل والتنمية العادلة بين أقاليم البلاد وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون وبين الفئات الاجتماعية بقدر الممكن، لتحقيق أهداف ثورة ائتمننا الشهداء عليها. أمّا السجالات بين من أصاب ومن أخطأ ومن ناشد النظام القديم ومن عارضه، ومن كان الضحيّة ومن كان الجلاّد وهل تحوّل ضحيّة الأمس إلى جلاّد اليوم، ومن اليساري ومن هواه مع اليمين، ومن هو الرجعيّ السلفي ومن هو الكافر ... كلّ هذه السجالات ثانوية اليوم ...

  وما المطلوب وقد أنجزنا ثورة، وأزحنا نمط حكم لا أخاله سينتج مثيلا له في القريب المنظور على الأقلَّ، وأرسينا أوائل الهياكل لدواليب حكم مغايرا لما كان سائدا لأكثر من نصف قرن، واخترنا نمطا ديمقراطيّا قطع مع مفهوم الواحد والأوحد ووحيد زمانه، المطلوب هو العمل أوّلا والعمل ثانيا والعمل أخيرا انطلاقا من شعور وطنيّ عميق تجسّم مرّة أولى عندما هبّ التونسيّون غداة 14 جانفي لحماية أحيائهم السكنيّة من مرتزقة النظام المحتضر، وتجسم مرة أخرى يوم 23 أكتوبر ليعبّر عن رغبة شعب عزم على صنع مصيره فهبّ لانتخاب نوّابه في المجلس الوطني التّأسيسي.
هل أنّ المطلوب هذا عزيز علينا ؟؟؟

jeudi 17 novembre 2011

حزب حركة النهضة وازدواجية الخطاب




                                  
الزمان: يوم الأحد 13 نوفمبر 2011.
المكان: مسرح الهواء الطلق بمدينة سوسة مسقط رأس حمّادي الجبالي.
المناسبة: اجتماع شعبي تعبوي حسب تعبير القيادة النهضويّة.

أهمّ الحاضرين: قياديو حركة النهضة التي منّت عليها الثورة بأن حوّلتها إلى حزب سياسي معترف به على غرار عشرات  الأحزاب الأخرى التي رأت النور بعد الثورة،  رغم القانون المانع لإنشاء أحزاب ذات مرجعيّة دينيّة والذي لم يقع إلغاؤه، ومنهم: سمير ديلو ومنية إبراهيم،  وأعضاء من المجلس التأسيسي من حركة النّهضة عن دائرة سوسة،  وعدة ضيوف آخرين من بينهم أخت من فلسطين.
تدخّل السيد حمادي الجبالي في هذا اللقاء وألقى كلمة طغى عليها الحماس والابتهاج ب "النصر" الذي بلغ حد"التخميرة" أمام أبناء مسقط رأسه الذين عاد إليهم غانما سالما  بعد سنوات الجمر الطويلة، وتمحورت كلمته حول حول عبارات مفاتيح ملفتة أهمّها :

  • اعتباره الاجتماع "لحظة ربّانيّة".
  • اعتباره المكان "منطلقا بعون اللّه لفتح القدس"، مما يدل على أوّلية المشاغل لدى الأمين العام لحزب حركة النهضة، بدل أن تعطى  الأهمية لقضايا التشغيل ومقاومة الفساد وتحقيق الكرامة التي ثار من أجلها الشعب ، و التي على أساس الوعود بتحقيقها منح أصواته لحركة حزب النهضة لتقوم بدور فاعل في المجلس التأسيسي من أجل صياغة دستور جديد للبلاد قبل كلّ شيء.
  • الانكسار أمام اللّه سبحانه وتعالى لتجنب الطغيان وهي قيمة على درجة من الأهميّة حبّذا لم يلتزم بها كل السياسيين المنتصرين منهم في الانتخابات و كذلك غير المنتصرين.
وفي الحقيقة لست من الذين يعارضون السيد حمادي الجبالي فيما ذهب إليه من اعتباره الاجتماع "لحظة ربّانيّة"،  بل أضيف فأقول أنّها "لحظة تاريخيّة"، وما أكثر اللحظات التاريخيّة  في تاريخ بلادي القريب!

