lundi 24 décembre 2012

من المسؤول عن وفاة الشابين البشير القلّي ومحمد البختي؟



   شابان في مُقتبل العمر، في بداية العقد الثالث ... هما أقرب إلى مرحلة المُراهقة المُتأخّرة منهما إلى سنّ الكهولة ... يغلي حماس الشّباب في شرايينهما ممزُوجا ببقايا دم البراءة وبقدر كبير من المثاليّة المُميّزتين لمرحلة الشباب ... يتوقان إلى غد أفضل ، أحلى وأزهى وأكثر إشراقا من راهنيهما ... يدفعهم الإيمان بمبادئ تشبّثوا بها ... عضّا عليها بالنواجد مُعتقدين أنّه الأفضل والأرقى والأسمى ...
هذا فقط ما كانا يعتقدان... هذا إيمانهما ... تمسّكا به إلى آخر رمق في حياتيهما ...
ومن أجل هذا فقط لهُما منّا أجلّ الاحترام وأعمق الإكبار...

   كم هو جميل تمسّك الفرد بأفكاره ومبادئه التي لا ينفصم عنها حتّى تغدُو جزءا متمّما لكينونته... لكن أليس فضيعا الموت من أجلها مهما كانت قسوة الحياة؟ أليس الحياة أثمن ما في الوُجود؟ أليس جديرا بأن نحياها مهما كانت العقبات؟
أليس في العتمة أحيانا بعضا من النّور؟ أليس في السّواد الداكن بعض بياض؟

   أسئلة حارقة تبقى مطروحة وقد لا نجد الأجوبة الشافية لها، لكنّها تبقى ولزمن طويل مُقضّة لمضاجعنا:
ماذا فعلنا لاحتواء الشّابين؟ هل حاورناهما؟ هل ناصحناهما؟هل تعاملنا معهما بالمنهج القويم وبالقدر الكافي من الحكمة؟هل أقنعناهما بأنّ الحفاظ على النفس التي حرّم اللّه قتلها إلاّ بالحق إنّما هو أحد أهمّ مُرتكزات الإيمان؟هل حاولنا الاقتراب منهما، لنسمع منهما أم أعرضنا عن أطروحتيهما وعاديناهما كما لو كانا يحملان فيروس الجُذام؟
هل حاول زُعماء التيّار السّلفي الجهادي الذي ينتسبان إليه، إقناعهما بألاّ يُلقيا بنفسيهما إلى التهلُكة أم فضّلا استعمالهما وقودا لفرض آراءهم؟

   إن الاعتقاد السائد اليوم أنّ أطرافا ما لم تقُم بدورها ، إن لم نقل خذلت الشابين فتكون بذلك مُتورّطة في عمليّة قتل نفس بشريّة .
 هذه الأطراف هي : المسؤولون المُباشرون الهالكين في السجن ومن ورائهم وزارة العدل والوزارة المُكلّفة بحُقوق الإنسان وكذلك الإعلاميّون الذين انشغلوا بتغطية حادثة وفاة تونسيّ آخر في مدينة تطاوين ذهب بدوره ضحيّة العُنف السياسي وهو محمد نقض ، وكذلك جمعيّات ومنظّمات المُجتمع المدني ورابطة حُقوق الإنسان ...

   ثلاث حالات وفاة كان بالإمكان تفاديها بقليل من الحكمة والتبصّر وحسن التصرّف.
أليس من العار والقصور غير المُحتمل الآ يهتدي أيّ طرف إلى الحلّ الصحيح وانساق الكل في ضلال يعمهُون؟

   ثلاث تُونُسيّين أعزّاء على قُلوبنا كبقيّة أفراد شعبنا، لهُم عائلاتهم وزوجات وأبناء  وأمّهات وأقارب وجيران سيفتقدونهم... ثلاث تونُسيّين راحوا هباء منثورا... لم يتركوا لنا غير الألم يعصف بنا والنّدم على عدم تدارك الأمر والحسرة و... الشّعور بالذنب ...

     إنّ الشعور الفظيع بالذنب يعصرُني... يتسرّبُ إلى داخل كياني... يكاد يُفجّرُني...
يغمُرُني إحساس بعجزنا عن نزع الغشاوة التي تعمي أبصارنا وتُغطّي بصائرنا وتُحيل بيننا وبين أن نصبر على بعضنا البعض... أن نتحمّل بعضنا البعض... أن نُحاول فهم بعضنا البعض قبل أن يُسرع أحدُنا  إلى إدانة الآخر دون البحث عن  قد يساعده على فهمه.

   بوسع بلدنا احتواؤنا مهما باعدت بيننا الأفكار ومها تباينت مبادئنا وتضاربت،  ومهما تنوّعت ثوابتنا، بشرط  أن نبحث جميعنا عن المُشترك بيننا ونسعى إلى تنميته والبناء على أساسه، لأنّه لم يحدُث أيّ إجماع بشريّ حول قضيّة ما.ألم يختلف المُسلمون في السّقيفة اختلافا " وقى اللّه المُسلمين شرّه". إنّ الاختلاف بين البشر يشمل حتّى وُجود الذات الإلهية فما بالُك بالقضايا المعيشيّة.
إن التناقُضات والاختلافات من أهم مّكوّنات منظومة الحياة... إنّها تُعطيها أجمل ما فيها من معاني وتُوفّر أحد أهمّ الأسباب التي تجعلُها جديرة بأن تحيى...

   إنّ في تعايُش وتجاوُر المُتناقضات تعبير بليغ عن تلك السيمفونية العجيبة والغريبة المُسمّاة" فلسفة الوُجود ". فلننظر كيف يتجاورُ الموتُ والحياة، الجمالُ والقُبح، النّور والظّلام... ولننظر إلى النّبتة وهي تتحفّزُ لا تنمو براعمُها الجديدة حتّي يسقُط الميّت من أوراقها ليتحوّل إلى سماد طبيعيّ يُغذيها.
   هكذا يتداخل الموتُ في الحياة، فكيف والحال هذه لا يكون الكونُ في الذهنيّة العامة مُتسامحا مفتوحا مشتركا كما كتب ذات مرة الطيب لبيب في مقال له بجريدة " المغرب " بتاريخ 20 نوفمبر 2012، الصفحة 17.

  أليس من العيب أن يُفضي الإخلاف بيننا إلى أن يُشهر البعضُ منّا السّيوف في وُجوه البعض الآخر؟ أليس الأفضل الجُنوح إلى المُسالمة والمُجادلة باللّسان؟
أليس من حقّ كلّ واحد منّا أن يكون له رأيُه الخاص وتوجّهه الخاص وطريقة عيشه ونمط حياته مأكلا ومشربا ودثارا .
أليس من الخطأ أن نرد على الرأي بغير الرّأي،  وعلى الحُجّة بغير الحُجّة،  وعلى الكتاب بغير الكتاب،  وعلى الفيلم بغير الفيلم،   وعلى الرسم الكاريكاتوري مهما حمل في ثناياه من مسّ لكبريائنا و سوء لمن نراه كمُسلمين خير الأنام، بالتكفير الغبيّ والإهدار الأحمق لدم مُنتجه؟

     في هذه الحالات لا يُمكننا غير توظيف الحكمة لأنّه بغير ذلك لن نهتدي إلى الحُلول الناجعة لمُعالجة القضايا المطروحة علينا وما أكثرها وقد أصبحت تُرعبُ السواد الأعظم من شعبنا.

    رحم اللّه المُتوفّين وعسى أن تكون وفاتهم رسالة نستوعب مضمُونها لتحقيق توافُق بين كلّ الأطراف وأن يكُون لها  معنى نستفيد منه جميعا.

                                                                                                                                                                             العوينة، نوفمبر 2012.

lundi 17 décembre 2012

دعاةُ السلفيّة والفتاوى الغريبة


   أنا من مواليد جيل الاستقلال، أمّا أجدادي وآبائي فقد وُلدوا زمن الاستعمارين العثماني ثم الفرنسي بعده، و عاشوا على غرار الأغلبيّة السّاحقة من مُتساكني هذا البلد الطيّبين، الفقر والهُوان في ظلّ أنظمة طاغية،  وتجرّعوا علقم الجهل وتعرّضوا لفتك الأمراض والأوبئة.
أبناء جيلي عايشوا استقلال البلاد وحلموا بالحريّة والإنعتاق والتمتّع بخيرات البلاد التي كان الغرباء عنّا يستغلّونها بدون حياء، ليُطلّقوا الفاقة ... هذا ما كان يُمنّيهم به قادة حزب الدستور الذين تزعّموا الحركة الوطنيّة.
   كم كانت جميلة تلك الأحلام ... لكنّ الواقع بددها، بخّرها فتسرّبت من بين أصابع أيدينا كتسرّب الثروة النّفطيّة من بين أصابع أيدي العرب من غير أن تُحقّق لهم اقتصادا متينا أساسُه الاكتفاء الذاتي وعدم التبعيّة لدول الشّمال...
    صدمنا الواقع المرّ، وعانينا القمع في الجامعات واقتيدت نُخبنا من اليساريين إلى السّجون والمنافي أين ذبُلت أزهار شبابهم وتعطّلت مسيرتهم لكسب المعرفة...Quel  gâchis!!!

   وكما لو أنّ هكذا مُصاب لم يكُن كافيا،  فقد عشنا انتكاسات العرب المُتعاقبة بدأ ب 1948 ثم 1965 ثم 1967 ثم احتلال بيروت في الثمانينات وصولا إلى الاعتداء على روح الأمّة العربيّة في العراق الشّامخ دوما  ...

