مدرسة أثينا - رافائيل |
كم نحن في حاجة ملحّة إلى جدال للأفكار. جدال لم نتعوّده في الحقيقة، لا خلال السنوات الثلاثة والعشرين الأخيرة فحسب، بل منذ الاستقلال و تحديدا منذ سنوات قليلة بعد الاستقلال. أي منذ اكتشاف المحاولة الانقلابية التي أعد لها في بداية الستينات من القرن المنصرم مجموعة من خيرة التونسيين، من بقايا فلاّقة من بينهم الأزهر الشرايطي، ومن علماء دين، ومن عناصر تنتمي إلى سلك الحرس الرئاسي من بينهم كبيّر المحرزي (الذي تزوج ابنه لاحقا من فتاة هي... واحدة من أخوات زوجة الرئيس الهارب، ليلى الطرابلسي، التي كانت تصفها وسائل الإعلام إلى غاية 13 جانفي 2011 بالسيدة الفاضلة، وبسيّدة تونس الأولى، ولو استمر الوضع على ما كان عليه بضعة أشهر لأصبحت رئيسة البلاد... ونكون بذلك من المتبجحين بكوننا البلد العربي الإسلامي الأول الذي تترأسه امرأة، كما نتبجح بأننا أول دولة عربية وضعت لنفسها دستورا وهو دستور 1861)، والتي انتهت بإعدام ثلاثة عشر تونسيّا، وبسجن عدد آخر سنوات عديدة. ومنهم من شارك بعد اطلاق سراحه في عمليّة قفصة التي خططت لها المخابرات اللّيبية، وتلك قضيّة أخرى.
منذ ذلك الوقت منع رئيس تونس المستقلّة الحبيب بورقيبة الأحزاب محوّلا البلاد إلى دولة الحزب الواحد، داعيا المعارضة السياسية إلى الانخراط في الحزب الدستوري والذي سيصبح لاحقا يحمل اسم الحزب الاشتراكي الدستوري التونسي والذي أدخل البلاد في التجربة التعاضديّة منذ 1964 قبل أن تنتهي في سبتمبر 1969. لينتهي معها حلم لذيذ آمن به الشباب يومها، ومنّوا النفس بتحول البلاد إلى دولة تسودها المساواة والعدالة الاجتماعية. ولكن هيهات!!!
منذ ذلك الوقت لم نعد نسمع في تونس غير صوت واحد، هو صوت المجاهد الأكبر، والرئيس الأوحد، والرياضي الأوّل والصحافي الأول، و و و و .... إلى أن انشرخت الأسطوانة ومججنا الأغنية وأصبحنا أضحوكة العالم. كيف لا وقد أصبح الوزراء عندنا يعيّنون في الصباح، لكن ما أن ينتصف النهار حتى يعلن في نشرة أخبار الواحدة بعد الزوال عن إلغاء ذلك التعيين وتعويضه بتعيين جديد؟
هذه حالة من الفوضى السياسية التي عاشها التونسيّون في منتصف ثمانينات القرن العشرين، إلى أن جاء التحوّل الذي قيل وقتئذ أنّه مبارك، على ضوء البيان الذي قدم والرسائل الأولى التي بعث بها ابن علي في اليوم الأول من التحوّل إلى التونسيّين ومنها :
- عند خروجه من مقر الوزارة الأولى ظهر اليوم الأول نادى الشباب بحياته، فأجابهم : لا تقولوا يحي ابن علي بل قولوا تحي تونس.
- قبل دخوله مقرّ مجلس الأمة تقدم لتحيّة العلم المفدى، وكان العلم قبل ذلك ينكّس للرئيس، كأنّه هو الذي يحيي الرئيس وليس العكس، إذ ببن علي يتقدم نحو راية البلاد ليرفعها قائلا بالحرف الواحد : لن ينحني علم البلاد مستقبلا لأيّ كان مهما كانت صفته!!!
يا اللّه ما هذا الذي يحدث في بلاد أوشكنا على اليأس من مستقبل أفضل نعيشه فيها ولو ليوم واحد قبل أن نوارى التراب؟
أفي حلم نحن أم في يقظة؟
تساؤلات عديدة خامرتنا، لكن كلنا، و بدون استثناء، ويكذب من يقول عكس ذلك، كلنا آمننا بأن غدنا سيكون أفضل من أمسنا.
لكن الحقيقة وضعت حدا للحلم، سفّهته، وكشفت عن وجه نظام قبيح قبيح قبيح، مقرف، يدفع إلى الغثيان من شدة قبحه ومن كثرة ما زرع من رداءة على كل المستويات، وما نشر من تكالب على الفرص، حلالها وحرامها، ولعلّ حرامها أكثر من حلالها، وما شجع عليه من انتهازية ومحسوبية، ومن وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، فتعطلت بذلك مصالح الناس، وتعطلت مسيرة الوطن، ونخرت الأمراض الفتاكة الإدارة والسياسة والتعليم ...