بالأمس كانت لحظة تاريخيّة طبّل وزمّر لها كلّ ألوان الطيف السياسي في البلاد،  بمن فيهم زعيم حركة النهضة راشد الغنّوشي، يومها اعتلى حكم البلاد فاسد منبتّ،  وعميل مخابرات أجنبيّة أسّس نظاما – كابوسا،  أضلاعه الثلاثة هي الغباء والجشع والجهل، وأرسى دكتاتوريّة التصحر الفكري التي يلزمنا صبر أيّوب وعزيمة غاندي وإصرار مانديلاّ لتقويض بنيانها الذي شيّد  بمواد صلبة من  السطوة والاستبداد والظّلم والقهر،  وتدمير الحريّات العامة وتكميم الأفواه ونشر الفساد والأمراض الاجتماعية في الإدارة كما في مختلف الفئات الاجتماعية المعوزة أصلا ، وزرع السطحيّة والبذاءة ورداءة الذوق على كل المستويات.
واليوم لحظة تاريخيّة جديدة، فارقة، لحظة هي "إشارة ربّانيّة" لدخولنا كهوف الغيبيّات والماورائيّات والتطلّع إلى الإشارات الربّانيّة والاجتهاد في فكّ رموزها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
سترانا بعد اليوم نتبختر متلحفين عباءات مشرقية الذوق صينية الصنع ونتحلق في المساجد والزوايا نتجادل في الإشارات الربّانية .
لن نبرمج  بعد اليوم مشروعا تنمويّا،  ولن نخطط لبناء جسرأو سد أو مد طريق سيارة لربط المناطق المنعزلة ببقية أقاليم البلاد لتهيئة أسباب التنمية فيها.
لن نقدم على بناء البحيرات الجبلية لتجميع مياه الأمطار لاستعمالها عندما تنحبس الأمطار في السماء فنروي أراضينا الفلاحية لتنتج من كل الثمرات المبللة بعرق الكادحين تحت الشمس الحارقة يحصدون ويدرسون، وفي برد الشتاء القارص يداوون النباتات ويخلصون الحقول من الأعشاب الطفيلية ومن مختلف أنواع الفطريّات الضارة.
لن ننظم إحصاء لمعرفة حاجاتنا المستقبلية من المعامل والمصانع، وما  يلزمنا من مواطن شغل علينا أن نوفرها لكل من يصل إلى سوق الشغل سنويا من المتخرجين من الجامعات والمدارس العليا ومن الذين لفظتهم اللإعداديّات والمعاهد لسبب من الأسباب، ولن نضبط حاجات الأفواه الجديدة من أغذية وأدوية ولباس وتعليم وترفيه ومختلف أنواع الخدمات التي علينا توفيرها للأجيال القادمة.
لن نخطط لتحقيق رؤيتنا للمواطن التونسي بعد خمسين سنة من اليوم وحتّى بعد ذلك.
لن نجتهد لتوفير أسباب تطورنا وتقدمنا في شتى المجالات الفكرية، التقنية منها والعلميّة بالأساس.
لن نسعى إلى ربط علاقات بمراكز النفوذ العالميّة وتشبيك مصالحنا بمصالحها لنفيد ونستفيد من جلب الاستثمارات ونقل التكنولوجيا الذكيّة أساس تقدم البلدان في المستقبل المنظور.
لن نحدد إستراتيجية تنمية في الجهات لتذليل الفوارق بين أقاليم البلاد وإخراج الداخليّة منها من عزلتها وربطها بالمراكز النامية لتشع عليها وتبعث فيها تنمية تفتح آفاقا رحبة أمام المعطلين عن العمل فتكسبهم ما افتقدوه من إنسانيتهم وتشعرهم بأنّهم شركاء في هذا الوطن بنفس القدر الذي يشترك فيه غيرهم من مواطني الأقاليم الساحليّة لنحقق بذلك المعنى الصحيح للوحدة الوطنية
لن نقوم بكل هذا وغيره ما لم ترد علينا "إشارات ربّانية" ننجح في تأويلها!!!  

هذا ما يستشفّ من خطاب الأمين العام لحزب حركة النهضة بمدينة سوسة، والذي أسال أطنانا من المداد حبّرت بها مقلات عديدة ضمّنها كاتبوها استغرابهم من هكذا لخطاب ، ومتسائلين عن ازدواجية خطاب الحزب،  ومنهم من اعتبر الازدواجية إيّاها خيانة من قبل النّهضة للثقة التي أودعها النّاخبون  في أعضائها  يوم 23 أكتوبر 2011، بينما بلغ بعض الملاحظين إلى حد اتهام النهضة بتهمة "خيانة مؤتمن"، وتساءل آخرون هل أن انتصار النهضة وعد أم وعيد ؟.