   خيبات  تجرّعنا مرارتها  ... كسّرت أشياء كثيرة في دواخلنا  ... ملأتنا إحباطا  ... غرست فينا شُعورا بالنقص لم نتخلّصُ منه إلاّ ببعض إيمان بقي عالقا بأعماق الكثير منّا  ... تلك منّة من اللّه علينا لإعانتنا على تجاوز ذواتنا أو ... هكذا خُيّل إلينا ...

   عشنا في أقطار بذل آباؤنا من أجل استقلالها الغالي والنّفيس، لكنّها تحوّلت إلى مزارع خاصّة لطُغاة استفردوا فيها بالحُكم... أقصوا شعوبهم ... صادروا حُريّاتهم وسلبوا منهم أبسط حُقوق الإنسان بداعي تحقيق الوحدة الوطنيّة... لينعموا هم وحدهم بنعيم الدنيا ، بينما يُؤاخي سواهم  البُؤس والشّقاء والجوع ويمنعُهم عن الاحتجاج أو حتّى عن مُجرّد النّقد " علماء " رفعوا سُيوفهم دفاعا عن نظريّة " طاعة أولي الأمر " و " الولاء للحاكم " وانساقوا مُنسجمين مع الأنظمة القائمة.

  كتب أحد المشائخ وهو السعودي محمد صالح العثيمين ( ولد سنة 1929 وتوفي سنة 2001 )، وهو سلفيّ وهابيّ ومن مُتّبعي مذهب ابن تيميّة، في كتابه " شرح العقيدة الواسطيّة "، طبعة سنة 2006، الرياض، صفحة 657 ما يلي:

   " أهل السُنّة يرون ... إقامة الحج مع الأمير وإن كان من أفسق عباد اللّه ... ويرون إقامة الحج مع الأمراء وإن كانوا فُسّاقا حتّى وإن كانوا يشربُون الخمر في الحجّ، لا يقُولُون هذا إمام فاجر، لا تُقبلُ إمامته لأنّهم يرون أنّ طاعة وليّ الأمر واجبة وإن كان فاسقا بشرط أن لا يُخرجُه فُسقُه إلى الكُفر البُواح الذي عندنا فيه من اللّه بُرهان ... "

   يستشهد الشيخ في ذلك بقوله تعالى : " والذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه  ويقطعون ما أمر اللّه به  أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم  وسوء الدار " سورة الرعد الآية 25، معتبرا في ذلك أن أن الفُسق / الفُجور هو دون الكُفر، ومهما بلغ فإنّ الولاية لا تزول به بل هي ثابتة والطّاعة لوليّ الأمر واجبة في غير المعصية!!!

   إن كُهول اليوم وكذلك أولئك الذين دخلوا مرحلة الشيخوخة منذ بضع سنين ، عاشوا الظّلم والانكسار والقهر والانكسارات والانتفاضات الشعبيّة التي أغرقها النظام في الدماء ( مصر، تونس، السودان ...)
... قضوا عمرا بلا عزّة ...بلا هيبة ... بلا نخوة ... يلوكون المرارة تلو الأخرى لأكثر من نصف قرن ...
انقسموا إلى رافضين للأمر الواقع مُتعنّتين ومُنددين بصوت عالي بمُمارسات أنظمة انسلخ قادتُها عن أحلام شُعوبهم، فكان مصيرُهم أقبية السّجون، وإلى صامتين صابرين قانتين يعصف بهم اليأس أحيانا والأمل أحيانا أخرى، يرنون إلى الأفق الأعلى،  ينتظرون ما قد تجود به عليهم السماء من تغييرات، وإلى آخرين انساقُوا مُزمّرين مُهلّلين مُطبّلين مباركين لأنظمة لا يربطُهم بها سوى مقدار ما تٌحقّقُه لهم ولذويهم من امتيازات ماديّة ومناصب تختلف أهمّيتُها باختلاف ما يُبدون من ولاء .

   أما الشباب الذي قاسم آباءه سنوات الجمر وكبت الأصوات التي ترنو إلى التغريد بالحريّة، فإنّهم وفي لحظة ما زحفُوا رافضين وضعا مُعاكسا لصيرورة التّاريخ الطبيعي، يُنادون بوضع حد لكل المظالم والمآسي  التي عاشوها وعاشها آباؤهم من قبل، مُكسّرين،  بشعارات سلميّة،  أركان نظام نخرته الأمراض الاجتماعية،  وعمّه الجهل والفسق وأنانيّة مُفرطة،  واعتداءات على حُقوق النّاس وعلى مُمتلكاتهم،  ممّا أدى إلى فرار رأس النظام.
  
   إن هذا الشباب الذي كان بعضهم وقودا للثورة ليس اليوم على استعداد لتقبّل ما تجُود به قرائح من استقدمهم السلفيّون وأنصار الشريعة، بمُباركة من حزب حركة النهضة وبمُرافقة بعض رُمُوزه أمثال اللّوز وبو صرصار وشورو، من فتاوى يُطلقُ بعضُها على الهواء فتستقطبُها عُقول غير مُكتملة الإدراك، محدودة المعرفة والتّأويل والفهم الصحيح لمقاصد النص القرآني، عُقُول أفرزها بامتياز النظام الدكتاتوري بتركيزه منظومة تعليميّة أُفرغت من مُحتواها، وبإصداره كلّ ما يُشجّع على الكسب السريع بأقلّ ما يُمكن من البذل والجُهد والمُراجعة للمُكتسبات التعليميّة التي ما أن  يُختبر فيها المُتلقّون حتّى تتبخّر وتُصبح كأنّ شيئا لم يكُن، إلى حد  أن المُربّين أصبحوا يتعجّبون لوُجود بعض من ما زال من التلاميذ من هو مهووس بحبّ اكتساب المعرفة و بالسّعي إليها أينما كانت، كأنّه أطلّ عليهم من زمن أو من كوكب آخر.
  
   وبالرغم من كلّ هذه النقائص فإنّ الخير كلّ الخير في شباب رافضا شيوخا أطلّوا عليهم من زمن غير زمنهم، يُقدمون فتاوى، تنتشر عبر الشّبكات الاجتماعية،  بعضها يُثير الضحك وأغلبُها يبعث على الشّعور ب ...الغثيان، من بينها:
* تحريم اختلاء الأب بابنته في غياب الأم!
* ختان البنات لكبح جُمُوحهنّ الجنسي !
* جواز نكاح الزوجة المُتوفاة نكاح وداع! ( لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم، ألا يكفي الرجل مرارة فقدان زوجته حتّى يُجامعها؟؟؟)
* إرضاعُ الكبير ( أعرفُ كثيرا من المُراهقين يتحرّقون إلى الارتقاء إلى مرتبة الكبير!!! )
* وآخر بدعة / فتوى أخرجها الشيخ محمد العريفي،  تدعو إلى التساؤل بجديّة عن مدى صحة المدارك العقليّة للرجُل، وهي  تبريره الزنا بإضفاء صبغة الشرعيّة عليه، وتسميته ب " زواجُ المُناكحة " و يُعرّفُه بأنّهُ الزواج الذي تقُومُ به المُسلمة المُحتشمةُ البالغة 14 سنة فما فوق أو المُطلّقة أو الأرملُ، مع المُجاهدين في سوريا،  وهو في نظره  جائز شرعا، وليس أكثر من  زواج لبضع ساعات. والأنكى اعتبارُه  من موجبات دخول الجنّة لمن تُجاهد به!!!
بشرى لأخواتنا السوريّات، الجميلات اللواتي قيل فيهنّ أن من لم يتزوّج شاميّة فقد مات أعزبا، بشرى لكنّ بالجهاد في سبيل اللّه، بمنحكن أنفسكن لأخواتكن الثائرين في وجه الطاغوت الأسدي، مقابل الجنّة!!!

ما أيسر هكذا جهاد!!! أظنّ أنّه لا يوجد أيسر منه سوى" دُخول المرء الجنّة في هرّة ".  

   للعلم فإنّ محمد العريفي هذا قد زار بلادنا في الأسابيع الأخيرة ومكّنه السلفيّون من اقتحام معاقل الفكر عندنا،  وإلقاء المُحاضرات في جامعاتنا، في حين يُمنعُ أصحاب الفكر النير من التونسيّين من أمثال ألفة يوسف ويوسف الصدّيق من إلقاء مُحاضرات بمدينة قليبية الجميلة في الصائفة الماضية، ويُكفّر أستاذ الأجيال محمد الطّالبي ويُتّهم بالخرف!!! دنيا عجيبة وغريبة فعلا.

   إنّ أمثال هؤلاء الدعاة ليسوا في الحقيقة سوى دُعاة للكراهيّة العُنصريّة والمذهبيّة ، يقسّمُون المُجتمع، كما فعل ذات يوم الداعي الآخر، وجدي غنيم، إلى مُسلمين وكفّار، زارعين بُذور الفتنة والإساءة، يتقاطعون في دعوتهم مع السلفيّة الجهاديّة التي يرى المُنتسبُون إليها أنّ الخلف، وإن بالسّيف امتداد لسلف صالح، قافزين بذلك على حُدود الزمان والمكان، غير عابئين بما طرأ على العالم من مُتغيّرات وتحوّلات جذريّة عبر حقب تاريخيّة جعلت من الوضع غير الوضع، ومن العالم غير العالم، ومن السّياق غير السّياق، فأصبح الرّاهن غير الماضي البعيد، ومع ذلك تراهُم رافضين وُجود الآخر المخالف لهُم، ويُعادون الديمُقراطيّة التي اعتنقتها أغلب بلدان العالم اليوم،  واعتبرتها أقلّ الأنظمة عُيُوبا، ولا يرون فيها غير"  منظُومة كُفر وفساد "، لأنّها تمنح الإنسان حريّة التّشريع، في حين أنّ التشريع في نظرهم من الوظائف الإلهية المُطلقة.

