dimanche 24 mars 2013

في الذكرى 57 للاستقلال: بلادي حزيـــنة وشعبـــها مُكتئـــب


 " آفةُ الدّين ثلاثة: فقيه فاجر وإمام جائر ومُجتهد جاهل."
  حديث شريف.



 مُنذ أيّام والبلاد على قدم وساق... نشاط حثيث... ذهاب وإيّاب، يعقُبُهُما ذهاب وإيّاب آخران، رايات جديدة رُشقت على واجهات المُؤسّسات بمُختلف أنواعها وعلى واجهات المتاجر ودكاكين الحرفين وفوق أبواب المنازل فتزيدُها وجاهة ... منصّات قُدت من الخشب تنتصبُ في الساحات العامة ، في كلّ المُدُن والقُرى التونُسيّة استعدادا لإقامة مواكب احتفاليّة تُشرفُ على تنظيمها السّلط الجهويّة والمحليّة بكلّ همّة وتطوّع لا يخلُوان في كلّ الحالات من حسابات ضيّقة، وتلك طبيعة الإنسان في أيّ زمن وأيّ مكان ما، فمن يقدرُ على تغيير خلق اللّه؟
   في اليوم الموعود يحتفلُ التّونسيّون كلّ على طريقته... منهم من يُيمّمُ وجههُ نحو حديقة البلفيدير، الملاذ الوحيد في العاصمة حيثُ يتنفّس الصبية وأولياؤهُم المُصاحبين لهُم هواء نقيّا تُفرزُه آلافُ الأشجار التي تُؤثّث المكان، ويُمارسون ألعابهُم المُفضّلة من قفز وركض... ومنهُم من يعرجُ إلى حديقة الحيوانات لمُشاهدة حيوانات قادمة من الأقاصي كالزرافة والفيل والكركدن والأسد ومُختلف فصائل القردة والطيور، في حين يُفضّلُ صنف آخر من المُواطنين المُكوث في بُيوتهم ينظُرون في"مايزيدهم وينقصهم" وهُم على أبواب فصل الربيع وقد ودّعوا فصل الشتاء الطويل ببرده القارس وأمطاره الغزيرة التي لا يقدر على تحمّلها الزوّالي ...إلاّ أن أغلبيّة سُكّان العاصمة كانوا يُفضّلون التحوّل منذ الصباح الباكر إلى شارع محمد الخامس ليحجزوا موقعا يّمكّنهم من مُشاهدة تفاصيل  الاستعراض العسكري الذي كان يُقامُ بالمناسبة احتفالا بعيد الاستقلال المجيد
كان والدي رحمه اللّه حريصا على مصاحبتي وبقيّة إخوتي كلّ يوم 20 مارس من كلّ سنة لمكان الاستعراض، وكنّا نعلم أننا سنُقضّي اليوم خارج البيت، وسنقطع المسافة الفاصلة بين بيتنا بحي باب الأقواس وشارع قمبطّا مشيا على الأقدام، وهو الشارع الذي أصبح يحمل اسم شارع محمد الخامس...  

كم كان رائعا مشهد الفرق العسكريّة من مُختلف الجُيوش البريّة والبحريّة والجويّة وهي تمُر أمام المنصّة الشرفيّة أين كان يجلسٌ رئيس الجمهوريّة وحولهُ كتّاب الدولة وأعضاء الديوان السياسي وممثلو الدول الصديقة والشّقيقة، تعلو محيّا كلّ واحد منهم مسحة من مزيج بين الانضباط والجديّة والاعتزاز والاحترام لقُوات الجيش الوطني الجُمهوري، فيما كانت الطائرات الحربيّة تحلّقُ فوق رُؤوسنا راسمة في الفضاء الرحب حركات بهلوانيّة بديعة... لقد كان المشهد رائعا وقد زادته روعة الأنغام المُتأتّية من عزف الفرقة الموسيقيّة العسكريّة...