في الحقيقة فإنّي أرى أنّ كل هذه التساؤلات ، وإن هي مشروعة وحتّمها خطاب حمادي الجبالي الأخير ، الذي لم تنجح تبريرات سمير ديلو في تبديد مخاوف بل فزع شريحة واسعة من الرأي العام المهتم بالشأن السياسي، فإنّ التساؤلات إيّاها جاءت متأخّرة نسبيّا، لأنّ ازدواجية الخطاب النهضوى ليست بالأمر الجديد، بل إنّها كانت واقعا ملموسا منذ ثمانينات القرن الماضي، وتتنزّل ضمن إستراتيجية كلاسيكيّة في عالم السياسة، تعتمد على شقين، الأوّل يظهر بمظهر الاعتدال والثاني يتخذ مظهرا متصلّبا أو متطرّفا. وهذه ظاهرة طبيعيّة تفرزها كل الحركات دينيّة كانت أو سياسيّة، وتنتهي في أغلب الأحيان بتصارع الشقين وبانسحاب أحد هما.

نذكّر في هذا السياق بما حدث في تونس في صلب الحزب الحر الدستوري التونسي منذ سنة 1932 إثر مؤتمر نهج الجبل الذي انتهي بالتحاق مجموعة من الشبان باللجنة التنفيذيّة وطرحهم رؤية جديدة للعمل الوطني لم تجد هوى في نفوس الآباء المؤسّسين للحزب، فنتج عن ذلك انسلاخ الديوان السياسي من الحزب الأم وتحوّله لاحقا إلى حزب جديد نافس زمنا طويلا " الغرانطة" و" الروس المربّطة" حسب تعبير الحبيب بورقيبة، من أمثال الشيخ عبد العزيز الثعالبي.

إلاّ أنّ ما حدث في صلب حركة النهضة التي حولتها الثورة إلى حزب سياسي ليس تنافسا بين شقين، بل تكامل في توزيع الأدوار بين شقّين يتبنّى الأوّل الاعتدال ظاهريّا، ويظهر الثاني بمظهر المتصلّب، يعبر عن مواقف قويّة تزلزل الرأي العام ، وعندها يأتي  دور الشق المعتدل ليتدخل للتبرير والاعتذار إن لزم الأمر لتدارك ما حصل من تأويل غير مصيب أو إخراج فقرة من خطاب من سياقها الذي وردت فيه !!!
إنّه سيناريو محبك، انطلى على البعض، لكن يبدو أنّ الكثير من المهتمّين بالشأن العام في البلاد بدأوا ينتبهون لهذه الظاهرة ويلفتون الأنظار إليها ويحذرون من خطورتها على مصداقيّة العمل السياسي.
لقد أشرت شخصيّا إلى ذلك من خلال المقالات العديدة التي نشرتها على الشبكة العنكبوتيّة .
وللتأكيد على ازدواجية الخطاب النهضوي أقدّم بعض المؤشرات على ذلك :

  • الاعتداءات بماء النار( ماء الفرق)على بعض العناصر من شعبة باب سويقة الدستوريّة في ثمانينات القرن الماضي وتبرأ أحد قيادي النهضة آنذاك الشيخ عبد الفتاح مورو من العمليّة ومطالبة الحركة لاحقا بالاعتذار وبإصدار"كتاب أبيض" تفسر فيه ما جرى.
  • الاعتداء على الشيخ الورغي، إمام جامع الكرم الشرقي، ذلك الاعتداء الذي كان سببا في وفاته لاحقا، رغم إدعاء الحركة بأنّها حركة دعويّة سلميّة.
  • التظاهر أمام قاعة السينما أفريكارت بتونس العاصمة لمنع عرض فيلم " لا ربّي لا سيدي" والذي أصبح فيما بعد يحمل عنوان" لائكيّة إن شاء اللّه"، وتدمير الجزء      الخارجي من قاعة العرض!
  • التظاهر أمام ماخور مدينة تونس ومطالبة السلطات بإغلاقه والاعتداء على العاملات فيه.
  • التظاهر أمام البيعة اليهوديّة بالعاصمة والمطالبة بترحيل اليهود من تونس!!!
  • تصريح السيد راشد الغنّوشي في شهر أوت 2011 على القناة التلفزيّة المصريّة الأولى ، في برنامج "صباح الخير"، حول أمل كلّ الحركات الإسلاميّة في العالم العربي والمتعلّق بإرساء نظام الخلافة الإسلاميّة، وهذا في الحقيقة ما تعكسه مضامين الكتب التي حبّرها الرجل، وهو تصريح لا يتناقض البتّة مع ما قاله حمادي الجبالي في مدينة سوسة يوم 13نوفمبر 2011. ولقد هبّت النهضة هبّت رجل واحد وقتها  مدعية أنّ كلام الشيخ الرئيس أخرج من سياقه وأنّه لم يقصد ما تبادر إلى فهم القارئ !!!
  • تصريح سعاد عبد الرحيم لإذاعة منتي كارلو بخصوص الأمهات العازبات وإسراع النهضة بتبرير ما أعتبره البعض موقفا سلبيّا  واعتداء على الحريّات العامة ومسّ من كرامة من زلّت يهن القدم أو من تصرّفن عن اختيار شخصي أو من تعرّضن للاغتصاب ووضعن حملهن بعد ذلك، وما أكثر عمليّات الاغتصاب في بلادنا!!!
  • تصريح حمادي الجبالي الأخير المتعلّق بإقامة خلافة راشدة سادسة بتونس، التي منها" بدأت الثورة العربيّة وفيها انتصر الشعب التونسي ومنها الفتح بعون اللّه سبحانه"، ثم إسراع النهضة لمّا أدركت خطورة الزلّة التي وقع فيها  أمينها العام الذي رشّحته لتولّي شؤون البلاد في الفترة القادمة، للإدّعاء بأنّ الفقرة المتعلّقة بالخلافة السادسة قد أخرجت من سياقها العام( كالعادة) لغاية في نفس ... أعداء النهضة.إلاّ أن تبرير سمير ديلو  هذه المرّة لم يقنع أحدا ولا أخاله أقنع أعضاء النهضة حتّى.
حمادي الجبالي يلهم إبداع شباب الفايسبوك  