   إنّ اللّه خلق الإنسان في أفضل صورة، وحمّله مسؤوليّة أشفقت الأرض والجبال والسماوات من حملها، وزرع فيه عقلا ليعقل الخبيث من الطيب، وليُدرك به حقائق الأمور وأسرار الكون الفسيح، وليرسُم الخُطوط الكبرى لخريطة وُجوده ككائن فاعل في هذا العالم، مالكا لمصيره، يُقارعُ الحُجّة بالحُجّة ، لا بحُجّة العنف الذي انطلق من عمليّات باب سويقة، وتفجيرات ببعض الفنادق السياحيّة  بمدينة المُنستير، في بداية ثمانينات القرن الماضي، ليتواصل بعد أن عرف فترة من الخمود مع عمليّة مدينة سليمان المُسلّحة، ثم الهجوم على بيت صاحب قناة نسمة التلفزيّة بعد بثّها لفيلم برسيبوليس التي اعتُبرت بعض لقطاته المصوّرة مسّا من الذات الإلهيّة، ليتواصل في مدينة بئر على بن خليفة، ثمّ في مدينة تونس يوم غزوة السفارة الأمريكيّة، فحوادث دوّار هيشر، قبل قتل المُواطن لطفي نقض بمدينة تطاوين وسحله، وليصل هذه الأيّام إلى المُطاردة بين قوات الجيش الوطني وعصابة مُسلّحين قتلت رجُل أمن من مواليد قرية الكرمة( الهوارب سابقا).

   كلّ هذه الأحداث ليست سوى تعبير صريح عن رُؤية السلفيين لقضايا المُجتمع، وتجسيم لطُرق مُعالجتها.

   فهل يسير بنا الفكر السلفي وما يُنتجُه من فتاوى غريبة عن واقعنا وتراثنا وتاريخنا الثقافي إلى حرب أهليّة،  تأتي على الأخضر واليابس وتنسف ما هو جميل في بلدنا، أم إلى انقلاب يُحوّل البلاد إلى رهينة بين أيدي المشائخ على غرار ما حدث في إيران حيث يشنق المُعارضون ويُعلّقون عاليا في رافعات ليكونوا عبرة لغيرهم؟

                                                                                            العوينة، ديسمبر 2012.


mercredi 12 décembre 2012

الإضراب العام ليوم 13 د يسمبر إضراب سياسي!!!


  

  من أغرب التّهم التي أصدرت في شأن الإضراب العام ليوم 13 ديسمبر 2012 أنّه إضراب سياسي. وردت هذه التّهمة على لسان مرشد حزب حركة النّهضة الأستاذ( سابقا ) راشد الغنّوشي صاحب المقُولة الخالدة: إنّ روابط حماية الثورة هي الضمير الحي لثورة 14 جانفي 2011، ورددها بعده كلّ أعضاء الحُكومة – وهل يقدرون على مُخالفته – باستثناء النّاطق الرسمي باسم الحركة الأستاذ عبد الفتّاح مورو الذي أعرب أيضا عن عدم مُوافقته على مشروع قانون تحصين الثورة الهادف إلى إقصاء التجمّعيين من الساحة السياسيّة.

   إن هذه التّهمة لا تخرُج عن إحتمالين اثنين، إمّا أن تكون صدرت عن مسؤولين على رأس الدّولة جاهلون لتاريخ هذه الأمّة ولتاريخ الإتحاد العام التونسي للشغل، وتاريخ المُنظّمة النقابيّة التي سبقت إنشاءه وهي جامعة عُمُوم العملة التّونسيّة التي أسّسها محمد علي الحامي في أواخر سنة 1924، أو أنّهم يستنقصون ذكاء التّونسيين ويعتبرونهم إلى السذاجة وقصر الذاكرة والجهل أقرب منهم إلى معرفة دقائق تاريخهم. وفي كلتا الحالتين فإنّ الأمر على درجة من الخطورة ويدلّ على أنّه ليس للثورة ما تستحقّ من المسؤولين وأنّ من يُشرفُ على إدارة دواليبها ليس في الحجم المؤمل La Révolution Tunisienne mérite mieux que ceux la.

  إن القول أنّ الدعوة إلى الإضراب العام إنّما هي من قبيل العمل السياسي  لا يعكس غير الجهل بطبيعة العمل النّضالي نقابيّا كان أو مدنيّا أو حُقوقيّا، لأنّ جُلّ الحركات النقابيّة في العالم مُنحازة اديولوجيّا أو سياسيا منذ أن تأسّست الأمميّة الاشتراكية الأولى، وحتّى قبل ذلك بكثير عند تأسيس إتحاد النقابات البريطانية إثر الثورة الصّناعيّة The Trade Union. بالإضافة إلى ذلك فإنّ الكثير من المُنظّمات النقابيّة ذات صبغة حزبيّة واضحة إن كان ذلك بالولايات المُتّحدة الأمريكيّة أو ببريطانيا أو بفرنسا أو بأقطار  أمريكا اللاتينية ، ومُرتبطة بالأحزاب الشيوعيّة أو الاشتراكية أو التروتسكيّة أو المسيحيّة الديمُقراطيّة .... هذا من ناحية أولى .

   من ناحية ثانية فإنّ النّضال النقابي التونسي الذي تأسس في سنة 1924 بهُويّته التونسية على الأقلّ، كان تعبيرا عن إرادة العُمّال التّونُسيّين في القطع مع الكُنفدراليّة العامة للعمّال التي غلبت على نضالها النزعة الاستعمارية ، وهو على عكس ما يجب أن يقُوم عليه العمل النقابي كما هو مُتعارف عليه في كلّ أنحاء العالم، ورغبة منهم في تحسين أوضاعهم المهنيّة والماديّة بتنظيرهم مع رفقائهم العمّال من حاملي الجنسيّة الفرنسيّة، في الامتيازات وفي عدد ساعات العمل، ولا أدلّ على ذلك من قول محمد علي الحامي في الاجتماع التأسيسي لجامعة عُمُوم العملة التّونسيّة في أواخر سنة 1942 أنّه  لا معنى للمُطالبة بتحسين ظروف العمّال التّونسيّين في ظلّ دولة مُستعمرة.

   إنّه لمن الحماقة والسذاجة وكساد الطّبع على حد قول  الأستاذ مُصطفى الفيلالي ، ألاّ يُعتبر هكذا مطلب على أنّهُ مطلب سياسيّ!!!
       ثمّ متى وُجد تفريق بين الاجتماعي والسياسيّ من المشاكل التي تهزّ المُجتمعات، أليس كلّ قضايا المُجتمع سياسيّة كما أنّ كل القضايا السياسيّة هي قضايا تهُمّ المُجتمع Les problèmes politiques sont les problèmes de tout le monde, et les problèmes de tout le monde sont des problèmes politiques.

   إنّ إتحاد حشّاد الذي تأسس غداة الحرب العالميّة الثانية، بعد إفشال التجربتين النقابيّتين، الأولى على يد محمد علي الحامي، والثانية التي حاول من ورائها الدستوري بلقاسم القناوي إعادة الروح لجامعة عُمُوم العملة التونسيّة سنة 1937، كان البوتقة التي ضمّت  كلّ مُعارضي الاستعمار من الوطنيّين يتقدمُهم النقابيّون في زمن كان فيه الزّعماء السياسيون في غياهب السجون الفرنسيّة بعد حوادث 9 أفريل 1938، وإليها لجأ الوطنيّون باختلاف مرجعيّاتهم الفكريّة وقناعاتهم السياسيّة . فهل كان يُلامُ حينها على اشتغال الإتحاد بالسياسة وبأنّه كان ملاذ المُناضلين الأوفياء لمعركة التحرير الوطني؟؟؟

   من ناحية ثالثة فإنّ الإتحاد نجح بامتياز في المسك بطرفي المُعادلة : الاجتماعي والسياسي، وذلك من خلال إنخراطه في بناء دولة الاستقلال،  وإرساء بُناها التحتيّة،  ورسم خريطة الطّريق لاستشراف المصير المُشترك، وتقديم  الدراسات فيما يتعلّق بإصلاح القطاعات الاقتصادية،  وإعادة تنظيم هياكل الوظيفة العُموميّة،  ورسم الخُطوط الكُبرى لبرامج ومُخطّطات التنمية الاقتصادية،  وإصلاح المنظومة التربوية وتونستها وتحسين مردوديّتها، ومزيد إحكام التغطية الاجتماعية، وما على المُشكّكين في ذلك، وعلى من يلوم الإتحاد على الاهتمام بالشّأن السياسي من سادتنا المسؤولين على إدارة شؤون هذه المرحلة الانتقالية الثانية بعد الثّورة، إلاّ العودة إلى اللّوائح المُنبثقة عن المُؤتمر السّادس للإتّحاد العام التونسي للشُغل، وإلى اللاّئحة الاقتصادية لمُؤتمر الحزب الدستوري بمدينة صفاقس.

   لذا كفانا إدعاءات باطلة واستبلاه للرّأي العام ومُحاولات لكتابة أحاديّة للتّاريخ، وعلينا اليوم أكثر من أيّ وقت مضى التخلّص من النظر إلى الشّؤون المصيريّة من زاوية ضيّقة.
  ألا يكفي ما عانيناهُ من اعتداءات على الذاكرة الجماعيّة وعلى ذكاء التونسيين طيلة 23 سنة، وهل نحن في حاجة إلى المزيد من هكذا صنيع؟
إنّ من يعتقدُ ذلك فهو يُعيد إنتاج سياسة ثار ضدها الشعبُ ذات 17 ديسمبر 2010 وواراها التّراب ذات 14 جانفي 2011 – أو هكذا يعتقد -، ويُعيد ارتكاب نقس حماقات النظام البنعليلي . فعسى ألاّ يُؤدي ذلك إلى ثورة ثانية، إن كنّا نُكنّ حقّا لهذا البلد كلّ الحبّ الصّادق واللاّمشروط.

                                                                                                                 العوينة، 12 ديسمبر 2012.

   

jeudi 25 octobre 2012

الذكرى الأولى لانتخابات 23 أكتوبر 2012 : الأوضاع في تونس

مجموعة زواولة
http://shr.tn/GGub



كانت الفرحة بادية على وجوه التّونسييّن الذين اندفعوا تلقائيّا منذ الصباح الباكر للاصطفاف بكل ما في الاصطفاف المنظّم الذي لم نتعوّد مُشاهدتهُ من معاني التحضّر، أمام مكاتب الاقتراع قبل أن تُفتح حتّى ...
   وكم كانت البهجة تعلو الأوجُه رغم الانتظار ساعات طويلة تحت أشعّة الشمس اللاّفحة يومئذ، يوم 23 أكتوبر 2012 ...
بهجة امتزجت بمُؤشّرات الرضا لممارسة حقّ لم يُمارسُه التّونسيّون بمُطلق الحريّة والمسؤُوليّة منذُ الاستقلال وتحديدا منذ انتخابات 1981 التي اعترفت وزارة الداخليّة لاحقا بتزوير نتائجها ترضية للماسكين بمراكز النّفوذ والمُتطلّعين إلى تأبيد سلطانهم وتقييد رغبات المُتساكنين والحد من حريّتهم في الاختيار، وضمانا لمصالحهم الدنيويّة التي راكموها عُقودا طويلة عبر هرميّة حزبيّة تُسيطر على مفاصل البلاد من شعبة الحيّ إلى اللّجنة المركزيّة للحزب الحاكم، الذي منع رئيسها التعدديّة الحزبيّة من الستينات إلى بداية الثمانينات أي منذ مُحاكمة المُتورّطين في التخطيط لتنفيذ انقلاب ضد النظام القائم آنذاك...
   أدلى الناخبون الذين تمكنت الهيأة العليا المُستقلّة للانتخابات من تسجيل أسمائهم في سجلاّت الناخبين، من الإدلاء بأصواتهم وأعلنت النتائج فوز مُرشّحي حزب حركة النّهضة بنسبة عالية من الأصوات، لكن غير كافية لتمتعهم بالأغلبيّة المُطلقة، ممّا حتّم تحالُفهم مع  حزبي المُؤتمر والتكتّل لتشكيل حُكومة، بينما خيّر المُستقلّون وبقيّة الأحزاب الدخول في المُعارضة، في مُقدمتهم الحزب الديمقراطي التقدمي ...
وسرعان ما اندفع "الفائزون" في الانتخابات يتبجّحون ب" الشرعيّة الانتخابية" وبتمثيلهم "للسلطة الشرعيّة الوحيدة"، ويرفعون شعار"المجلس سيد نفسه"، وحددوا لأنفُسهم مهام ثلاث وهي صياغة الدستور ومُراقبة أعمال الحكومة وتشريع القوانين، وما على أصحاب "الصفر فاصل" في شرعهم، غير الانصياع لاختيارات الأغلبيّة !!!
   بعد التصويت على رُؤساء السلطات الثلاث، رئيس المجلس الوطني التأسيسي ورئيسي الجُمهوريّة والحكومة، انطلق العمل على الملفّات الكُبرى المُلحّة أو هكذا خُيّل لنا، بينما انبرى أعضاء المجلس الوطني التأسيسي في مُعالجة قضايا بدت لأغلبيّة الشعب هامشيّة وأضاعت وقتا ثمينا كان من الأفيد استثماره في كتابة الدستور ووضع أُسس الهيئات المُكلّفة بتطهير القضاء والإعلام والإعداد للانتخابات القادمة ومُكافحة الفساد الذي نخر دواليب الدولة وجلب الأموال المُهرّبة إلى خارج البلاد وإعادة هيكلة ما أفسده النظام الدكتاتوري المُنهار، دون الإغفال عن تحقيق مطالب الشعب التي قامت على أساسها الثورة وهـــي "التشغيل والحُريّة والكرامة الوطنيّة".
    واليوم وبعد سنة منم الانتخابات، ما الذي علق في الذاكرة وما هو اللاّفت على المُستوى السياسي؟

   أنجز المجلس الوطني التأسيسي الكثير من الأعمال فيها الإيجابي والأقلّ إيجابية، وكذلك الشّأن بالنسبة للحُكومة، غير أن ما علق بالذاكرة هي الإنجازات الأقلّ إيجابية، أو ما أتّفق على وصفه بوُضوح أكثر  بالسّلبي ، الذي يؤثّث اليوم حوارات التونسيين ونقاشاتهم السياسية، تلك النقاشات التي يحوم جُلّها حول" العُنف السياسي " الذي بدأت فرائص التونسيين ترتعد لمُجرّد ذكره، والذي بدأ يُهدد بإدخال البلاد في متاهات العنُف و العُنف المُضاد، خاصة بعد تجاوُز عتبة المحضُور باسم"حماية الثورة"و"تطهير البلاد من رُمُوز الفساد" وإزهاق روح مُواطن تونسي تجري في شرايينه دماء تونسيّة وأب لستّة أطفال وهو المرحوم محمد لُطفي نقض أصيل ولاية تطاوين ورئيس الإتحاد الجهوي للفلاّحين والمحسوب على "حركة نداء تونس".
.الطبيب يسأل وزير الداخلية السيد علي العريض على سبب وفاة محمد نڨض و هو يجيبه أنها نوبة قلبية
صورة للرسام الكاريكاتوري علي بلخامسة 

   لقد أفزعت هذه الحادثة أغلب التونسيين وأصبحوا يخشون " لبننة البلاد "La libanisation de la Tunisie وفتح أبواب جهنّم لصراع سياسي بين " الشّرعيين " ومُعارضيهم المُلقّبين بغير حياء ب" أصحاب الصفر فاصل"، استُعمل فيه العُنف كأداة إقناع والقتل كأداة إخضاع.
ولئن كان  التنافُس-الصراع السياسي بين أحزاب مُتباينة المرجعيات ومُتناقضة الإيديولوجيات والأهداف والمشاريع مُحبّذا في الديمُقراطيّات التي نهدفُ إلى الاستفادة من خبرتها الطويلة ومن تنظيم مُؤسّساتها لتأسيس وطن حرّ يتّسع لجميع الفُرقاء السّياسيين، ويُعبّر كلّ طرف فيه عن آرائه دون خشية من تعرّضه للعنف المادي، فإنّ ما يُثير المخاوف في بلادنا إنّما هو عدم التوازُن بين طرفي التنافُس – الصّراع، ذلك أن أحد الطرفين لا يملك غير قوّة الحُجّة سبيلا إلى الإقناع، وهو الطرف المُعارضَ، بينما يتملّكُ الطرف الثاني " الشرعيّة" ويستند إلى تيّار عنيف لا يرى غير حُجّة القوّة سبيلا إلى فرض ما يراه صالحا للبلاد وللعباد، وأعني بذلك التيّار السلفي الجهادي الذي يصفُه أحد مُؤسّسي الاتجاه الإسلامي، الشيخ عبد الفتّاح مورو بقوله:
" إنّ الظاهرة السلفيّة الجهاديّة هي الخطر الأكبر الذي يُهدد تونس ما بعد الثورة نحو خّطواتها الأولى باتجاه الديمُقراطيّة."!!!

هذا الخطر ورم لسرطانيّ سريع الانتشار في الجسد السياسي للمُجتمع، وهو الأخطبوط الذي يمد مجاسه في كلّ الاتجاهات ليمتصّ النّور والانفتاح ورحيق الحداثة من جسد الأمّة ويُعوّضه بالانغلاق والانعزال في دهاليز ماضويّة كالحة الظُلمات.

   هذا الخطر بدأ يتضخّم كتضخّم كُرة الثلج المُتدحرجة من أعالي المُرتفعات، ومرّ بمراحل عدة، وأكّد كلّ مرة عجزا تاما وانعداما في كفاءة الحُكومة للتصدي له، ولعلّ

 أكثر تلك المراحل أهمية ما أُتُّفق على تسميته ب " غزوة السفارة " عشيّة 14 سبتمبر 2012 والاعتداء على مقامات أولياء اللّه الصّالحين مرورا بمقتل المُواطن محمد لطفي نقض بمدينة تطاوين، وهو لعمري أقصى درجات العنف السياسي.

ماذا كان رد فعل السلطة الحاكمة إزاء جريمة القتل هذه؟
صدر بيان رسمي عن وزارة الداخليّة يُعلم الرأي العام بأنّ المُواطن م.لطفي نقض توفّي إثر سكتة قلبيّة علما وأنّ تقرير الطبيب الشّرعي لم يُنجز بعدُ!!!
أيّ عبث هذا؟ هل نحن أمام مشهد من مسرحيّة " القضيّة "،LE PROCES للكاتب المسرحي فرانز كافكا؟

هل يُمكن أن يصل الغباء ببعض أجهزة السلطة إلى هذا الحد؟
هل يمكن أن يصل إستغباء المُواطنين إلى هذه الدرجة من السّادية؟
ما أتعس ألاّ يتّعض المسؤول السياسي بما في التاريخ من دروس وعبر!!!
بالأمس القريب عشنا نهاية نظام أمعن في إستغباء شعب كامل، فكيف كانت نهايته؟
ألا يتّعض أولوا الألباب بهكذا حدث؟
والأنكى أنّه في الوقت الذي يشير فيه الشيخ عبد الفتّاح مورو إلى خطر السلفيّة المُهددة للبناء الديمقراطي، فإنّ الشيخ الثاني المُؤسس لحركة الاتجاه الإسلامي، والذي تحوّل إلى زعيم روحي للحركة، الأستاذ راشد الغنّوشي، كثيرا ما لطّف من زلاّت " أبنائه " واعتبرها " حالات معزولة " وأنّه " يرى في السلفيين شبابه "، وأنّهم " أبناء تونس ولم نستوردهم من المرّيخ "، وأنّه لا يمكننا" فصل أنوفنا عن وجُوهنا " وأنّهم " لا يقومون بغير التعبير عن آرائهم بعد طول مُعاناة من الكبت والحرمان والقهر تحت نظامين دكتاتوريين استبداديين للمخلوعين "!!!
يبدو من تبايُن مواقف زُعماء حركة النّهضة أنّ تلك المواقف إنّما تخضع لسياق منطق ازدواجي مُمنهج حسب تقسيم مُحكم للأدوار في " لعبة السّفيه والعاقل ".
السلفيون خطرون جداً حسب منصف المرزوقي رئيس الجمهورية المؤقت
المصدر: فايسبوك صفحة الصباب L'INDIC
http://shr.tn/Vxgt

   لقد تبيّن اليوم لكلّ ذي بصيرة أنّ السلفيين يُمثّلون الأذرعة العنيفة لحزب حركة النّهضة، وأنّ السلفيّة لا يمكن البتّة أن تكون من دعاة الحريّة، وأنّه لا يمكن للسلفيّين أن يكونوا بأيّ حال من الأحوال ديمقراطيّين، لأنّهم بكلّ بساطة ليسوا مؤهّلين لا ذهنيّا ولا مورفولوجيّا لقبول الرّأي الآخر وأنّ عقولهم قولبت في إطار مُتكلّس ترفض الرّأي المُخالف لأنّها تنطلق من مُسلّمات لاترى لها تبديلا أو تغييرا بأيّ حال من الأحوال مهما اختلفت الظروف وتعاقبت الأزمنة وتنوّعت المُتغيّرات، وتعضّ بالتواجد على ما تعتبره حقائق مُطلقة وأزليّة، وتحديدا إذا ما تعلّق الأمر بقضايا نظام الحكم، والشريعة، ومدنيّة الدّولة، ووضع المرأة ، والتعدديّة الزّوجيّة، وأحكام الإرث و بنصيب الذكر والأنثى منه، وغيرها من القضايا التي يطول الجدال فيها.
   ولئن أوهمنا السلفيّون والنّهضويّون ذات يوم بمساندتهم للديمقراطيّة واستعدادهم إلى القبول بمبدإ مدنيّة الدولة وسعيهم إلى تدعيم مكاسب المرأة التونسيّة عبر مزيد تدعيم وتطوير مجلّة الأحوال الشخصيّة نحو الأفضل، فإنّ ذلك لم يكن سوى قبول تكتيكيّ ومقفزة  تضمن لهم التغلغل في دواليب الدولة والسّيطرة على أدقّ مفاصلها لإخضاع كلّ ميكانيزماتها إلى إرادتهم قبل أن يلقوا في سلّة المُهملات بوثيقة 18 أكتوبر على سبيل المثال ... وهذا الحوار الذي أجراه الأستاذ راشد الغنّوشي مع أحد السلفييّن وسرّب على الشبكة الاجتماعية لأكبر دليل على ذلك.
   إنّ القائد الرّوحي والمُنظّر لحزب حركة النّهضة ما انفك يُجيّشُ القواعد ويدعوها إلى التصدي للتيّارات المُعارضة بالعنف، ويرفض الحوار معهم وحتّى مُجرّد المُشاركة في مبادرة الإتّحاد العام التّونسي للشّغل للدفع بالحوار الوطني،  لمُجرّد مُشاركة حركة نداء تونس التي يعتبرها " إعادة إنتاج للتّجمع "، و في الوقت الذي تُؤكّد فيه عناصر قياديّة من حزب حركة النّهضة على تمسّكها بقيم ومبادئ الديمقراطيّة، نراه يدعو إلى سدّ المنافذ أمام الخُصوم، لا بل يرفض مُجرّد السماح للحركة الوليدة بممارسة نشاطها السياسي وتنظيم اجتماعاتها للتواصل مع أنصارها!!!
   وهكذا يتجلّى لنا تصوّر حزب حركة النّهضة للديمقراطيّة، هذا إذا كان يُؤمن أصلا بها.
فهل هكذا تكون المُعاملة العادلة للسلطة لمُختلف التظاهُرات في البلاد؟ هذا من جانب. ومن جانب آخر كيف نُفسّر صمت الجهاز القضائي إزاء دعوة زعيم حركة النّهضة أنصاره إلى السّيطرة على أجهزة الدّولة واعتباره جهازي الجيش والأمن " غير مضمونين "؟
ألا يُعد هذا تحريضا صريحا على الانقلاب؟
ثم من نصّب السلفيين وأمثالهم من النهضويين للسهر على " حماية الثورة "؟
وهل تشكو البلاد فراغا مُؤسّساتيّا ليُنصّب البعض أنفُسهم بدلاء لمُؤسّسات الدولة؟

وأخيرا وليس آخرا كيف يُسمحُ للسلفيين أو لمن يدعون السلفيّة، تلويث المشهد العام للمُدن، والانتصاب فوضويّا في الشوارع الرئيسيّة للعاصمة وأمام المساجد يبيعون شتّى أنواع المواد ذات الصبغة الدينيّة من زرابي للصلاة وسبح للذكر وكتب دينية وعطورات ومواد لتقوية القدرة الجنسية لدى الذكور، ولا ندري ما الذي سيبيعون غدا إذا تواصل الأمر على ما هو عليه.كلّ ذلك في تحد صارخ للقوانين المانعة للانتصاب  بدون ترخيص مُسبق وتعد على مجلّة التجارة، واعتداء على حقوق المُترجّلين في استعمال الأرصفة للتنقّل؟
وأخيرا من نصّبهم وُسطاء بين المرء وباريه؟ ومن كلّفهم بمُهمّة جرّنا عنوة إلى العصور الوسطى التي عمّها التخلّف الديني ولفّها التفكير الظلامي وعرفت انتشار الفتاوى الداعية إلى الإرهاب الفكري بالتدخّل لفرض نمط عيش لا يتماشى والعصر من حجاب ونقاب وإقناع بأنهما لباس العفّة بينما العفّة منبعها القلب والضمير، وإطلاق لللحى وحفّ للشوارب لدى الشبّان والتعطّر بعطر الموتى الرّديء؟
 يجري  كلّ هذا بمُباركة المسؤولين النّهضويين. فهل ننتظر منهم في قادم الأيّام منع التعليم عن الفتيات أُسوة بطالبان أفغانستان، وإكراه المرأة على البقاء في البيت والقبول بثلاث ضرائر تُقاسمنها حقّها في زوجها، وربّما إخضاعُها وبناتها إلى الختان على حد ما روّج له أحد المُرتزقين من الدين أثناء مروره ببلادنا بدعوة من زعماء النهضة الذين بالغوا في الاحتفاء به، إذ به يُهاجم المُجتمع المدني ويُكفّرُ النّاس ويتطاول على عُلماء البلاد!!!
   إنّ الذي يحدث في البلاد منذ 23 أكتوبر 2011 إنّما هو تقاسُم للأدوار في أجلى مظاهره بين الحكومة المُؤقّتة التي تُمسك حركة النّهضة بعنانها وبين حُلفائها من السّلفييّن، وتأثيثهم لمناخ في غاية السّلبيّة يستهدف الحريّات العامة عبر مُهاجمة الفنّانين والمُبدعين من مسرحيّين وسينمائيّين وفنّانين تشكيليّين وإعلاميّين، يصفهم بأقذر الأوصاف وذلك بهدف خلق حرب نفسيّة تهدف قي آخر المطاف إلى نشر التّخويف الذي يُولّد الارتباك، لدفعهم إلى الانسحاب من الساحة أو إلى  التنازل عن استقلاليتهم والقبول بالواقع البائس ومُحاولة التعامُل معه. وفي هذا الاتجاه يندرجُ ما حدث بمدينة القيروان في الأيّام القريبة الماضية من اعتداء على الشّاعر التقدمي والأستاذ الجامعي المُنصف الوهايبي أمام بيته من قبل
 " عناصر مشبوهة "!!!
   الحقيقة أنّ هذا النّوع من الاعتداءات السّلفيّة الساعية إلى ضرب الحريّات التي لم يبخل البعض من شبابنا بدمائه ثمنا للحصول عليها، قد ظهر منذ الأسابيع الأولى التي تلت الثورة وكان آخر تجلّياتها الاعتداء على أضرحة ومقامات أولياء اللّه الصّالحين في عديد المناطق على غرار الاعتداء على مقام الوليّة الصّالحة السيّدة المنّوبيّة فجر يوم الاثنين 15 أكتوبر وإحراقه من قبل مجموعة من المُلثّمين المُرتدين لباسا أسود اللون قبل أن يقوموا بالسلب والنّهب و ... التحرّش الجنسيّ بحفيدة وكيلة الزّاوية!!!

آثار الحرق في زاوية السيدة المنوبية  


قبل هذا الاعتداء هوجمت عديد المقامات والزوايا منها:

- الاعتداء على زاوية سيدي عبد القادر الجيلاني بمدينة منزل بوزلفة في14 سبتمبر 2012-
- الاعتداء بالحرق على زاوية سيدي عبد اللّه الغريبي بمدينة سيدي بوزيد في شهر أوت 2012.
- الاعتداء على زاوية صوفيّة بمدينة القيروان في شهر أوت 2012.
- الاعتداء بهدم الجُزء العُلويّ لقبّة مقام الوليّ الصالح سيدي المُحارب في ولاية المُنستير في شهر ماي 2012.
- الاعتداء بالهدم بآلة جارفة على زاوية سيدي يهقُوب بمنطقة زليطن من مُعتمديّة مطماطة الجديدة بولاية قابس في شهر ماي 2012 أيضا.
- الاعتداء بالنّبش لمقامات بعض الأولياء بعديد المناطق من ولاية صفاقس: المحرس والغريبة والسخيرة.
   لقد أصبحت إذا مقامات أولياء الّله الصّالحين في تونس اليوم مُهددة بزحف هذا التسونامي السّلفي الذي قد يغمُر قريبا زوايا سيدي مُحرز بن خلف وأبي الحسن الشّاذُلي وأبي سعيد الباجي وسيدي ابن عروس وسيدي علي الحطّاب ومقام سيدي الصحبي وسيدي أبي لُبابة الأنصاري، وغيرها من الزوايا والمقامات التي تُمثّل علامات مُضيئة لماضينا وحاضرنا ومُستقبلنا الثقافي .لذا فإنّ على الوزارات المعنيّة التحرّك بأسرع ما يُكُون لمنع معاول الهدم والاغتيال الثقافي ومحو ذاكرة المُجتمع من الوُصول إلى المعالم الأثريّة، لأنّ ما أفزعنا أن كل هذا الذي حدث كان على مرأى ومسمع من السلطات، وربّما-لاأشك في ذلك- كانت على علم مُسبق بوقوعها، إلاّ أنّها لم تُحرّك ساكنا ولم تسع إلى إيقاف المُعتدين ومُحاكمتهم.
   لقد أكّدت الاعتداءات إيّاها أن سلفيي تونس من أنجب تلاميذ الحركة الوهابية- رغم أنّ  أجدادنا رحمهم اللّه عرفوا كيف يتصدون لها-التي سبق أن هاجم أنصارُها ضريح الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة ونهبوه، وهاجموا أضرحة الصحابة رضوان اللّه عليهم جميعا، وأضرحة زوجات رسول اللّه وأمّهات المُسلمين ، ممّا تسبّب في إتلاف جُزء هام من التراث الديني والحضاري لأوّل عاصمة  للُمُسلمين. ولم يسلم التراث الشيعي بدوره من همجيّة الوهابيّين إذ هوجمت العتبات الشيعيّة المُقدسة في جنوب العراق لأنهم يعتبرون أن للشّرك وجهان، وجه تُمثّله الفرق الصّوفية ومظاهرها الطرقيّة بينما يُمثّل التشيّع الوجه الآخر لكونه في رأيهم خروج عن الإسلام.

لقد أدخل السلفيّون الوهابيين، و الجهاديوّن منهم تحديدا على الإسلام مفاهيم تفصل بينها وبين قيم التسامُح والاعتدال سنوات ضوئيّة، وأظهروا الإسلام في نظر الغرب كديـن رجعيّ مُتكلّـس ومُتحجر الفكـر، يُبيح قتــل الأبريــاء باسـم " الجهاد "، ويُفجّر القطارات والعقارات والمطارات والنُّزُل وحافلات السيّاح، ويُهاجم مقرّات السفارات الأجنبيّة ويقتُل السفراء، فقدموا بذلك خدمة مجانيّة كم بحث عنها الغرب منذ الحروب الصليبية لتسويقها قصد تشويه الدين الإسلامي الذي أصبح في نظر العالم كلّه رمزا للهمجيّة والعنجهية والتطرّف والانغلاق الفكري والعجز عن مُواكبة مُستجدات العصر الذي نعيش. وإذا قيل قديما أن الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه، فإنّه يجوز القول اليوم أن السلفي الجهادي يُسرعُ بأفعاله إلى إلحاق ضرر بليغ لا بالأمّة فحسب بل بالدين الإسلامي ككل.
يا له من إنجاز عظيم!!!
هل هذا هو الدين الذي يأمُر اللّه رسوله فيه بأن يُخاطب النّاس باللّين وأن يدعو إلى سبيل ربّه ب:
" الموعظة الحسنة "
وأن يُجادل مُعارضيه ب " التي هي أحسن "؟
   إنّ سلفيّي بلادي لا يدخرون جهدا لإدخال هذا القُطر الذي لطالما عاش فيه  النّاس آمنين ، في " دكتاتوريّة " سلفيّة منهجُها العُنف ومُعاداة الفكر النيّر والتصدي للإبداع والوُقوف بقوّة السيوف ضد كل من يعارض مرجيّتهم التي لا ترى غير الخلافة نظاما سياسيّا وغير الشريعة تنظيما للمُجتمع.ومن أجل أجل بلوغ أهدافهم صادروا مئات المساجد يبثّون من منابرها أفكارا تغسل أدمغة شباب شبه مُثقف لا يمتلك من الأسلحة الفكرية ما يُهيّئه للنقد وللتّساؤل عن صحّة ما يستمع إليه من خُطب رنّانة، حماسيّة تُخاطب العواطف لا العُقُول، فيجد نفسه مشحُونا بأفكار غير مواكبة لمسار التّاريخ، ويتحوّل عن غير دراية إلى أداة تنفيذ ل" أعمال قذرة " يأمُر بها القادة كمُهاجمة سفارة أعظم دولة في عالم اليوم، دون التفكير في تداعيات العمليّة ذاتها على مُختلف الأصعدة، الدبلوماسية منها والاقتصادية والثقافية والملية والتتنمويّة والعسكريّة والإستراتيجيّة ...، أي تلك التداعيات التي تُحدد مصير البلاد كلّها على المدى الآني والمُتوسط.
ويبدو أنّهم( السلفيّون) قد وجدوا مساندة صامتة من قبل تعامُل جهاز الأمني مع ما يقومون به وإلاّ كيف نُفسّر التعاطي الأمني المُبالغ في استعمال العُنف تُجاه الإحتجاجالت السلميّة والمدنيّة باستعمال الرصاص والقنابل المُسيلة للدموع واقتحام منازل المُواطنين في حيّ الملاّحة بضاحية رادس على سبيل الذكر، ممّا انجر عنه سقوط عشرات الجرحى وكذلك إتلاف الكثير من التّجهيزات خلال مُواجهة أهالي قلالة بجزيرة جربة لتمسّكهم بحقّهم في المّطالبة في العيش في بيئة سليمة، بينما تبقى قوات الأمن في انتظار " التعليمات "، ولا تُحرّك ساكنا إذا ما تعلّق الأمر بتظاهُرات تقودُها القُوى السلفيّة كما حدث عشيّة " غزوة السفارة " في 14 سبتمبر 2012 بداعي " الدفاع عن رسول اللّه "؟

   لقد اتّضحت الآن  ملامحُ تلك اللّهفة الشديدة الغباوة على حد تعبير أحدهم، من قبل الحزب الحاكم، وذلك النّهم الشديد والشّراهة اللاّمحدودة والتوثّب للقفز إلى مراكز القيادة للمسك بالسلطة رغم النّقص الفاضح والفادح لعنصري التجربة والخبرة، مما يُفسّر الارتجال والتلعثُم والتردد والتراجع أحيانا في القرارات، وخاصة الأخطاء الفادحة والتمادي في الخطأ بدافع المُكابرة والغرور والغطرسة في تمرير نُصوص قوانين لم يُنادي بها شباب أطاح بنظام ابن علي الموغل في الفساد.
   إن الفريق الماسك بزمام الأمور في بلادنا اليوم، قد أدخلنا في متاهات لا نهاية لها تتعلّق بالهُويّة وتطبيق الشريعة والتعددية الزوجيّة، وفي جدال لُغويّ عقيم حول وضع المرأة في المُجتمع كشريكة للرجل أو كمُكمّلة له أو كمُتساوية معه عليها ما عليه من واجبات ولها ما له من حُقُوق، وعمد إلى السّيطرة على أجهزة الدولة عبر تعيينات في المناصب الحسّاسة على أساس الولاء الحزبي لا على أساس الكفاءة تمهيدا لدكتاتوريّة جديدة ينصهرُ فيها الحزب والحُكومة ولا يُعترفُ فيها بالتعددية الحزبيّة التي يرفُضها مُؤسّس ومُلهمُ الحركات الإسلاميّة الشيخ حسن البنا رفضا قطعيّا يؤكّدُه السيد قُطب الذي يرى بدوره" استحالة التوفيق بين الإسلام والديمُقراطيّة بأيّ حال من الأحوال "، ويدعو إلى " الدكتاتوريّة العادلة " التي تضمنُ الحريّات " لغير الصّالحين "!!!
   لقد وصلنا اليوم و بعد سنة من انتخاب أعضاء المجلس الوطني التّأسيسي إلى " عنق الزجاجة "على حد تعبير المُعارضة المُؤثّثة للمشهد السياسي، فما هو السبيل إلى تجاوُز هذه المرحلة الدقيقة للوُصول بتونس إلى شاطئ الأمان والانطلاق في بناء غد أفضل لكلّ المُتساكنين، بناء تونس التي نُريد في ظلّ التسامُح والاعتدال وانخراط كل القوى في الدفع إلى ما فيه خير الجميع بدون أي شكل من أشكال الإقصاء، وفي مناخ من " المُواطنة المسؤولة " لتحقيق ما طالب به شبابها من تشغيل وحريّة وكرامة وطنيّة. وإن غدا لناظره لقريب.
                                                                                             العوينة، 23 أكتوبر 2012.

jeudi 13 septembre 2012

في الرد على الدعوة إلى التعددية الزّوجيّة




كان موضوع تعدد الزوجات أحد أهمّ المشاغل الدينية والاجتماعية التي انشغل بها مفكّرو عصر النّهضة العربية الحديثة ، وخلنا أنّه قد حُسم في البلاد التونسية على الأقل، منذ الثورة المجتمعية التي أُنجزت بعد الاستقلال والتي استهلها النظام الجمهوري بإصدار مجلّة الأحوال الشخصيّة في صائفة 1957، والتي تلاها إصدار القوانين المانعة لتعدد الزوجات.
   إلاّ أن بعض الأصوات المنبعثة من هنا وهناك منذ ثورة 14 جانفي 2011، والمحسوبة على التيّار السّلفي ظنّت أنّ الثورة قد أتت على كلّ القوانين التي نُظّم على أساسها المجتمع،  والتي تراها مُنافية للشريعة الإسلاميّة،  لتُعيد طرح بعض القضايا من قبيل إعادة نظام الخلافة الإسلاميّة وجعل الشّريعة أساس الحُكم وإعادة العمل بالتعدديّة الزّوجيّة الذي نادى به  رئيس الجمعيّة الوسطيّة للتوعية والإصلاح، وهي جمعيّة تأسّست بعد الثورة وحملت في البدء اسم " جمعيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ".
   ادعى الرئيس المذكور بأن "التعددية مطلب شعبيّ"، مؤكّدا على أن" النّساء والرجال في تونس يميلون إلى العودة إلى تعدد الزوجات"!!! مُستشهدا ب"حقائق علميّة تُثبت الجانب الصحّي لتعدد الزّوجات خاصّة بالنسبة للمرأة"  On aura tout vu! ، ساعيا مع من التفّ حوله من قدامى البلطجيّة وبائعي المسكرات خلسة والمُتعاقدين ضمنيّا مع البعض من رجال الشرطة الذين فقدوا أخلاقهم وباعوا ضمائرهم وحسّهم الوطني للشيطان، ومُروجي الممنوعات سابقا أمام المعاهد وفي المقاهي الشعبيّة وفي الأحياء المُترفة في ضواحي العاصمة من جهتي الشمال والجنوب، إلى تسويق نمط عيش يعود بنا إلى قرون الانحطاط .
  
للتذكير فإن العالم العربي كان  يعيش منذ القرن 15 وإلى غاية حملة نابليون على مصر عصر انحطاط بكل المقاييس شمل مُختلف الأنشطة الاقتصادية منها والفكرية  نتناولها من النواحي السياسية، الإقتصادية و الإجتماعية ثم الثقافية في دراسة هنا

من بين أهمّ القضايا المطروحة وقتئذ، قضيّة نظام الحكم ونمط الإنتاج الاقتصادي وتحديدا قضيّة المرأة العربيّة ووضعها في المجتمع.

   فكيف كان وضعها آنذاك؟

   كانت المرأة في الحقيقة تُشكّل الحلقة الأضعف في البنية الهرميّة للمُجتمعات العربيّة، وكانت محرُومة من نُور المعرفة والعلم للاعتقاد السّائد وقتئذ بأن العلم والعفّة خطّان مُتوازيان لا يلتقيان أبدا وهو لعمري اعتقاد يعكس التكلّس العقلي الذي ميّز ذهنيّة الأغلبيّة الغالبة من العرب، فكانت النتيجة إقصاء المرأة من المُؤسّسات التعليميّة وبالتالي  إقصاؤها من العمل وسلبها حقّ المساهمة في العمليّة الإنتاجيّة وأسدلت دونها ستائر تحجبُها عن أعيُن الفضوليين.

   فكيف لهكذا امرأة مسلوبة الحقوق ، غير مُتعلّمة، مسجونة بين جدران بيت أبيها ثم بيت زوجها،  أن تكون زوجة واعية، حسنة التدبير والتفكير والتصرّف في موارد العائلة، وتُربّي أبناءها تربية سليمة؟

   كما طُرحت كذلك قضيّة حُريّة المرأة في إختيار من يُشاركُها حياتها، وهي التي عاشت تحت وصاية الأب أو الأخ أو العم أو الخال ... ذلك لأنّ الأعراف التي تُنظّم حياة المُجتمعات العربيّة ترى أنّها عاجزة عن الاختيار و ليس لها غير الإذعان لأولي أمرها والاقتصار على السمع وطاعة من هم أدرى بمصلحتها منها.

   لقد تناول قضيّة المرأة زمن النهضة العربيّة الحديثة اتجاهان فكريّان:

اتجاه سلفيّ :

هو اتجاه ماضوي مُنغلق على نفسه، سجين سلوك مرّت عليه قرون عدة، يراه مُمثّلوه صالحا لكلّ زمان ومكان، إلاّ أنّي أراه يدير رأسه إلى الوراء غير مُدرك لما يستجد حوله من مُتغيّرات ، أي أنّه يُؤشّر على عجزه عن استنباط الحلول العصريّة لما يُطرح من قضايا، مُستمدا أحكامه من الفكر الوهابي (القرن 18)، وهو فكر ولئن أُعتُبر في زمانه حدثيّا إصلاحيّا لثورته على ثقافة عصور الانحطاط، إلاّ أنّه غالى في السلفيّة ونادى بالعودة إلى" العصر الذهبي" ، عصر الرسول صلوات اللّه عليه وسلامه والخلفاء الرّاشدين من بعده، بمعنى أنّه تحوّل إلى فكر عاجز عن هضم واستيعاب مُقتضيات الحداثة والتأقلم مع ما طرحته من قيم مدنيّة جديدة.

   يرى دُعاة هذا الاتجاه أنّ العمل والأدوار الاجتماعية مُقسّمة بين بني البشر على أساس الجنس، أي أنّ ألذكر، أي الأب يتولّى دور الإنتاج والإنفاق على العيال بتأمين الرزق ، أي أنّه يحتلّ مركز السلطة ضمن البنية الهرميّة والطّبقيّة للمُجتمع وللأسرة، بينما تتولّى المرأة مُهمّة الإشراف على عالمها الخاص، وهو البيت الذي تسهر فيه على شُؤون العائلة من تنظيف وطبخ إضافة إلى الإنجاب (لامحدود)، وتربية للأطفال والحرص على راحة بعلها والسهر على رفاهته حتّى لا يضطر إلى البحث عن غيرها  خارج البيت.

يقول صبحي الصالح :

   "إن وضعيّة المرأة الأساسيّة هي الأمومة وتدبير المنزل وبناء البيت السّعيد".

   بالإضافة إلى ذلك فإنّ المرأة جُزء ممّا يملكُ الرجلُ حسب تعريف الفقهاء للزواج الذي هو في مفهومهم:

    "عقد يملك به الرّجلُ بضع المرأة"!!!

   لذا فالمرأة كثيرا ما كانت عُرضة لأبشع مظاهر القهر واحتقار زوجها لها وذلك إما بتطليقها دون سبب مُقنع أحيانا، أو بالتزوّج عليها امرأة ثانية وثالثة ورابعة حتّى،  بدعوى" حقّه الشّرعي"، وهي قراءة خرقاء وعرجاء للنصّ القرآني الذي لا يُنظر إليه بالتمعن والتدبّر المطلوبين، وسنُبيّن ذلك لاحقا.

   في هذا الإطار تتنزّل الدعوة الغريبة التي دعا إليها رئيس الجمعية الوسطية للتوعية والإصلاح، وهي جمعيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر سابقا، وذلك عبر موجات الأثير ومن خلال الجرائد اليوميّة، والتي ادعى في إحداها بأنّ:

   "تعدد الزوجات مطلب شعبيّ"، لا أدري عن أيّ شعب يتحدث ، وهل أنّه نظّم استفتاء شعبيّا حول هذه المسألة؟
وهل أنّ كلّ من هبّ ودبّ أصبح ينسب لنفسه صفة "المُتكلّم باسم الشّعب"؟ أي أنّه يقوم بمهمّة دون أن يُكلّف بها،  وهي في نهاية المطاف أكبرُ من حجمه الضّئيل؟

   ويرى رئيس الجمعيّة إيّاه أنّ:
  

"المشاكل الفعليّة التي يعيشها التونسي تدعو إلى ضرورة فتح باب الحوار والنّقاش حول هذا الطّرح المُتجسّد في تعدد الزوجات... وهو(حسب رأيه) طرح مدروس وحكيم ومسؤول ومُنضبط"، مُعتبرا أنّ موضوع تعدد الزوجات هو موضوع السّاعة!!!  