  كان هذا في ستّينات القرن الماضي، وكان مُجرد الحضور في هكذا احتفال يغمُرني نخوة واعتزازا بالانتماء إلى هذا الوطن العزيز، ويشحنني اعتقادا بأن السماء منحتني أجمل هبة وهي العيش في بلد يملك أعتى جيش هزم الاستعمار وحرر الوطن، هكذا كنت أرى الأمور...
سنوات عديدة مرّت منذ ذلك الوقت كان الاحتفال فيها يتم كلّ سنة بنفس التوهُج تقريبا... حتّى في أحلك سنوات الحُكم البنعليلي لم نكن نُهملُ الاحتفال بعيد الاستقلال، كيف لا وهو العيد الذي يُذكّرُنا بما قاساهُ شعبُنا من عُبوديّة وذلّ وحرمان وقهر وفاقة وظُلم قُرونا طويلة قبل أن تُؤسّس أوّل حكومة وطنيّة في تاريخ البلاد، على حد تعبير الزّعيم الحبيب بورقيبة، باني دولة الاستقلال مع رجال من حوله صادقوا اللّه على أداء الواجب الوطني وكثيرون منهم قضوا في سبيل الوطن، نتذكّرهم ونترحّمُ على أرواحهم كلّ يوم 9 أفريل من كلّ سنة...
    يوم 20 مارس من السنة الماضية كان للمُعارضة دور بارز في الاحتفال بعيد الاستقلال، بينما تجاهلت حكومة الترويكا الحدث أو كادت، أمّا هذه السنة فإنّ تناسي الترويكا الثانية بدا مُتعمّدا إذ خلت الشوارع من ملامح الزينة الدالة على الاحتفال، ولم تُنظّم الاستعراضات كما جرت به العادة كل سنة إلى حد أننا لم نشعُر بأنّ يوم الأربعاء 20 مارس 2013 وافق ذكرى الاستقلال، رغم أنّه كان يوما تعطّل فيه العمل في المُؤسّسات العموميّة...
لماذا هذا الإهمال ؟ من المسؤول عنهُ؟ وهل كان التعتيمُ مقصودا، وبالتالي كان موقفا سياسيّا من أعياد يشترك في الاحتفال بها كلّ التونسيّين؟ أم كان موقفا مفروضا من أولئك الذين حرّمُوا علينا الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف؟ هل أنّ هؤلاء الذين كان آخرُ إنجازاتهم الاعتداء على ضريح المجهول بسوق السرّاجين بالعاصمة، من فرض هذه الرؤية لأعيادنا الدينيّة والوطنيّة التي تمنحُنا فرصة الاحتفال ونسيان الاحتقان السياسي والديني ولو إلى حين؟
هل هم أنفسُهم من يُروّجُ بيننا مُنذ سنتين غريب الفتاوى من قبيل إرضاع الكبير، وتحريم العطر على النساء والسّماح به للرجال، وتحريم الصلاة في غير المساجد، وعدم فلاح قوم ولوا أمورهم امرأة، وتحريم اختلاط المرأة بالرجل، واعتبار مُصافحة المرأة للرجل زنا، وتحريمُ كشف الوجه والشعر واليدين للمرأة، والمُناداة بجهاد 
المُناكحة مع الثوار السوريين، وتحريم اختلاء الأب بابنته...؟



أغلب الفتاوي الصادرة عن هؤلاء المُجتهدين الجدد تنبعثُ منها رائحة الجنس، إنّه حجر الزاوية في أدبيّاتهم  مُتمكّن من تفكيرهم ومُسيطر عليه، إلى حد أنّك تخال أن الجنس هو أقصى اهتماماتهم، وأنّه ينم عن مُعاناتهم شذوذا ما. كيف لا وأغلب فتاويهم تحومُ حوله. إنّهم ضحايا الهوس الجنسي، مسكونون به، في حين أنّهم أوّل من يعلمُ انّه لا يطفئ هوسهم  هذا غير المرأة، ولعلّ ذلك ما يجعلهُم  لا يرون فيها سوى وسيلة لإشباع نهمهم وللاستجابة لغرائزهم الحيوانيّة. لكنّني لا أفهم لماذا يُعادونها، يمنعونها من الاختلاط بالرجال كأنّها منبعُ الشر والمسؤولة الوحيدة عن خطيئة سيّدنا آدم عليه السلام، يعزلُونها عن المُجتمع مُعتقدين أنّها عورة كُلّها من أعلى رأسها إلى أخمس قدميها، وجهها، شعرها، يداها، صوتُها ... كلّ ما فيها عورة لذا يحرصون كلّ الحرص ويتشددون في حجبها عن الأعيُن، وإن لزم الأمر تنقيبُها ودسّ يديها في قفازتين حتّى في عزّ فصل الصيف، يُحرّمون عليها التعطّر خارج بيتها لأن ذلك في رأيهُم ضرب من ضُروب الزّنا... إنّهم لا يتصوّرون ولا يقدرون على استيعاب أيّ نوع من أنواع العلاقة بين المرأة والرجُل سوى علاقة الجماع، لا وُجود عندهُم لعلاقة اجتماعية أو إنسانيّة أو أيّ شكل آخر من أشكال التعاوُن البريء والشريف والنّزيه بين المرأة والرجُل...
   دُعاة الجهل يجُرّون البلاد والعباد إلى الظلمات يُبشّروننا بوطن مُسيّج عُقدا وحقدا وكراهيّة... يُريدون إغراقنا في غيبوبة مُستديمة نجتر فيها أحلاما قديمة عقيمة، هكذا كتب أحد المُفكّرين...
تركوا كتاب اللّه وتمسّكوا بأحاديث نبويّة دُوّنت بعد قرنين من نزول الرسالة على خاتم الأنبياء والمُرسلين عليه أفضل صلوات اللّه وأزكى سلامه... ركبوا أحاديث تختلف بين الموضوعة و الضعيفة والعليلة، سندا ومتنا، لا يتماشى مضمونها مع ما يتضمنه كتاب اللّه... جعلوا مما قدمهُ المُفسّرُون والفقهاء من قراءات لكلام اللّه تعالى، تحوّلت بحُكم الزمن والتراكُم التاريخي، أكثر قداسة من القرآن نفسُه...
حوّلوا وجهة الثورة التي رفعت مطالب اجتماعيّة واقتصاديّة: شُغل، حُريّة، كرامة وطنيّة، إلى مشاغل لم تُطرح من قبلُ... لم يجُل بخاطر التونسيّين طرحُها ...
لم نطرح كتونسيين يوما مسألة الهُويّة، ولا مسألة المُقدّس/ المُدنّس... لم نتساءل يوما عن وجُود الزوايا وأضرحة أولياء اللّه الصّالحين من عدمه... لم نرغب يوما في التدثّر بجلابيب أسلافنا وفي الذوبان تحتها...
أسلافُنا عاشوا زمانهُم، تأقلموا معهُ... هضموه... فهموا مُتطلّباته... نجحُوا في إدارة مُختلف أوجُه حياتهم، سياسة واقتصادا وأدبا ... بمعزل عن الدين وعن أحكام الشريعة، لذلك ظهرت لديهم صُنوفا أدبيّة جريئة لم يكُن للعرب سابق عهد بها مثل الخمريّات وشتّى فنون الغزل بما فيها الإيروتوكي والبورنوغرافي كما قال الشاعر منصف الوهايبي...
لم يطرحوا مسألة الهُويّة بنفس الحدة التي تُطرحُ بها اليوم، والتي استهلكت وقتا ثمينا من مُناقشات نُوّاب الشعب تحت قُبّة المجلس الوطني التأسيسي، أولئك النوّاب الذين انتخبهم الشعب لهدف كتابة دستور جديدة لا لغاية مُناقشة كلّ ما أنجز مُنذ الاستقلال كأنّهُ بناء غيرسليم.
إنّ الهويّة في رأي الفيلسوف يوسف الصديق، مُتحرّكة، وليست مُؤسّسة يستوجب الرجوع إليها، إنّما هي صفة تتغذى عبر التاريخ بتيّارات شتّى تتبنّاها وتُضيفُها إلى رصيدها أي إلى النواة الأولى فتُصبحُ صفة مُركّبة، مُتشعّبة تعكسُ موقف ورُؤية شعب ما في زمن ما، لذا فهي ليست قارّة وليست ثابتة، ليست ساكنة لا تتحوّلُ أبدا، إنّما هي القدر الثابتُ والجوهري والمُشترك من السمات والقسمات العامّة التي تُميّز حضارة شعب ما عن غيرها من الحضارات، وهذا القدر لا يُمكن البتة أن يُحنّط حتّى لا يزول ويندثر، بل على المُنتسبين إليه النّهلُ من يرورة التاريخ والتفاعُل مع تحوّلات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة والثقافيّة المُحيطة، ليجعلوا منها قدرا مرنا ثريّا من غير فقدان لمُميّزات نواته الأولى...
لم يطرح أسلافُنا قضيّة الهُويّة و  المُقدس/ المُدنّس، لم يُهاجمُوا زوايا وأضرحة أولياء اللّه الصالحين بدعوى أن ما يُقامُ فيها من طُقوس هو ضرب من ضُروب الشّرك بالواحد الأحد، بل اعتبروها رُموزا وقيما أساسيّة تتنزّلُ في إطار الموروث المُشترك، لذا وجب تعهّدُها بالصيانة، ومنعوا تسرّب العبث والتخريب إليها لأنّها في نظرهم جزء من تراثنا الديني.
لم يُدينوا الإبداع والفُنون والخلق والابتكار... لم يُهاجموا رجال الفنّ والإعلاميّين... لم يُشيطنوهم ولم يُكفّروهم، لم يُهددوهُم بالقتل ايمانا بأنّ نجاح مسيرة الإنسان  الإبداعيّة لا تتحقّقُ إلاّ بالتفاعُل بين مُكوّنات مُثلّث أضلاعُه النصّ المُقدّس والعقل المُتدبّر والمُحلّل والمُؤوّلُ والمبتكر والراهن المُتحوّلُ والمُتجدد والمُتطوّرُ، في مناخ ثلاثي العناصر وهي الحريّة والديمُقراطيّة والمنظومة الكونيّة لحُقوق الإنسان التي لا تعترفُ بالحُدود الإنسانيّة ، لأنّ العالم الذي تسبحُ فيه عالم رحب، تتقاطع فيه الحضاراتُ وتتلاقى كُلّها في مسيرة ينحُتُ معالمها الإنسانُ السّائرُ نحو التكامُل والإبداع والجمال لعلّه يعكسُ البعض الضئيل جدّا من جما ل وكمال مُبدع الكون الذي غمرنا حُبّا وعطفا وسلاما ورحمة، منذ اليوم الذي قبل فيه الإنسان تحمّل مسؤوليّة خلافته جلّ وعلا على الأرض في حين رفضتها الجبالُ والملائكة وأشفقن من حملها.