وهكذا يظهر توزيع  الأدوار بين مختلف أجنحة حزب حركة النهضة، والذي يبقى ما يسمّى بحزب  التحرير، حسب إعتقادي أحد أجنحته، بل ذراعه العسكريّة إلى أن يجدّ  ما يقنعني بعكس ذلك.
والآن ماذا عساي أقول؟
هل بهذه العقليّة وبهذا النمط من التفكير الأحول ينوي حمادي الجبالي قيادة الحكومة الجديدة؟

وهل بهذا النمط من السلوك سيقود المهندس الذي قضى عشر سنوات في الحبس الانفرادي بكلّ ما يترتّب عن ذلك من انعكاسات سلبية على توازنه النفسي، سيقود البلاد ويخطط لمستقبل أبنائها من النهضويين ومن غير النهضويين؟
أين ذاك الخطاب الذي اعتمده قياديو النهضة في حملتهم الانتخابية والذي أكّدوا فيه على التزامهم بالحفاظ على الخط السياسي المعتدل والمنفتح؟ أم تراه كان من قبيل " كلام الليل المدهون بالزبدة، كي يطلع عليه الصباح يذوب"؟
أين وعودهم بعدم تغيير نمط عيش التونسي، أم تراه من قبيل ذر الرماد في العيون، أو كما يقال باللهجة الشعبيّة التونسيّة" ضربان لغة "؟
أين خطابهم ذو المضمون الحداثي الذي دفعني في خضمّ الحملة الانتخابية إلى  التساؤل عن الجدوى من تمسّك حزب النهضة بصفة الحزب الدّيني؟

Leur discours durant la campagne électorale était trop beau pour être vrai

وهل من الحكمة أن يقود السياسة التونسيّة من ينشغل بتأويل الإشارات الربّانيّة ؟

لذا لا غرابة أن يسعى إلى إصدار قانون يشرّع  الانتصاب الفوضوي للعرّافين والشوّافين والمعالجين الروحانيّين والدقازات والدقازين ، وأن يحوّل ساحة القصبة التي شهدت إعتصامين تاريخيين إلى ساحة شبيهة بساحة جامع الفنا بمرّاكش الحمراء!!!

لا يا سادتي أعضاء حزب حركة النهضة يرحمكم اللّه، لا يا سيدي راشد الغنّوشي، ولا يا سيّدي حمّادي الجبالي، لا وألف لا، ليس من أجل هذا منحكم 1500649 مواطن أصواتهم  !!!

لقد منحوكم أصواتهم انطلاقا مما صرّحتم به في حملتكم الانتخابية.
إن تراجعكم  اليوم عن وعودكم، وتطبيقكم معنا سياسة "القطرة قطرة" لتسريب حقيقة ما أنتم به متمسكون ولستم على استعداد لا  للتخلي عنه ، ولا  لتحديث آرائكم فيما يعد  من مكتسبات الشعب، دليل على أنّكم نكثتم العهد مما يجعل جانبا هاما ممن صوّتوا لكم في حلّ من العهد الأخلاقي الذي أبرموه معكم من خلال منحكم أصواتهم. لقد قمتم بفسخ العقد من طرف واحد بتخلّيكم عن ما تم الاتفاق عليه بينكم وبين ناخبيكم!

لذا فإنّ حزب حركة النهضة يجد نفسه اليوم من خلال ما صرّح به أعضاؤه في وضع لا قانوني ، وبالتالي فكل من يرى من الذين صوّتوا للنهضة أن الحزب لم يحترم وعودهم أن يقاضوه بتهمة الخيانة ما لم يتدارك قادة الحزب أمرهم ويثبتوا أنّهم في حجم القادة السياسيين الكبار.


