vendredi 23 décembre 2011

هل أتاك حديث الابنة والأب؟



   من المسلّمات عند العلماء والعارفين أنّ العاقل من يرفض العيش "في جلباب أبيه" ليرسم لنفسه طريقا يسلكها تحقيقا لذاته وبناء لشخصيّة متفرّدة تميّزه عن الآخرين حتّى وإن كانوا من ذوي القربى.وتتأسّس تلك الشخصيّة شيئا فشيئا بما يراكمه المرء  من تجارب وما ينهله من ينابيع الفكر الإنساني والالتقاء بمن تنوعت آراؤهم واتجاهاتهم الفكريّة والسياسيّة.وفي هذا الإطار تتنزّل محاولتنا للحفر في فكر الشيخ راشد الغنّوشي من خلال تصريحاته لوسائل الإعلام من ناحية ومقارنتها بآراء كريمته الواردة في كتاباتها من ناحية أخرى.

   ولئن يبدو من تصريحات الشيخ التي يدلي بها خارج البلاد، أنّه غارق في السلفيّة والرجعيّة الوهابيّة من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، على عكس ما يسعى إلى تسويقه في تونس من دعوة إلى تأسيس مجتمع مدني تحترم فيه الحريات العامة كحرية التعبير وحرية التفكير وحرية الممارسة الدينية وحريّة المظهر الخارجي، وتدعيم مكانة المرأة في المجتمع من خلال مراجعة مجلّة الأحوال الشخصيّة في اتجاه تجويد مضمونها، يتمظهر انصهاره في السلفيّة أخيرا في تمجيده لأحد أكبر الغلاة الوهابيّين، الشيخ عبد اللّه بن باز، الذي نشرته الجريدة الإلكترونيّة السعوديّة "كلّ الوطن"، بتاريخ 14 نوفمبر 2011، والذي هاجم فيه بما  يمتلك من  أدوات البلاغة والمنمّقات الغوية العتيقة وفقهيّة النمط والثقيلة على السمع،  لم تعرف إلى الخطاب المتطوّر والمتماشي مع الاتجاه اللّفظي لشبّان اليوم سبيلا، انجازات العهد البورقيبي في تونس ما بعد الاستقلال، مقابل إشادته بمواقف رئيس الجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة سابقا، الشيخ ابن باز وغيره من الشيوخ السعوديّين والمصريّين "المدافعين عن المذهب الوهابي"، مستعرضا إنجازاته التي تجنّد فيها للذبّ عن الإسلام وأهله وبذل أقصى الوسع في ذلك أكان زمن بورقيبة أو زمن خليفته الذي كانت هجمته أشد وأعتى إذ لم تستهدف مجرّد إضعاف الكيان(الإسلامي) أو ردعه كما حصل زمن بورقيبة وإنّما استهدف "الاستئصال وتجفيف ينابيع الإسلام"، ومشيدا بمساندته لجيل من الشباب، الذين إليهم ينتمي الأستاذ سابقا والشيخ حاليّا راشد الغنّوشي ، شباب "سرعان ما اهتزّت به الأرض وربت وأنبتته وهو الذي عاش في قصر فرعون قبل أن يكتسح قلاع اللاّئكيّة".

   وللتذكير فإنّ الوهابية هي حركة إصلاح ديني ظهرت في القرن الثامن عشر على يد محمد بن عبد الوهاب وحمل لواء نشرها صهره محمد بن سعود( قضيّة الأصهار هذه لا زلنا غارقين في أمواجها العاتية حتى بعد الثورة وفي زمن الحكومة المؤقتة التي تتزعمها حركة النهضة)، فتحوّلت إلى حركة دينيّةسياسيّة .

   أمّا محمد بن عبد الوهاب فقد ولد في العيينة بالجزيرة العربيّة في مطلع القرن الثامن عشر، في بيئة مغلقة، وتتلمذ على والده الحنبليّ المذهب، قبل أن يتنقّل عبر مختلف المدن الإسلاميّة كالمدينة والبصرة وأصفهان وبغداد، حيث تأثّر بمدرسة الرّأي ونهل من فكر ابن تيميّة الذي يعتبر امتدادا للفكر الحنبلي، والذي أوحى إليه بالاجتهاد والدّعوة إلى الإصلاح خاصة وأنّ المجتمع الإسلامي  كان يعيش وقتئذ جمودا فكريّا وتدهورا اجتماعيا ودينيّا وسياسيّا .

   لقد أسّس محمد بن عبد الوهاب دعوته على مبدأ التوحيد في العقيدة والتوحيد في التّشريع،  بهدف إصلاح العقيدة الإسلاميّة، والاهتداء بالقرآن والسنّة النبويّة، وجعل من الدُرعيّة، مقرّ أمراء آل سعود، مركزا لحركته، وهي مدينة تقع على بعد عشرين كيلومترا غربيّ مدينة الرياض، العاصمة السياسيّة للمملكة حاليّا، والتي فيها التحم الجانب الديني  بالجانب السياسي، بعد أن تعهّد محمد بن سعود بالدفاع عن الدّعوة ونشرها بقوّة السّيف. وتمكنت الدعوة من الوصول إلى شواطئ الفرات وحدود عمان والخليج العربي وإلى أطراف الحجاز وبلاد اليمن، وتمكّنت من السيطرة على طريق الحجّ والأماكن المقدّسة الإسلاميّة إلى أن أصبحت تهدد الإمبراطوريّة العثمانيّة.

   وفي نطاق التسويق لدعوته، بعث محمد بن عبد الوهاب رسائل إلى الحكّام العرب، منها الرسالة التي وصلت إلى تونس في عهد حمّودة باشا ، باي البلاد، والذي كلّف بالرد عليها في رسالة مطوّلة "المحقّق فخر عصره أبو حفص عمر ابن المفتي العلاّمة فخر المذهب المالكي، أبي الفضل قاسم المحجوب"، كما عبّر عن ذلك أحمد بن لأبي الضياف في الجزء الثالث من إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، الصفحة 86، والتي ختمها (الرسالة) بما يلي رادا على الوهابيّ:"وزبدة الجواب وفذلكة الحساب، أنّك إن قفوت يا أخا العرب نصحك، وأسوت بالتوبة جرحك، وأدملت بالإنابة قرحك، فمرحبا بأخي الصلاح، وحيّهلا بالمُؤازر على الطّاعة والجناح، وجمع الكلمة والسماح، وإن أطلت في لجّة الغواية سبحك، وشيّدت في الفتنة صرحك، واختلت عارضا رمحك، فإنّ بني عمّك فيهم رماح، وما منهم إلاّ من يتقلّد الصفاح، ويجيل في الحرب فائز القداح."

   ويعلمنا ابن أبي الضياف أنّ أبا الفداء إسماعيل التّميمي كتب كتابا يردّ فيه على رسالة الوهابيّ، سمّاه:" المنح الإلهيّة في طمس الضلالة الوهابيّة".



   وأمّا تصريح كريمة الشيخ الغنّوشي، الباحثة الأكاديميّة في جامعة لندن، والمختصّة في قضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإنّها ترفض"إدخال رجليها في جوارب والدها"، وتقف على طرفي نقيض مع إشادته  بالسعوديّين وما ينعمون به من علماء ووضع سليم وآمن، ولم يشر إلى الصعوبات التي تقضّ مضجع المملكة. ويبرز ذلك من خلال نقدها وعدم ترددها في إماطة الستائر عن بلد يعطي في الظاهر انطباعا بأنّه يعيش في رغد، بينما تشير بعض الإحصائيّات إلى أن ربع السكان يعيشون تحت عتبة الفقر! في الوقت الذي تنتج فيه الدولة مئات الملايين من أطنان النفط سنويّا تصدّر خاما إلى الغرب الرأسمالي الذي يستفيد منه وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكيّة أيّما استفادة،  مقابل عيش  السعوديّين تحت مظلّة  واشنطن العسكريّة. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ المملكة تعيش منذ عقود في ظلّ تواطىء الجناح العلمي مع الجناح السياسي، تواطؤا مفضوحا يسمح بإطلاق أيدي العلماء في الفضاء الاجتماعي تحت غطاء" الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ليشدّوا الرقابة على سلوكات الأفراد وعلى المرأة بصورة خاصّة، بمراقبة كلّ مفاصل حياتها، وتقييد حركاتها بفتاوى ما أنزل اللّه بها من سلطان، تحرمها من أبسط حقوقها المدنيّة  كمنعها من قيادة السيّارة
( فما بالك بالدراجة، وهذه لها فتوى خاصة بها !!! ) ، وتحاكمها إن أقدمت على ذلك، ومنعها من إبرام الصفقات والسفر ودراسة بعض العلوم الهندسيّة (صدر في الأسبوع الثالث من شهر ديسمبر 2011 أمر ملكيّ يفتح أبواب الدراسات الهندسيّة أمام الطالبات السعوديّات) ، وحتّى المعالجة بدون إذن وكيل، وإكراهها على التزوّج ممن لم تختره و إن تزوّجت فلا يكون نصيبها أكثر من ربع رجل لأنّ حضرة "سي السيّد من حقّه التزوّج بأربع زوجات"، ومن حقّه تطليقها متى عنّ له ذلك، ولأتفه الأسباب أحيانا!!!

   وفي المقابل يضفي (الجناح العلمي) الشرعيّة على سلوكات وقرارات الأسرة الحاكمة وعناصر البلاط المحيطة بها والمتكوّنة من حوالي أربعة آلاف أمير يتمتّعون بنعم لا تخطر على بال من قبيل "لا عين رأت ولا خطر على قلب مؤمن بسيط"، إلى حد "الاستنجاد بالأجنبيّ ( الكافر) لمحاربة المسلم"، وذلك خلال حرب الخليج التي خاضها التحالف الدولي ضد العراق، وتسخير الأموال العموميّة المتأتـّية من عائدات النفط الخياليّة من حيث الكثرة، لتمويل المشاريع التوسّعيّة الإمبرياليّة وإخماد كلّ نفس تحرّريّ خارج الأراضي السعوديّة، سواء في البحرين المضطربة أين نشر السعوديّون بمشاركة بقية دول الخليج العربي قواتهم العسكريّة حفاظا على نفوذها السياسي، ودرأ لتسرّب بقعة زيت الاحتجاج إلى أراضيها ووصول نسائم الربيع العربي إليها، والذي بدأت بوادره تظهر جليّا في مناسبات عدة منها إضرام شيخ النّار في جسده في إقليم جيزان في جنوب الجزيرة نسجا على منوال محمد البوعزيزي التونسي الذي أطاح لهيب جسده المشتعل بعرش ابن علي،  وتنظيم احتجاجات تطالب بإدراج إصلاحات سياسيّة مدعومة بحملة فايس بوكيّة تروّج فكرة إنتخاب مجلس استشاري وتنادي بإطلاق سراح السجناء، واجهها النظام بقبضة من حديد تمسك البنادق وتطلق الرصاص والقنابل المسيلة للدموع مدرارا على المتظاهرين سلميّا، وتزجّ بالعشرات منهم في غياهب السجون، ممّا أجج غضب الفئات الشيعيّة في شرق البلاد، حيث يتكثّف الوجود الشّيعي ، وحيث أكتشف النفط منذ ثلاثينات القرن الماضي وحيث تحتوي بواطن الأرض على مدخرات ضخمة جدا من المحروقات.

   وتنهي كريمة الشيخ مقالها بالتساؤل حول "منحى التّغيير القادم  لا محالة" في بلد على رأسه شيخ ينطق بعسر، ويلحن في كل جملة ينطق بها، ويمشي متثاقلا أو يستعين ب"مشّاي" متحرّك، بلد السلطة فيه شموليّة ولا تعرف إلى ثقافة المواطنة بكل ما تتطلّبه من حقوق وواجبات سبيلا.

   إنّ لبّ القضيّة أنّنا نجد أنفسنا على ضوء تصريحات الشيخ الذي يكيل فيها للنظام الوهابي ولعلمائه أطنانا من المديح، وكتابات ابنته التي تعرّي فيها سلبيّات النظام الملكيّ، في حيرة. فأيّهما نصدّق يا ترى؟ أم ترانا ننتظر تصريحات صهر الشّيخ الذي وزّره رئيس الحكومة التونسيّة حمّادي الجبالي؟ إنّ غدا لناظره قريب!!!