عبدالعزيز ڨرجي 1928 - 2008
المصدر :   http://shr.tn/JaVt


لكن حُكّامُ تونس اليوم وأذرعهم من بينها السلفيّة علميّة كانت أو جهاديّة، تأبى أن يفرح هذا الشعبُ وأن يُنفّس عن كربته، يستكثرُون عليه إقامة احتفالات بذكرى عزيزة عليه، استشهد من أجلها آلافُ التّونسيّين منذ 1881 وهم يتصدّون لزحف الجيوش الفرنسيّة الغازية في الشمال الغربي، ويُقاومون الحضور الاستعماري من شمال البلاد إلى جنُوبها في المُدن وفي القرى وفي البوادي من قبل قبائل الهمامة والفراشيش وأولاد ماجر وأولاد عيّار وأولاد سعيد وأولاد عون وأولاد دباب والمرازيق والعكارة، ومن قبل حركة الفلاقة بين 1952 و 1954، إلى جانب الحركة النضاليّة النابعة من المراكز الحضريّة بدءا بحركة الشباب التونسي وحوادث مقبرة الزلاّج والحزب الحر الدستوري التونسي والديوان السياسي الذي تفرّع عنهُ والذي أصبح يحملُ اسم الحزب الدستوري الجديد، مُرورا بحوادث 9 أفريل 1938  وأحداث تازركة بالوطن القبلي وُصولا إلى الاستقلال.
يأبى هؤلاء المُتزمّتون أن يُقيم الشعبُ الاحتفال بحدث جليل في تاريخنا المُعاصر. تصوّروا امتناع الأمريكيين عن الاحتفال  بعيد استقلالهم يوم 4 جويلية أو عُزوفُ الفرنسيّين عن إقامة الأفراح في 14 جويلية... إنّهُ الهُراء بعينه... إنّهُ الغباءُ الذي ليس لهُ دواء، إنّهُ تصرّف لا يصدُرُ إلاّ عن رُعاع جهلة لا يعرفون عن الدين شيئا كثيرا كما ذكر أحد الإعلاميين، بل كلّ ما يعرفونهُ هو ترهيب النّاس بنشر أحاديث تُنسبُ إلى الرسول، وبتأويل آيات قُرآنيّة غفلوا عن مقاصدها، ونشر ثقافة الانزواء والانغلاق وراء عباءات وقمصان لا تُشبهُنا ولا تمُتّ لحضارتنا بأيّ صلة، وبترويج ثقافة أساسُها عذاب القبر و التداوي ببول البعير، لا تزيد المرء إلاّ اكتئابا فوق اكتئاب.
إنّهُم لن يحتفلوا بعيد الاستقلال لأنّ الحزب الذي يُمثّلُهُ أغلبُ أعضاء الحُكومة الترويكيّة الأولى كما الثّانية، وذاك الحُقوقيّ الذي تنكّر لصفته التي عرفها بها النّاسُ من أجل سُلطة منزُوعة الصلاحيّات، والذي لا يفيقُ من سُباته، كلّ " جماعة الخير " هذه لا تعترفُ بكُلّ بساطة بالاستقلال، ولا بإنجازات دولة الاستقلال، ولا بحُكُومة الاستقلال التي أنجزت ثورة ثُلاثيّة الأبعاد أعمدتُها التعليمُ والصحّة وتحريرُ المرأة وقاعدتُها الصّلبة الوحدة الوطنيّةُ ونبذُ العرُوشيّة والقبليّة والنزعات الجهويّة.
وإذا كان حاكمُ قرطاج الذي شبّههُ أحدُهم بملكة بريطانيا " ترأس ولكن لا تحكُمُ"، يتشبّثُ ببقايا يوسُفيّة رفضت في يوم من الأيّام استقلال البلاد الداخلي( 1 جوان 1955 ) مُعتبرة إيّاهُ " خُطوة إلى الوراء "، وكادت أن تزجّ بالبلاد في حرب أهليّة وقى اللّه شعبنا من تداعياتها، فإنّ حزب حركة النهضة لا يعترفُ البتّة بالاستقلال لا الداخلي منهُ ولا التّام، ويعتقدُ أنّ حُكومة بورقيبة ليست سوى امتدادا للنظام الاستعماري، وأنّ أعضاءها ليسوا سوى " رجال فرنسا " نصّبتهُم السلط الاستعمارية  (التي فرّرت لاحقا على لسان رئيسها الجنرال شارل ديغول التخلّي عن  قاعدة بنزرت العسكريّة بعد نجاح تجربتها النوويّة في الصّحراء الجزائريّة )،  في سدة الحُكم، لإتمام مشروعها الفرنكوفوني وبسطه على كامل رُبُوع المغرب العربي لاجتثاثه من " دار الإسلام ".
لقد تجذر موقفهم هذا من الاستقلال إثر الإنجازات المُتعاقبة كإلغاء التعليم الزّيتوني وتعويضه بنظام تعليميّ عصريّ ومُوحّد، وإلغاء المحاكم الشرعيّة ومحاكم الأحبار والمحاكم المُختلطة  وتوحيد القضاء، وحلّ الأحباس، وتحرير المرأة، وإصدار مجلّة الأحوال الشخصيّة التي تُنظّمُ الأسرة وتُسوّي بين الجنسين وتمنعُ التعدديّة الزّوجيّة، وتبلور في الوثيقة المُنبثقة عن احتفالهم بالذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس حركتهم والتي جاء فيها ما يلي:
 لقد تأسّست حركتنا، بعد ما تمكّنت النّخبة التّغريبيّة الحاكمة من تحطيم مُعظم البنى التحتيّة للمُجتمع والدولة مثل إلغاء الأوقاف ( الأحباس ) والمحاكم الشرعيّة والتعليم الزيتوني وتفكيك 
العلاقات الأسريّة والعشائريّة 
وهذا يعني بصريح العبارة، أنّ حزب حركة النّهضة لن يحتفل بالاستقلال ما لم يُعد تركيز التنظيم المُجتمعي القديم، ويُعد اللاّمُساواة بين الجنسين، ويُلغي منع التعدديّة الزوجيّة، ويرسى القواعد الأولى لنظام " الخلافة الإسلاميّة السادسة " التي بشّرنا بها السيّد حمادي الجبالي ذات اجتماع في مدينة سوسة، مسقطُ رأسه، في صائفة 2011، ورُبّما كذلك إلغاءُ قرار منع العبيد الذي أصدرهُ المشير الأوّل أحمد باشا باي الحُسيني سنة 1846 .
يا لهُ من حُلم " جميل "، حُلم يعود بنا القهقرى مُتجاهلا المُستجدات التي عرفها تنظيم المجال العالمي منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية ومُنذ سقوط جدار برلين وانهيار الأيديولوجية الاشتراكية واختفاء الاتحاد السّوفياتي، وتركيز " العولمة ". إنّهُ فعلا حُلم بأتمّ معنى الكلمة لأنّ أصحابهُ يعيشُون على هامش الأحداث ولا يعترفون بالسيرورة التّاريخيّة.


إضافة إلى ذلك فقد أظهروا براعة فائقة في سرقة الفرحة من قُلوبنا... وفي اغتيال الابتسامة على شفاهنا... سرقُوا منّا ثورة الشباب ليُنصّبوا شُيوخا يفتون ويُحرّكون خيوط اللعبة السياسيّة من معقلهم بمونبليزي أين تُرسم مُخطّطات إفشال الثورة... اغتصبوا أجمل لحظات تاريخنا المُعاصر، أخسوا شبابا يطمحُ إلى غد أفضل، أكثر حريّة وديمقراطية وانفتاحا من دون انسلاخ عن موروثه الثقافي وبعده الرّوحي الذي استحكم تدريجيّا في أعماق الوعي الجماعي مُنذ حملة عبد الّه بن أبي سرح سنة 27 للهجرة في عهد ثالث خليفة راشدي عُثمان بن عفّان.
لقد برعوا في بثّ الشقاق بين أفراد المُجتمع وفي نشر الغباء والجهل الديني، هدفُهم اغتيال العقل وانتزاع جين الذكاء من شخصيّة شعب قاوم الرومان والبيزنطيّين والدخلاء والطغاة من غير أن تنثني له هامة، وخرج من كلّ مُحاولات تكسيره مُنتصب القامة يسير بشغف إلى الأفُق الأعلى ليُدركهُ مُعتمدا في ذلك على مُعادلة عناصرُها الأصالة والتقدم إلى الأمام.
ومهما اجتهدوا خُبثا، ومهما زرعُوا البُهتان والأكاذيب، ومهما روّجوا من أدفاق الغباء، ومهما حاولوا إيهامنا بأنّ الثورة التونسيّة هي " ثورة ذات جذور قرآنيّة" كما ادعى رئيس جمعيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، ومهما زرعوا من شقاق بين أفراد الشعب، فإنّهم لن ينجحوا ، لن تنطلي ألاعيبُهم على شعب صدمتهُ سلبيّة السلطة الحاكمة وإحجام الأحزاب المُعارضة ومُختلف المنظمات المدنيّة عن الاحتفال بعيد الاستقلال.
ولئن كانت بلادي اليوم في الذكرى ال 57 للاستقلال حزينة لا تُقام الأفراح والاحتفالات فيها، ولئن كان شعبي مُكتئبا جرّاء ما ألحقهُ به الزّمن الغادر من حكم طاغية جاهل عقبهُ حُكم قوى تشُد إلى ظُلُمات الزمن الغابر، 
فإن الحال قد يتغيّر في السنة القادمة، إنّ غدا لناظره قريبُ.

يقولُ أمير الشعراء أحمد شوقي:

وطني أسفتُ عليه في عيد الملا          وبكيتُ من وجد ومن إشفاق
أيظـــل بعضـــكُم خــــــــــاذلا           ويُقالُ شعب في الحضارة راقي
وإذا أراد اللّهُ إشقــــــــــاء القُرى         جعل الهُداة بهـــــا دُعاة شقـــاق
                                                                                العوينة، 21 مارس 2013. 

mercredi 20 mars 2013

الحبيب بُورقيبة، رجُل دولة


الرئيس الأمريكي "نيكسون" يشارك الشعب التونسي الإحتفال بذكري الإستقلال الأوّل في 20 مارس 1957.
  المصدر : http://shr.tn/sA6q 
   
أصدر آخر بايات الدولة الحُسينيّة بتونس، يوم 29 ديسمبر 1955، أمرا يتعلّقُ بإحداث المجلس القومي التأسيسي، جاء فيه ما يلي:
"  ... وحيث أنّ الوقت قد حان لمنح مملكتنا دُستُورا يحدد نظام السّلط وسير مختلف دواليب الدولة وحُقوق المُواطنين وواجباتهم.
وحيث أنّه يتجّه تمكين شعبنا من المشاركة مُشاركة فعليّة وبواسطة مُمثّليه المنتخبين في إعداد القوانين الأساسيّة للبلاد ... أصدرنا أمرنا هذا ..."
افتتح المجلس أعمالهُ يوم 8 أفريل 1956، وألقى الحبيب بورقيبة بالمُناسبة خطابا جاء فيه ما يلي:
"... فلا يُمكن أن ننسى أننا عرب ننتسبُ إلى الحضارة الإسلاميّة، وأننا أيضا نعيشُ في النصف الثاني من القرن العشرين، نُريد أن نُساهم في ركب الحضارة، وأن نكون في صميم عصرنا الحاضر، ولذا نمقُت الفوضى والاستبداد ونرفُض الجُمُود والرجعيّة..."  
                                                
   جُملة بسيطة في ظاهرها، لكنّها تنطوي على معاني عميقة المغزى، تعكسُ رُؤية الطبقة السياسيّة لحُكومة الاستقلال، المُقامة على عمليّة تأليفيّة رائعة بين الأصالة والحداثة، وهُما البعدان المُكوّنان للشخصيّة القاعديّة للتونُسي، الذي انتقل من مرتبة الرعيّة إلى مرتبة المُواطنة، بكُلّ ما يتطلّبُ وضعُه الجديد من واجبات ومن حُقوق.                                                                               
 والحقيقة أن هذين البعدين قد بدآ البُروز مُنذ إصلاحات خير الدين باشا التونسي في المجالات الاجتماعية والاقتصادية  والعسكريّة والإداريّة والدينيّة ومجال التعليم تحديدا، وذلك بوضع منظومة تعليميّة عصريّة قامت فيها المدرسة الصّادقيّة بدور الجسر الذي يصلُ البلاد بالغرب المُتحضّر، وهو ما

تعكسهُ مُعالجته لأسباب التخلّف التي وردت في مُؤلّفه، "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" الذي نُشر سنة 1869. وسرعان ما تخرّج من  الصادقيّة أجيال من الشباب التونسي المُتجذرين في الحضارة العربيّة الإسلاميّة والمُنفتحين في ذات الآن على الغرب،  يُواكبون ما بلغهُ من درجات الرقيّ على درب الحضارة الماديّة واللاّماديّة ، ويُساهمون جنبا إلى جنب، مع إخوان لهم تخرّجوا من الجامع الأعظم بعاصمة تونس المحروسة، جامع الزّيتونة المعمور ، مُكوّنين نُخبة من المُفكّرين الحداثيين،  انخرطت في مشروع تأسيس حركة وطنيّة لتخليص البلاد من براثن استعمار مُتغطرس، وإرساء أسُس دولة عصريّة ونشر ثقافة عقلانيّة واقعيّة ووسطيّة، تقف سدّا منيعا في وجه الغلوّ والتطرّف والتعصّب، تُقاوم سياسة التكفير ورفض الآخر، وتُقاوم نشر الخُرافات والبدع والمُمارسات التي لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، على غرار ما يتأتّى من أولئك الذين لا يرون في المرأة غير عورة يتحتّمُ إخفاؤها حتّى لا تُلحق ب "الرجُل" العار، أي "وأدُها" بإخفائها عن أعيُن الفضوليّين بالنقاب، فإن لم نستطع فبالحجاب وذلك أضعفُ الإيمان، فتفقد بذلك هويّتها ككائن بشري من حقّه التمتّعُ بحُقوقه كاملة.                                                                                           
تلك بعض من المعاني التي أراد الحبيب بورقيبة، من خلال تلك الجملة البسيطة، إيصالها إلى مُختلف فئات المُجتمع التونسي آنذاك.                                                                                  
فهل كان الحبيب بورقيبة يتمتّع بقدر من العقلانيّة والتبصّر أرفع من الذي تتمتّعُ به زُمرة من يحكُمنا اليوم؟                                                                                                             
ألم يُدرك هؤلاء الكيفيّة التي تجنّب بها بورقيبة السُقوط في فخّ تديين السياسة وتسييس الدين؟               
ألم ينتبهوا إلى تأسيسه فكرا يدعمُ الوحدة الوطنيّة ويُغلّبُ مصلحة الوطن على كلّ المصالح الطبقيّة والفئويّة والحزبيّة، ولم يُؤسّس فكرا تفريقيّا، تقسيميّا، إقصائيّا، تكفيريّا؟                                
لقد أدرك بورقيبة أن المطلوب آنذاك إنّما هو التعامُلُ بالعقل وبالحُجّة والبُرهان، من غير تخوين أو تكفير للآخر، وأنّ الوطن للجميع والدين للواحد الأحد، وأن الإسلام الإيديولوجي هو عدو الإسلام، لما يفرضُه من غُلوّ وتكفير، وأنّ "أفضل المُسلمين من سلم النّاسُ من يده ولسانه"، وأنّ "خير النّاس أنفعهم للنّاس"، بحسب ما رُوي عن خير الأنام، عليه الصلاة والسّلام، وبحسب ما جاء في مُحكم تنزيله:  

-" ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كُلّهُم جميعا أفأنت تُكره النّاس حتّى يكونوا مُؤمنين"، سورة يونس ، الآية 99.                                                                                               
- " قل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفُر"، سورة الكهف، الآية 29.                    
هل من العسير على من أدخلنا في متاهات الهُويّة وتطبيق الشريعة، وإقامة الحُدود وتأسيس الخلافة الراشدة السادسة، إدراك أنّ مصلحة الوطن قبل كل اعتبار وأنّ الوكن فوق كلّ الخلافات وأنّ حبّه والذود عن حُرمته والفناء في سبيل حمايته إنّما هو أسمى ضروب الإيمان؟ أسألُ وأحبّ أن أفهم على حد تعبير المربّي الأستاذ الحبيب السلاّمي.                                                                    
العوينة، فيفري 2013.