لا أريد أن أختم من غير أن أعبّر عن تخوفي من تحول تونس من بلد الاعتدال والرصانة على بلد تأويل الإشارات الربّانيّة.

ومن بلد الحوار المعتمد على قوّة الحجة إلى بلد التعسّف على آراء الآخرين المختلفين والمعتمد على حجّة القوّة..

ومن بلد الاختلاط بين الجنسين إلى بلد التقوقع والانغلاق المولّد لشتّى أنواع العقد النفسيّة وبلد تسجن المرأة فيه وراء عباءات قاتمة اللّون رديئة الذوق.

ومن بلد العلم والعقلانيّة إلى بلد الخرافات والأساطير الغارقة في أعماق عصور الجهل، بلد ينتصب فيه العرّافون مكان الأطبّاء والمعالجين النفسانييّن.

ومن بلد المواطنين والمواطنة إلى بلد الرعايا المسبّحين بحمد الخليفة والطّائعين له طاعة عمياء بدون محاسبة ومجادلة وبدون أيّ شكل من أشكال النقد البنّاء.

ومن بلد الرأي الحرّ إلى بلد الرأي المقيّد بقوانين ما أنزل اللّه بها من سلطان.

ومن بلد الجامعات المشتغلة كخلايا النحل إلى بلد الزوايا التي تعجّ بالمريدين بمناسبات " الزردات" السنويّة .

ومن بلد العلوم العقليّة إلى بلد العلوم النقليّة.

 كما أنّي لا أريد أن أختم دون أن أستسمح الشاعرة ليلى بن رجب نقل جزء مما نشرته والذي تقول فيه :
ثورتنا ثورة شباب
لا نقاب لا حجاب
ثورتنا ثورة كرامة
لا خلافة لا عمامة
ثورتنا ثورة شعبيّة
موشي ع القدرة الجنسيّة.
ثورتنا ع المساواة
موشي تعدد زوجات.

وأخيرا أقول أنّ أخشى ما أخشاه أن نكون اجتثثنا رأس بصل فنبت مكانه نبتة... ثوم!!!


dimanche 6 novembre 2011

نماذج من تعليقات النّاخبين بأحد مراكز الانتخابات بضاحية العوينة



ناخبة تونسية في فرنسا : الوطنية ليست حكراً على المقيمين في تونس  

كلّفت يوم 23 أكتوبر2011 من قبل الهيئة العليا الفرعيّة للانتخابات، تونس2، برئاسة مركز ومكتب انتخابات بإحدى المدارس الابتدائية بضاحية العوينة. وبحكم تنقّلي بين النّاخبين للسّهر على حسن تنظيم العملية، والإشراف على صندوق الاقتراع في إحدى قاعات المركز من ناحية أخرى، سجّلت تعليقات العديد من النّاخبين قبل وبعد قيامهم بواجب الانتخاب. فيما يلي البعض من هذه التعليقات :

  • ناخبة في العقد الخامس : "إن شاء اللّه تونس ديما شايخة".
  • ناخبة في العقد الرابع : "تحيا تونس".
  • أم في الثلاثينات تحمل رضيعها بين يديها : "ربّي معاكم".
  • امرأة تجاوزت العشرين من عمرها : "يعطيكم الصحّة وإن شاء اللّه يكون ربّي معاكم".
  • ناخبة في العقد الخامس : "هذا نهار عيد ربّي يدوم علينا الأعياد".
  • ناخب في الأربعينات من العمر مصحوب بزوجته، أراد أن يلتقط لها صورة وهي تضع ورقة الانتخاب في الصندوق، منعه رئيس المكتب من ذلك تطبيقا للتعليمات التي تلقّاها، علّق بقوله : "Ce n'est pas grave, c'est un évènement tant "attendu  

  • ناخب في الستينات من عمره : "كم أنا سعيد بانتمائي لتونس".
  • امرأة ملاحظة معتمدة من قبل جمعيّة حقوقيّة : "ما أحلى تونس بيكم".
  • شيخ في السبعين من عمره : "بارك اللّه فيكم".
  • ناخبة في منتصف الثلاثينات من عمرها : "شيء يعمل الكيف".
  • كهل في الأربعينات : "عاشت تونس".
  • ناخبة محجّبة في العقد الثالث : "اللّهم لا توكّل علينا من لا يرحمنا".
  • عجوز تجاوزت الثمانين من عمرها، تقول زوجة ابنها التي اصطحبتها أنّها كانت من المناضلات ضد الاستعمار، قالت : "الحمد للّه على ها النّهار".
  • ناخب في الأربعينات : "يعطيكم الصحّة وربّي يعينكم".
  • ناخبة في الخمسينات من العمر: "ربّي يوفّق تونس".
  • ناخبة في الستّينات : "إن شاء اللّه ربّي معانا ومع تونس".
  • عجوز تمشي بصعوبة قالت بعد أن أودعت بطاقتها في الصندوق بعناء واضح : "إن شاء اللّه بالخير لتونس".



و حاضر زادة في الإنتخابات الجاية إن شاالله 


هذه بعض التعليقات التي أردف بها أصحابها عمليّة الاقتراع.

وتبقى الإشارة إلى أنّ :

  •        عديد الآباء والأمّهات اصطحبوا معهم أبناءهم في جوّ من الفرحةUne   atmosphère bon enfant. وساهم الأطفال بطريقتهم الخاصة وذلك بغمس سبّاباتهم اليسرى في الحبر الانتخابي وبالمشاركة في وضع بطاقة الانتخاب في الصندوق. لا أعتقد أنّ هؤلاء الأطفال سيتخلّون مستقبلا عن حقّهم الانتخابي.

  •        عدد من الأطفال ومن الشباب أقبلوا على مركز الاقتراع مرتدين.. العلم المفدّى!
ماذا ننتظر من هكذا شباب؟ كلّ الخير بالتأكيد.

  •        شبّان خرجوا من مكتب الانتخاب وانطلقوا يغنّون:!!! On a voté 
  •        مواطنون خارج المركز أطلقوا العنان لمنبّهات سياراتهم تعبيرا عن فرحتهم.

وكلّ انتخابات وتونس بخير.



ما أروعك يا تونس يوم الانتخابات !


تواجدت صبيحة الثالث والعشرين من شهر أكتوبر منذ السّاعة السادسة بمركز الانتخابات مصحوبا برؤساء وأعضاء المكاتب الانتخابية بإحدى المدارس الابتدائية بضاحية العوينة. وبعد معاينة المكاتب والتعرّف على الأعضاء والاطمئنان على سير الأعمال التمهيديّة في مناخ من التوافق بين الأعضاء المكلّفين بتوفير أفضل الظروف لسير العمليّة الانتخابية على أحسن وجه، حلّت الساعة السابعة صباحا فتوجّهت بمعيّة ملازم من الجيش الوطني نحو باب المدرسة آمرا بفتحه و معانا عن بداية عملية الانتخاب. في نفس الوقت ألقيت نظرة سريعة على على الشارع فلم أصدّق ما رأيت! طابور طويل من المواطنين ، واقفين بكل ما في كلمة النّظام والإنظباط من معاني ، ينتظرون الإذن لهم بالدخول إلى باحة المدرسة كأنّهم تلاميذ صغار في السنة الأولى يتلهّفون لاكتشاف فضاء المدرسة وانطلاق السنة الدراسيّة. يا له من مشهد رائع قد لا يدرك معانيه غير المربّين!!!
انتظمت الصفوف أمام القاعات تلقائيّا. فكنت ترى الشيخ والعجوز ومن تبدو عليه ملامح التعب، والمرأة الحامل والمعوّق ، كلّ هؤلاء يقفون على رأس الطابور بتوافق بين الجميع.
إنّه مشهد ينمّ عن تضامن التونسييّن وعن إيثارهم لذوي الحاجات منهم... حبّهم لبعضهم البعض، ذلك الشعور النبيل الذي خلنا أنفسنا قد افتقدناه إلى الأبد.
كنت بين الفينة والأخرى أسترق النظر من خلال نافذة القاعة إلى الساحة لأعاين ما يجري بها، فأرى جموعا من البشر يتزايد عددها بمرور السّاعات.


إنّه  يوم عظيم في تاريخ تونس . الكلّ يأتي عن طواعيّة ... الكلّ ينتظر دوره للاقتراع بكلّ هدوء وبكلّ سلوك حضاريّ.

لم ألاحظ من السابعة صباحا إلى السابعة مساء ما من شأنه أن عكّر صفو العمليّة الانتخابية. أقول هذا للتّاريخ، واللّه على ما أقول شهيد. لا أحد حاول السطو على مكان غيره في الطابور، لا تدافع ولا تسابق... أنتفت اليوم أنانيّة التونسي ... أختفي تضخّم الأنا فيه والذي كنّا نشاهده حتّى عند الصعود إلى حافلات النقل العمومي... الصّفراء.
ما لفت انتباهي وجود وزيرين في الحكومة الانتقالية (لا أحبّ كلمة المؤقّتة) في مركز الانتخابات، وزير الشباب والرياضة والطفولة ووزير الشؤون الدّينيّة، يقفان في الطابور ينتظر كلّ منهما دوره مثل بقيّة الناخبين.
مشهد عاد بي إلى نهاية الستّينات، يوم كان وزير الخارجيّة وابن أوّل رئيس لتونس المستقلّة ، رحمهما اللّه يقف في الطابور لاقتناء تذكرة الدخول لحفل موسيقيّ في رحاب مسرح قرطاج الأثري... كنّا وقتها في سنوات الشباب الأولى نرقب العمليّة بانبهار ونحاول إدراك ما كانت تبعث به إلينا من رسائل مشفرة مضمونها أن احترامك للآخر يعكس احترامك لذاتك وأن لا خير في بلد لا يكون فيه النظام سائدا.