يا اللّه كم يلزمنا من الوقت لنعيد الأمور إلى نصابها؟ كم يلزمنا من أطنان الجهد لإصلاح الأوضاع الفاسدة؟
كم يلزمنا من قناطير تفيض بحب خالص لهذا الوطن لكي نعيد الأمور إلى الأفضل؟
كان اللّه في عوننا.
وكان الصدق في عوننا.
وكانت العزيمة الصادقة للنهوض بهذا الوطن في عوننا.
وكانت الحرية التي نتوق إلى إرسائها في هذه الربوع في عوننا.
لكن لتحقيق كل ذلك ينبغي علينا أن نكون كلّنا في عون بعضنا البعض.
لا يتحقق ذلك إلاّ إذا فتحنا باب جدال الأفكار على مصراعيه، دون حواجز، وإذا آمننا إيمانا راسخا بأن حاجتنا إلى حرية الفكر والتعبير كحاجتنا إلى الخبز والماء والهواء الذي نستنشق.
إن جدال الأفكار Un débat d'idées هو الضمان لتحقيق تقدم هذه الأمة. هو الضامن لمعالجة مساوئ تراكمت طيلة نصف قرن.
لقد عشنا نصف قرن وأزيد في غياهب تصحر فكري، غذاه تعتيم إعلامي رهيب صاغه من تربص في مخابرات ألمانيا الشرقية وروسيا الستالينية ورومانيا التشاوشيسكيّة... وزاد عليه قليلا بما تفتقت عليه عبقرية التونسي بين جدران أردء وزارة في أجمل شارع من شوارع العاصمة... حتى أضحى الواحد منا يخشى الحديث مع ... نفسه!!!.
ورغم ذلك لم ينقطع عطاء هذا الشعب. لم ينقطع رغم التضييفات، ورغم مسرحيّات محكمة أمن الدولة، وسيناريوهات المحكمة العسكريّة. لم ينقطع لا في الجامعات، حيث كانت الهياكل الجامعية المؤقتة تعقد الجلسات العامة بشكل دوري، لمناقشة أوضاع البلاد والعباد، ولا في أوساط المثقفين الذين هرول المصلحيّون منهم إلى الارتماء في أحضان نظام ألقى لهم بعظم يمتصّون ما فيه من بقايا نخاع، ولا في السجون أين ولد أدب لا أروع منه، لم تتناوله الدراسات بما يستحق بعد، ونشر قبل الثورة حتّى، مثل كتاب CRISTAL لجلبار نقاش (الذي أعتبره تونسيا أكثر من كثير من التونسيين دون أن أعطي لأيّ كان درسا في الوطنيّة لأني ببساطة غير مؤهل لذلك باعتبار أنه لم توجد آلة بعد يمكن أن نقيس بها درجة وطنية شخص ما وتصنيفه ضمن الدرجة الأولى أو الدرجة الثانية من الوطنيّة) والحبس كذّاب والحي يروّح لفتحي بلحاج يحي، وبعد الثورة مثل مناضل رغم أنفه لعبد الغفار المدوري، وبرج الرومي لسمبر ساسي...
واليوم، وبعد أن انجلت الغيوم ومنح الشباب الأبي، سليل حنبعل، وعلي بن غذاهم، والرائد ين البجاوي والفرشيشي، للشعب فرصة حررته، ليس من حق أي كان أن نترك هذه الفرصة تتسرب من بين أصابع أيدينا، دون أن نحسن توظيفها في مناقشة أوضاعنا بكل موضوعيّة، وطرح أفكارنا مهما بلغت من التضارب و التناقض، في مناخ من الاحترام لبعضنا البعض دون تجريم أوتكفير لأيّ كان.
هذا هو مناخ الجدال الذي نريد.
لا نريد أن يفرض أي كان رأيه على الآخرين. نريد أن يكون لكل واحد منا فرصة لطرح أفكاره بكل حرية، وأن يستند في ذلك إلى قوّة الحجة لا إلى حجة القوة.
لأنه في نهاية المطاف لا أحد منا يمتلك الحقيقة المطلقة، و لأنّ الحريّة نسبيّة أو لا تكون.
نريد أن نتجادل جدال أفكار في احترام متبادل وبكل سلوك حضاري. ذات السلوك الذي قطعنا به رأس الأفعى.
فهل يحق لنا اليوم، وقد أصبحنا محط أنظار العالم أن نسلك سلوكا همجيّا؟؟؟
لكن في مستوى ما أصبحنا عليه من رواد الثورة العصريّة. التاريخ سيذكر لنا ذلك. لذا هلاّ سعينا إلى التموقع في مستوى الحدث، واعتمدنا الكلمة الطيبة، ودعا كل منّا إلى أفكاره بالحكمة والموعظة الحسنة. هل يعزّ على شباب تونس ذلك ؟؟؟
مصدر الصورة : http://www.kulturica.com/athenes.htm
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire