dimanche 4 février 2018

تفكيرُنا و ... تفكيرُهم

أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في أواخر أيام سنة 2017 قرار إعترافه بمدينة القدس عاصمة للدولة الإسرائيليّة وأعرب تبعا لذلك عن نيته نقل سفارة بلده إليها في أقرب الآجال

هذا القرار يفتح في رأيي عهدا جديدا سيُفضي إلى فرض الإعتراف بيهودية الدولة الإسرائيليّة، إعترافا يحرصُ مسؤولو الكيان الإسرائيلي على الحصول عليه تحت حكم اليمين بزعامة حزب الليكود الذي يقوده رئيس الحكومة الحالية  بنيامين نيتينياهو، ليضعوا العالم أمام حتمية تصفية مظلمة القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، القضية الفلسطينيّة، التي أقضّت مضاجع المتآمرين على شعب كامل منذ إعلان بلفور الشهير سنة 1917، الذي قد فتح الطريق إلى زرع لا شرعي لخليّة سرطانية في جسد الوطن العربي تكاثرت بمرور الزمن لتّصبح كيانا سياسيّا اعترفت به منظمة الأمم المتحدة في 15 ماي 1948 ..

هذا القرار غير المسؤول في نظر عدد من الملاحظين، قد كسّر الإتفاق العالمي حول وضع مدينة "مُقدّسة"  ليس عند المسلمين فحسب، بل كذلك عند اليهود والمسيحيين باعتبارها رحم ومهبط الأديان السماويّة ...
القرار الأمريكي الأخير لم يفاجئ في الحقيقة غير قصيري النظر وفاقدي الذاكرة من العرب، لأنّه كان يُطبخُ على نار هادئة منذ زمن طويل وكان مُنتظرا من قبل الرأي العام الأمريكي والإسرائيلي على حد سواء،  لأن الكنغرس الأمريكي قد كان تبنّى بأغلبيّة الأصوات قرار نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة "اورشليم" منذ يوم 24 أكتوبر 1995، ووضع لتنفيذه حدا أقصى وهو يوم 31 ماي 1999. إلا أنّ هذا القرار جُمّد خلال فترة حكم الرؤساء الثلاث بيل كلينتون وجورج بوش الإبن وباراك أوبا في انتظار تسوية نهائيّة للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، ولذلك كانوا يؤجّلون تنفيذه كل ستّة أشهر. وقد قام ترمب بدوره بتجميد القرار في شهر جوان 
2017، قبل أن يُقرر في 6 ديسمبر الإعتراف بمدينة القدس عاصمة لدولة إسرائيل...

وللعلم فانّ هذا القرار يتعارض مع القرار 476 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 30 جوان 1980 والرافض لكل التغييرات ذات الصبغة الديموغرافية والتاريخيّة للمدينة المُقدسة والتي أدخلتها الحكومات الإسرائيليّة المُتعاقبة. وعندما صوّت البرلمان الإسرائيلي على "القانون الأساسي" الذي يعترف بأن "مدينة القدس كاملة وموحّدة عاصمة لإسرائيل"، اضطر مجلس الأمن إلى التحرّك وأصدر في أوت 1980، وبإجماع 14 عضوا  احتفاظ الولايات الأمريكية بصوتها، القرارالذي يُطالب الولايات المتحدة بسحب بعثتها الدبلوماسية من مدينة القدس.

بأغلبية ساحقة: الأمم المتحدة ترفض إعلان ترامب بشأن القدس

ثم كيف يُفاجئنا قرار ترمب ونحن نعلم أن التمثيلية الأمريكية بمجلس الأمن قد عطّلت عشرات المرّات، وطوال سبعين سنة من اللاعقاب، قرارات مجلس الأمن، باستعمال حق الفيتو كلّما كان الكيان الإسرائيلي موضع إدانة من قبل المجموعة الدوليّة بشان خرقه للقوانين ودوسه حقوق الشعب الفلسطيني ...
وللتذكير فان قيام الدولة "اللقيطة" لم يكن غير فكرة بدأت تتجسّد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر مع انعقاد أول مُؤتمر صهيوني بمدينة بازل السويسريّة، الذي نظّمة الإعلامي النمساوي واليهودي الديانة تيودور هرتزل. لقد افتتح هرتزل المؤتمر بقولته الشهيرة "لقد اجتمعنا اليوم لوضع حجر الأساس للبيت الذي سيأوي الأمة اليهودية" ...

وعموما فان القرار الأمريكي الأخير يتنزّل في سياق تعيشُ فيه الدول العربيّة أسوأ أوضاعها بسبب ما أصابها من وهن وغياب عما يُستجد في العالم ، وانغماس يوما بعد يوم في مناخ طقوسه أقرب منها إلى الإفتراضي منها إلى الواقع الملموس، مناخ مشحون ماورائيات وأساطير وخرافات وسرديّات تملأ رؤوس السواد الأعظم من السكان،ملفوفة بوشاح مُطرّز بخيوط الجهل والتكلّس الفكري ومؤثّثة بعبادة شخصيّات دينيّة وبأحاديث موضوع أغلبُها، شكّلت  ما يسمّى بالموروث بوجهيه المادي واللامادي، يزرع بذوره  ويقطف ثماره المفسّرون والمحدّثون ومنتجو الفتاوى على القياس وعند الطلب، وكل الذين يعيشون عيشا قروسطيا ولم يغادروا "السقيفة" بعدُ ، عيشا نزع عنهم كل خصال الإجتهاد العقلاني والعلمي، وحوّلهم إلى دعاة "للإسلام الوهابي" المُروّج للعنف و للتكفير تسير وراءهم جحافل الجهلة سير القطيع وراء الراعي  

في سياق الوهن هذا  تُتخذ أخطر القرارات المصيريّة من قبل قادة اللوبي الصهيو-أمريكي، والتي تمسّ من المصالح الإستراتيجيّة والحيويّة للفلسطينيين، أصحاب الأرض والحقيقيين،  قبل أن تشُد إليها الرحال القبائل اليهوديّة في الألفيّة الثانية قبل الميلاد هروبا من فرعون أرض الكنانة وتعبُر نهر النّيل يقودها النبي عيسى عليه السلام ...

لقد اعتادوا اصطياد حالات ضعفنا وانشغال الرأي العام العالمي بأحداث هامة كتنظيم ألعاب أولمبيّة أو اندلاع مجازر ناجمة عن حروب أهليّة، أو غيرها من الأحداث المُستقطبة لتركيز أغلب سكان كوكب الأرض في لحظة ما، للتوسّع على حساب أراضي والفلسطينيين، او الشروع في بناء مُستوطنات جديدة، أو شنّ اعتداءات  على المقاومة،  ومُواجهة المُنتفضين من شبّان لا يحملون من الأسلحة غير الحجارة، بالرصاص المطاطي وبالذخيرة الحيّة، ولنا في الطفل الشهيد محمد الدرّة خير دليل على ذلك ...
في الأثناء تنشغل الأنظمة العربيّة بالتآمُر على بعضها، وبافتعال الأزمات الداخليّة، وبتحريض المعارضة ضد الأنظمة القائمة، وبتشجيع وتمويل المتشدّدين دينيّا، وبالإعتداءات العسكريّة على بلد عربي، ضمن ما يُدعى تحالُفا يرفعُ شعار "الدفاع على الشرعيّة"، ويحصد مئات الآلاف من الضحايا المدنيين، على غرار ما يحدثُ في اليمن حيث يعيشُ حوالي نصف السكان تحت التهديد بالموت جوعا وأمراضا ...


هذا الإقتتال بين العرب منذ حرب  داحس والغبراء والتي امتدت على اكثر من أربعين سنة،  وحتى قبل ذلك بكثير، هو بالنسبة إليّ لغز لم أفلح البتّة في فكّ طلاسمه منذ أن أصبحتُ واعيا بما يدورُ حواليّ، ولعلّي لن أتوصّل إلى ذلك، لا أنا ولا غيري من بني يعرب،  إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ...
إنّه تقاتُل عبثيّ، كفكائيّ،يتطابق مع مُصطلح "التّطهير" عند الفيلسوف الإغريقي أرسطو، والمُرتبط بالإنفعال الناتج عن مُشاهدة العُنف، وهو عمليّة تفريف وتنقية على المستوى الجسدي والعاطفي لشُحنة العُنف الموجودة عند المُتفرّج، مما يُحرّرُه من أهوائه.لكن مع الإشارة إلى أنّ  وجه الإختلاف في هذا التطابُق، أن دور المُتفرّج في مفهوم أرسطو يتحوّلُ إلى دور الفاعل الحقيقي للتقاتُل من قبل أصحاب الفخامة والسيادة من ملوك وأمراء ورُؤساء العرب الذين يبذلون كل ما أوتوا من جهد ومن عتاد عسكري وأموال مُتأتية من ثروات طبيعية ، لم يبذلوا أي مجهود لخلقها، لتحقيق أهداف استراتيجيّة واقتصادية وسياسية لا قيمة لها إلا في مخيالهم ...
اليمن وما تشهده منذ سنوات من خراب ودمار لبناها التحتية، وما يترتّب عن كل ذلك من مآسي اجتماعيّة وعُقد نفسيّة، تتحوّل إلى مكوّن من المكوّنات الأساسية لشخصية المواطن اليمنى الذي لم ينس بعدُ حرب مصر الناصريّة ضد وطنه، هذا اليمن هو النموذج الساطع للحالة التي عليها الأمة العربيّة في جُزئها المشرقي تحديدا ...



وكلّما ازددت تمعّنا في هذا النموذج، ودقّقت النظر في تفاصيله، قفزت من ذاكرتي إجابة المسؤول الأمريكي برزنسكي عن سُؤال طرحته عليه إحدى المُحاورات حول دور العرب في الخريطة الجغراسياسية الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط ، وهي أن "العرب أصبحوا خارج التاريخ" ...
هذه الإجابة تعكس في الحقيقة طريقة تفكير الغرب المُؤسّسة على رؤية واضحة المعالم للأوضاع الجغراسياسية على المدى القريب والمتوسّط والبعيد ...
ألم تُخطّط السياسة البريطانيّة لقيام دولة إسرائيل منذ نهاية القرن التاسع عشر، قبل ان يبرُز ذلك التخطيط للعيان رسميّا في أواخر 1917، عندما أطلق وزير خارجيّتها، بلفور وعدهُ المُتضمّن استعداد الملكيّة البريطانيّة لإعانة الشعب اليهودي على إقامة وطن له في الأراضي الفلسطينيّة؟ ...
هذا النموذج من التفكير بعيد المدى، والرصين، والمرتكز على مخطّطات محكمة ، وعلى دهاء ماكر، يحسب كل جُزئيّة، هو نموذج تفكيريّ مُناقض تمام التناقُض في رأيي تفكيرنا كعرب ... تفكيرُنا لا  يمتد إلى أبعد من أرنبات أنوفنا، لا يتجاوز اللحظةالآنيّة زمنا، لا يتخطّى الفضاء الضيّق الذي فيه نتحرّك ...
عندما نُصدم بحدث ما- والصدمة دليل قاطع على عدم الإستعداد لما قد يطرأ من أحداث، إيجابية كانت أو سلبيّة-، وندرك تهديده لمصالحنا الإستراتيجيّة ، ننتفض ونُعلنُ النفير، نهُبّ هبّة الرجل الواحد، نُبسمل ونُكبّر ونُهلّلُ، نُحدث ضجيجا وجعجعة، نتظاهرُ ونُهاجم مؤسسات "العدو" المقامة على أراضينا، نحرقُ أعلامه وندوس بأحذيتنا صور زُعمائه ... نرفعُ شعارات رنّانة، ونحرقُ مقرّات بعثاته الدبلوماسيّة والمدارس التابعة لها، نُحدث بها أضرارا جسيمة ثم نُقدّم أموالا طائلة لإصلاحها... نقوم بكل هذا ثم نعود إلى قواعدنا مُنتشين بما حققنا من "إنتصار"، غانمين، مُظفّرين، غير عابئين بما خلّفنا وراءنا من سلوكات همجيّة بدائيّة وخطيرة علينا في  قادم أيامنا ...
نردّ الفعل في أغلب الأحيان بانفعال، دون إعمال للعقل، ودون التفكير والتخطيط للعواقب ...

  • ثورة علي بن غذاهم في تونس عام 1864 لم تكتمل رغم الضراوة التي صاحبتها ورغم تهديدها عرش الملكيّة الحُسينيّة ...
  • أحداث 26 جانفي الشهيرة في نهاية السبعينات لم تُفرز تغييرا جذريّا للأوضاع الإجتماعية وانتهت بسجن عديد النقابيّين ...
  • أحداث "الخبز" في 3و4 جانفي 1984 بتونس أُخمدت بقولة بورقيبة الشهيرة"نرجعو وين كنّا ..."ولم تُسفر إلا عن سُقوط رؤوس بعض السياسويّين وفي مقدمتهم الوزير الأول وقتها محمد المزالي ...
  • المُظاهرات البعدية لنكبة 1967 بأرض الكنانة أنستنا الهزيمة النكراء التي تكبّدها جيش الطيران المصري أمام العدو الإسرائيلي، لإنشغالنا بالمسرحيّة التراجي -كوميدية للريّس جمال عبد الناصر 
  • الأحداث الطلابيّة في تونس بين 1968 و 1969 كامتداد لأحداث 68 في باريس، لم تُغيّر من الأوضاع شيئا إذ واجهتها السلطة القمعيّة بالزج بأعلام اليسار من برسبكتيفيين وأنصار"العامل التونسي" في زنزانات برج الرومي و9 أفريل وغيرها من السجون الأخرى ...
ويبقى السؤال الذي ما انفك يُراودني ويُفقدني توازني مُعلّقا:

 لماذا هذا الإخفاق وهذا القتل المبكّر لأحلامنا؟لماذا هذا الإجهاضُ لطموحاتنا؟ 
ولم لا نحقّقُ أهدافنا؟هل الفشلُ والعمل غيرُ المُكتمل مُكوّن من المكوّنات القاعدية ولشخصيتنا و أحد الجينات المكوّنة لتلك الشخصيّة؟

لا علاقة في رأيي لكل ذلك بما نقرر ونقوم به.ولا علاقة له بالحتميّة ولا بالقدر، كما يحلو للمُتشبثين بالغيبيّات وبالماورائيّات تفسيره ...

خطاب الخبز
https://www.youtube.com/watch?v=tDfJ4_mKQg8


العامل الأساسي وراء  كل هذه الخيبات والصفعات التي نتقبّلها،  يكمن في تقديري المُتواضع،  في عدم التخطيط،  وعدم بناء استراتيجيّة عقلانية على المدى الطويل، وعدم وُضوح الرؤيا عندنا


نحن كعرب،  مجموعة شعوب مُصابة بضبابيّة الرؤيا، نُعاني عمى الألوان ونُبدع في صدّ أبواب العقلانيّة وفي قتل الفكر النيّر.نعشق إستقرار الأوضاع، نكفر بكل تغيير ونعتبره بدعة مُضللة ونُعادي حتى الموت كل مبدع ... نعيش اللحظة الآنية ولا نعير للآتي إعتبارا.شعارُنا اليوم خمر وغدا أمر....
يقتصر جهد سياسيينا على إدارة الشؤون اليومية وقليل منهم من يمتلك رؤيا واضحة لما ستكون عليه أوضاعُنا بعد ثلاثين أو خمسين سنة ...
هل يملك أصاب القرار عندنا فكرة واضحة حول وضع المواطن التونسي في حدود سنة 2050؟هل لديهم فكرة حول ما سيُستصلح من الأراضي وحول انتاجنا من الحبوب سنة 2060 و حول امكانية ان نكون  وقتئذ قادرين على تحقيق اكتفاءنا الذاتي الغذائي في ظل تزايُد سكّاننا الطبيعي؟هل هم قادرون على توفير الحلول الملائمة لكي لا يشكو مُتساكنو العلا من ولاية القيروان العطش في صيف 2040؟هل ضبطوا من الآن أصلاحا تربويّا ينقل منظومتنا التعليمية من النقل إلى العقل ويحولوها إلى منظومة مرافقة وتفكير  لا إلى منظومة تلقين وحشو للأدمغة؟

هذه نبذة من أسئلة عديدة تخامرُني وتندرج في رأيي في خضمّ "التخطيط" وفي صلب استشراف المستقبل- تلك العبارة المُفضّلة  للنظام القديم-، وفي إطار رؤيا بعيدة المدى بدونها لا يُمكن لأي نظام يحترم مُواطنيه عدم اعتبارها في إدارته للشأن العام ...
أود في هذا السياق سرد حادثة دارت وقائعها منذ عقود بين ظهرانينا،  تعكسُ بدقّة ما أعني بعبارة "تخطيط على مدى طويل" ...
الحادثة نقلتُها عن مُربيّة فاضلة، أصيلة احدى قرى عاصمة الأغالبة، نقلتها بدورها  عن والدها الذي كان شاهد عيان على كل تفاصيلها ...
مكان الحادثة هو مدينة حاجب العيون (هي اليوم معتمدية من ضمن احد عشر معتمدية تتكوّن منها ولاية القيروان، تقع في الجزء الغربي من الولاية، تحدّها معتمديتا العلا شمالا وحفّوز شمالا شرقا، ومعتمدية نصر الله جنوبا شرقا، فيما تحدّها ولايتا سيدي بوزيد وسليانة شمالا غربا) ...
في زمن الاستعمار الفرنسي وتحديدا قبل سنة 1967 كان التونسيّون ، باختلاف عقائدهم، يهود ،مسيحيّون ومسلمون، وهم الأغالبيّة، يعيشون جنبا إلى جنب ...
كان هذا الوضع مميّزا لعديد المدن التونسيّة، ومن بينها العاصمة واريانة ونابل وسوسة وصفاقس وقابس وتوزر وجربة وحلق الوادي ...
كل الطوائف كانت تعيش في تناغُم وانسجام تامّين لا يٌعكّر صفوه إختلاف المعتقد والعادات والتقاليد وطقوس التعبّد، بل كان ذلك نبعا ثريّا للتثاقُف ..
وكان لكل اصحاب ديانة مؤسّساتهم التعبّدية من جوامع وكنائس وبيعات ... فيها تُمارسُ العبادات بمطلق الحريّة 
...



في مدينة حاجب العيون، وفي احد أزقّتها من حيّ المرّ، كانت توجد بيعة يهوديّة، يؤمّها اليهود يوميا لتأدية صلواتهم ... وقريبا من هذه البيعة كان اليهود يملكون أغلب دكاكين الحي التجاري،   بينما كان عدد التجار من التونسيين ضئيلا،  ومن بينهم الراوي الأساسي لهذه الحادثة، وكان يملك مكتبة متواضعة، أرادها مركز إشعاع بأنوار المعرفة على ناشئة كانت وقتها مُتعطّشة للنهل من العلوم،  إيمانا منها بأنّه المصعد الوحيد نحو الرُقيّ الاجتماعي والاقتصادي ...
في مناسبات معيّنة كان يأتي إلى يهود الحيّ رجل أنيق اللباس يتأبّط محفظة فخمة، تبدو على مُحيّاه ملامحُ الوجاهة والمسؤوليّة ...
وبمجرّد نزوله من السيارة التي تقلّهُ ، يهبّ نحوه التجار اليهود، يرحّبون به بكل حفاوة، قبل أن يٌرافقوه إلى أحد الدكاكين أين يُقضّون ساعات طويلة في أحاديث ونقاشات ... قبل أن يُودّعه اليهود بنفس الحفاوة التي أستُقبلوه بها، و يغادر المكان ممتطيا سيارته متجها إلى مدينة أخرى ...
أسئلة عديدة كانت تختمر في رأس صاحب المكتبة كلّما زار ذلك الرجل الغريب المدينة واجتمع بالتجار اليهود ...
من تراه يكون؟ ما هي هويته؟
ما هي دوافع مقدمه إلى المدينة؟
لماذا كان يُستقبلُ بحفاوة مُبالغ فيها؟

لم يجرأ على طرح تلك الأسئلة على جاره ورفيق دربه، والذي كانت تربطُه به صداقة متينة منذ الصغر ... كان يظنّ أن ذلك " الغريب " لا يعدو أن يكون رجُل دين يزور أبناء ديانته من حين إلى آخر ... ربّما كان حبرا من الأحبار يأتي ليُجدد إيمانهم أو ليقّدم لهم بعض الفتاوى فيما يتعلّق بما يتعرضون له من إشكالات في حياهم اليومية ...
ولما لم يبلغ مرحلة اليقين من حقيقة الرجل  اتجه يوما إلى جاره وسأله بكل لطف عن الأمر ...
تردّد التاجر يعقوب طويلا، وبعد تفكير عميق أجاب جاره المسلم قائلا: " ذلك الرجل مسؤول يهوديّ يأتينا من حين إلى أخر مُحمّلا بخريطة لمدينة القدس وأحوازها يعرضُ علينا مقاسم من الأراضي ويرغّبُنا في اقتناء قطع أراضي لنُقيم عليها منازلنا في المستقبل،  وندفع المقابل بالتقسيط المُريح جدا.
هذه تفاصيل الحادثة ... لكن المُلفت أنها تعود إلى أربعينات القرن العشرين، أي قبل أن تضع الحرب العالميّة الثانية أوزارها، وقبل أن يقع الإعلان عن قيام دولة إسرائيل من قبل منظمة الأمم المتحدة في 15 ماي 1948 ...
ما هي العبرة التي نستقيها من هذه الحادثة؟
العبرة في رأيي هي كيفيّة تخطيط الأنظمة لمُستقبل شعوبها، فيما تقضي أنظمتنا العربيّة المُوقّرة جلّ أوقاتها للتآمُر على بعضها البعض، وعلى خلق بُؤر التوتّر بين مصر الناصريّة واليمن مرّة، وبين سوريا والعراق مرة أخرى، وبين إيران والعراق مرّة ثالثة، وبين مصر والسودان مرة رابعة، وبين سوريا وبلدان الخليج مرة خامسة، وبين قطر وبقية دول مجلس التعاون الخليجي مرة سادسة ...

كم كلفتنا كل هذه المؤامرات من وقت ومن أموال، لو استُثمرت في الأقطار العربية لتخلّت نهائيا عن الأمية والفقر وسوء التغذية وسوء المُعالجة الصحيّة، ولتحسّنت فيها البنى التحتيّة، ولتحوّلت عموما إلى أقطار يسكُنها مُواطنون يتمتعون بكل الحقوق ويُؤدون نفس الواجبات، لا إلى أقطار يسكنها رعايا يكدحون ليلا نهارا لتحقيق سعادة وراحة ورخاء أمرائهم وملوكهم ورؤساءهم الذين يفرضُون عليهم قهرا تقبيل أيديهم ورؤوسهم، وينحنون عند مرورهم أمامهم ...

لكن لمن تقرأ زبورك يا داوود؟