إنّها  ذكريات جميلة وإن كانت بعيدة في الزّمن . ذكريات الزمن الجميل كما يقول الفرنسيّون!!!
هكذا نريد أن تكون تونس...أكثر روعة وأكثر جمالا.
تواصلت عمليّة الاقتراع من السابعة صباحا إلى السّابعة مساء بدون انقطاع، مع انخفاض طفيف لنسق الناخبين بداية من الساعة السادسة بعد الزّوال.
اتجهت صوب باب المدرسة يصحبني ذات الملازم من الجيش الوطني ، شاب يتّقد حماسا وإنظباطا وعلى غاية من اللّطف، وضع نفسه وفرقة الضباط التي يقودها على ذمّة رئيس المركز لتيسير عمله ولتأمين مستلزمات العمليّة الانتخابية، وأعلنت عن انتهاء الوقت المخصص للانتخابات وأمرت بإغلاق باب المدرسة. وبذلك انتهت العمليّة بسلام.
لكن السّؤال الذي على كل ذي عقل أن يطرحه بعد كلّ عمليّة لتقويمها، هو ما هي الاستنتاجات التي نخرج بها من العمليّة الانتخابية؟

  • ظمأ التّونسييّن للمشاركة في الشّأن السياسي ، تلك المشاركة  التي صودرت منهم عقودا طويلة لتقتصر على المطبّلين والمهلّلين ولحّاسي أحذية أسيادهم والمسبّحين باسم رئيس لم نفهم إلى يوم النّاس هذا كيف ساقته " الأقدار" إلى أعلى المناصب السياسيّة في الدّولة . عقود طويلة قامت فيها فئات من محترفي التزوير وسلب الحريّات والضحك على الذقون بأدوار البطولة في أردئ مسرحيّة دراميّة عرفها التاريخ السياسي التونسي منذ عهد الأمان في 1857، لا بل منذ دستور قرطاج قرونا طويلة قبل ميلاد السيد المسيح، ذلك الدستور الذي أشاد به الفيلسوف الإغريقي أرسطو.

  • التجييش الذاتي للمواطن L'auto-mobilisation du citoyen ، دليل على حرص  ذلك المواطن على تبليغ رسالة يؤكّد من خلالها على أنّه حاضر هنا ومن الآن فصاعدا لاختيار ممثّليه في مختلف المجالس   ومراقبتهم ومتابعة مردودهم.

  • خشية المواطن من الالتفاف على ثورة أضرم نيرانها أبناؤه وقدّموا أجسادهم وقودا لها، خشيته من إفتكاكها من قبل محترفي السياسة وبائعي الأوهام للشعب والساعين بكلّ ما أوتوا من جهد ومن مساعدات محليّة و... أجنبيّة  إلى تحويل الثورة عن مسارها وعن مطالبها الأساسيّة : الحريّة، الكرامة، العدالة، المساواة ...

  • رغبة المواطن في التمسّك بحقّه في المعارضة والإحنجاج الذين أطاحا بنظام متجبّر، وتمسّكه بما يمليه عليه واجب المواطنة التي تحوّلت إلى سلطة خامسة!

هذه بعض الاستنتاجات التي أمكنني الخروج بها من العمليّة الانتخابية، وهي لعمري استنتاجات تطمئنني على مستقبل بلد يصرّ مواطنوه، شبّانا وكهولا وشيوخا على الإسهام في اختيار من سيتولّى شؤونهم السياسيّة ويسيّرها تحت رقابتهم، وفي كلمة يصرّون على كتابة تاريخهم وتقرير مصيرهم وعدم تركه بين أيدي العابثين وأيدي ... القدر الذي يراه البعض محتوما... ولا نراه كذلك.

ومهما كانت نتائج الانتخابات، ومهما كانت الأحزاب و التكتّلات أو القائمات المستقلّة التي ستتقدم فيها عن غيرها،  فإنّ المؤكّد أنّ تونس الغد لن تشبه أبدا تونس الأمس في شيء!.

  

على هامش انتخابات 23 أكتوبر 2011 بإحدى ضواحي مدينة تونس الشماليّة : ضاحية العوينة


كنيسة العوينة سابقاً 

مدينة العوينة، هذه الضاحية الشماليّة الجميلة لمدينة تونس ، والواقعة في مفترق الطرق بين ضاحيتي سيدي أبي سعيد والمرسى الشهيرتين من جهة،  وضواحي حلق الوادي والكرم وقرطاج من جهة ثانية،  ومدن سكرة و عاصمة الورد مدينة أريانة ذات الأصول الأندلسيّة من جهة ثالثة، والمتموقعة بين ميناءين جويّ وبحريّ، هذه الضاحية التي ترددت طويلا بين صبغتي الريفيّة والحضريّة ، والمنصهرة في الثانية دون التخلّي  نهائيّا عن الأولى التي ما زال الحنين يشدّها إليها، والمتحضّرة  بنسق سريع والمتحوّلة  إلى  أحد أهمّ مراكز الإشعاع الحضري  الدائرة في فلك العاصمة، شهدت كمثيلاتها من المدن التونسيّة بأحيائها الراقية والمتوسّطة والشّعبيّة ، حدثا تاريخيّا يوم 23 أكتوبر 2011، بمناسبة تنظيم انتخابات أعضاء المجلس التّأسيسي، يذكّرك بأيّام أعيادنا البهيجة .

هذا الحدث سيبقى منقوشا في ذاكرة سكّان الضّاحية، شارك فيه المواطنون فرادى وجماعات... عائلات بأكملها تنقّلت إلى مراكز الاقتراع كما تتنقّل إلى أحد المنتزهات العائليّة للترفّه.

علت علامات الفرح والابتهاج وجوه المقبلين عن طواعيّة للمشاركة في الحدث، ولم تثنهم ساعات الانتظار الطويلة في الطوابير عن القيام بواجبهم لإيمانه الرّاسخ بأنّهم ينحتون بأصابعهم مستقبل أبنائهم ومستقبل بلادهم.

قال لي أحد النّاخبين بعد أن سألته هل أنّ كلّ شيء على ما يرام:"أكثر ما أكره في هذه الحياة الوقوف في الطوابير، يشعرني ذلك بالاختناق، يحبطني، لا أحتمل الانتظار حتّى وإن كان من أجل اقتناء رغيف خبز. أمّا اليوم فإنّي أتمنّى تخليد هذا الانتظار اللذيذ، هذه اللّحظة التّاريخيّة التي انتظرتها طويلا و"هرمت" وأنا أنتظر  أن أعيشها ولو مرّة واحدة في حياتي، لذا فإنّي أقف في الطابور دون ملل هذه المرّة وأنتظر دوري كغيري من المواطنين، لا بل إنّي مستعدّ للتّفويت في دوري للأخت الحامل وللأب الشيخ وللأم العجوز .

للّه كم هو لذيذ إيثار التونسي لغيره.و ما أجمل هذا التضامن بين أبناء بلاد أعتزّ اليوم أكثر من قبل بالانتماء إليها.
إنّي لا أكاد أصدّق بأنّا عشنا عقودا طويلة محرومين من هذا الشعور النبيل.

لقد أصبح الواحد منّا متمسّكا ببلاده أكثر من قبل وأكثر قربا من مواطنيه، يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، يتألّم لوجعهم ويقاسمهم أمالهم . أليس هذا وجه من أوجه المواطنة؟

ومهما تكن النتائج غدا، ومهما كان المتحصّل  على أوفر نصيب من أصوات النّاخبين، فإنّ المهم أننا حقّقنا مكاسب اجتماعية في مقدمتها هذا الشعور بالانتماء إلى أمّ واحدة نرتوي كلّنا من ثدييها، و لا تصد أيّا منّا مهما اقترف في حقّها من حماقات، والرغبة في العيش في هذا الفضاء الرحب الذي يضمّنا جميعا ولا يدّعي أيّ منّا أحقيّة امتلاكه بمفرده، مهما اختلفت آراؤنا وتعددت مشاربنا وتضاربت قناعاتنا واختلفت مرجعيّاتنا الفكريّة . المهم أن تكون كل هذه المشاعر أساس مواطنتنا.

إنّ سلطة المواطنة قد أضحت اليوم السلطة الشرعيّة الخامسة، أفرزتها السلطة الانتخابية التي نتمنّى أن تسبح دوما في مياه الوفاق المتدفقة آمالا وطموحات فيّاضة ورغبة في بناء تونس الجديدة ، أم البلدان وسيّدة الأقطار ومنارة تهدي بنورها الوضّاء كل راغب في السير على درب التحرر من الطغيان وكل توّاق إلى الأفضل.
عشت يا زهرة الكون عبقة دوما وطيّبة الشذى...