السيد عادل العليمي 
هذا الرأي يجُرّني إلى  طرح التّساؤلات التالية:

هل  يعيش هذا المُدعي على نفس الكوكب الذي يعيش عليه أغلب التّونسيّين؟
هل أنّه يعيش فعلا بين ظهرانينا؟
وهل أنّ المشاكل الحياتيّة التي تقُضّ مضجعه هي نفس المشاكل التي تشغلُ أغلب التّونسيّين منذ ثورة 14؟

   إن أكثر ما يُشغل التونُسيّين اليوم حسب رأيي المُتواضع هي القضايا التّالية :

  • تحقيق العدالة لكلّ أفراد المجتمع دون إستثناء.
  •  مُحاسبة الفاسدين والنّاهبين لأموال الشعب الذين أوصلوا البلاد إلى ما هي عليه اليوم قبل أن يُغادروها فارّين من التسونامي الجماهيري كما تُغادر الجرذان الخائبة السفينة التي أوشكت على الغرق، ووضع منظومة تشريعيّة رقابيّة جديدة تمنع مُستقبلا ما وقعنا في منذ عمليات  المملوكين محمود بن عيّاد ومُصطفى خزندار وُصولا إلى أسر بن علي والطرابلسيّة.
  •  مُعالجة قضايا الفقر والحرمان من أبسط حقوق الإنسان التي تُعاني منها فئات عريضة من مُتساكني وطن استقلّ منذ ما يزيد عن نصف قرن،وتمكينها من النّور الكهربائي والماء الصالح للشراب ، وتقريب المُؤسسات التعليميّة والخدماتيّة من أماكن استقرارهم.
  •  تحسين منظومة التغطية الصحيّة وتوفير وسائل المُعالجة وتركيز المؤسسات الإستشفائيّة المُجهّزة بمختلف الآلات الطبيّة العصريّة، وتوفير الدواء لمُستحقّيه.
  •  العمل أكثر على جلب الاستثمارات الأجنبيّة والوطنيّة للمساهمة في خلق الثروة الوطنيّة التي تعود بالنفع على كافّة المشاركين في خلقها من أصحاب رؤوس الأموال و الكادحين من العمّال.
  •  خلق أكثر ما يُمكن من مراكز العمل للعاطلين والمُعطّلين حفظا لكرامتهم ولتمكينهم من وسائل العيش الشريف.
  •  تجهيز البلاد ببنية تحتيّة عصريّة تستجيب لمُتطلّبات التنمية في الأقاليم وتربطُها ببعضها بمد الطرُقات السريعة والخطوط الحديدية وشبكات الاتصال الحديث، فنضمنُ بذلك خلق مئات آلاف مراكز العمل على غرار ما أُنجز في الولايات المتحدة الأمريكيّ وفي ألمانيا وإيطاليا في ثلاثينات القرن الماضي لمّا كانت هذه الأقطار تعيش أزمة اقتصادية حادة. وفي ذات الآن تتمكّن الدولة من السّيطرة على مجال البلاد، واستكشاف بواطن الأرض لاستخراج ما تكتنزُه من ثروات باطنيّة، وتجتهد في حُسن استغلال ما يتوفّر لدينا من طاقة جديدة ومُتجددة ونظيفة وهي الطاقة الشمسية، بوضع مُخطط شمسي طموح Un véritable plan solaire Tunisien، على غرار ما تقُوم به الجزائر بالتعاوُن تقنيّا مع ألمانيا.
  •  السعي بجديّة إلى استرجاع الأموال الوطنيّة التي هرّبها بارونات النظام البائد.
  •  استصلاح مئات الآلاف من الهكتارات من الأراضي البور وتوزيعُها على المحتاجين من المُزارعين عبر صيغ تسويغ مُريحة، وتثمين العمل الفلاحي وإعادة الاعتبار له، فنُشغّل بذلك مئات الآلاف من المُعطّلين ونحقق اكتفاءنا الغذائي ونضع حدا لتبعيّة غذائيّة نتج عنها عجز ميزاننا التجاري الفلاحي الذي يستنزف كل سنة أكثر مُقدرات البلاد من العملة الصّعبة.

  •  إعادة هيكلة المنظومة التربويّة وتجويد التعليم لخلق جيل يُفكّر ويُبدع ويبتكر ويخترع لا جيل مُستهلك وباحث عن أقصر طريق لتحقيق الرّبح السريع، علما وأنّه أثمن ما نملك في هذه البلاد.

 هذه بعض مشاغل المُواطن التونسي اليوم وهذه بعض الحلول التي قد تُساهم في تفريج أزمة البلاد، في وقت التهبت فيه الأسعار وتفتّتت القدرة الشرائيّة وتفاقمت نسبُ تلوث البيئة جرّاء تراكم الفضلات المنزليّة التي تلكّأ أعوان التنظيف في رفعها وأصبحت تهد بتفشّي الأمراض لا بل الأوبئة.

 إنّ المُواطن اليوم يُعاينُ تفاقم ظاهرة التسوّل والعربدة وسوء السّلوك وبذيء الكلام والعنجهيّة في الطريق العام إضافة الى تكرر ظاهرة الإعتصامات التي أصبحت الرياضة الوطنيّة رقم واحد.

 هذه هي المشاغل الحقيقيّة للتّونسي اليوم. فهل يُعقلُ أن يفكّر هذا التونسي والوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي على ما هو عليه من الاحتقان، أن يتزوّج بامرأة ثانية ولما لا...  ثالثة ورابعة؟

وهل أصبح مطلب التعدديّة

الزّوجيّة حقّا"مطلبا شعبيّا "؟

وهل هذا هو الحلّ الذي يقترحُه رئيس جمعيّة الوسطيّة للتوعية والإصلاح؟

ألا يرى هذا "الرئيس" سوى الحلّ الجنسي الذي يُغني في رأيه عن كلّ الحلول الأخرى، كما لو كان تعدد الزوجات حلاّ أصلا؟

ثمّ متى كان التونسيّون مزواجين حتّى يُعاد طرحُ قضيّة حُسم الرّأي فيها منذ أكثر من نصف قرن؟

ألا يعلم شيخ العارفين أنّ نسبة التونسيين الذين كانوا مُتزوّجين بأكثر من امرأة واحدة لم تتجاوز 6% فقط؟
امّا في سوريا فلم تكن النسبة تزيد عن 5%، في ثلاثينات القرن الماضي حسب دراسة أنجزها خالد شاتيلا.
بينما انخفضت النسبة في لبنان إلى 2% في ستّينات القرن العشرين وفي سوريا إلى 4%، وفي الأردن إلى8 %، وفي اليمن إلى 4،6%.

  ومهما كانت نسبة تعدد الزوجات ضئيلة في تونس قبل الاستقلال، ومهما سعت بعض الدول العربيّة إلى ربط التعددية الزوجيّة ببعض الشروط، مثل المغرب الأقصى منذ بضع سنوات (مُدوّنة الأحوال الشخصيّة)، فإنّه لا يخفى ما يُفرزه التعدد من مآسي اجتماعية لعلّ أهمّها تفكك الأسرة وعدم الاستقرار النّفسي لأفرادها كما عبّر عن ذلك الدكتور محمد عمارة في كتابه الإسلام والمرأة في رأي محمد عبده، إذ كتب ما يلي:

   "... وإذا تأمّل المُتأمّلُ ما يترتّب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنّه لا يُمكن لأحد أن يربّى أمّة فشى فيها تعدد الزوجات، فإنّ البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا يستقيمُ لهُ حال ولا يقُوم فيه نظام، فمفسدةُ تعدد الزوجات تنتقلُ من الأفراد إلى البيُوت ومن الأفراد إلى الأمة ... فهي تُغري بينهم العداوةُ والبغضاءُ فيدبّ الفساد في العائلة كلّها."

 إنّي أكاد أجزم أنّ رئيس الجمعيّة الوسطيّة لا يفكّر بعقله الذي في رأسه، بل بدافع من غريزة بهيميّة لم يُساعده النّصيب الذي حصل عليه من العلوم الشّرعيّة تخصيصا  والثقافة  عامة  - هذا إذا افترضنا جدلا أنّه على نصيب من المعرفة – على  إخماد سعيرها والارتقاء به إلى مرتبة من يُفكّر بعقله، أي إلى مرتبة الإنسان العاقل المتحكّم في نزواته، ومنها النزوة الجنسيّة، ذلك التحكّم الذي هو في الأصل ملكة ميّز بها اللّه سبحانه الإنسان عن بقيّة السّوائم.

 لسائل أن يتساءل هل أنّ السلفيين اليوم لا يستحضرون من سلوك السّلف الصّالح غير علاقتهم بالمرأة؟
هل أنّهم لا يسعون إلا إلى إحياء ما أضحى نشازا مع نمط عيش العصر؟.

لماذا هذا التمسّك بشدّة بإطلاق اللحى وحفّ الشوارب،  وتقصير رجلي  البنطلون، والحرص على الدخول إلى بيوت الراحة بالرجل اليُمنى والخروج منها بالرّجل اليُسرى، والتعطّر بعطر يبعث على الغثيان، وإيتاء زوجاتهم في ليالي معلومات ، وتجرّع الماء ثلاث جرعات ، والمناداة بتعدد الزّوجات مثنى وثلاث ورباع.

لا بل منهم من يُفتي بحقّ الرجل في التزوّج من 9 نساء، ويُفسّر ذلك بأنّ 2+3+4=9، ويذهب البعض الآخر إلى رفع العدد إلى 18 زوجة باعتبار أنّ مثنى تعني 2+2، وثلاث تعني 3+3، ورباع تعني 4+4، فيكون العدد بذلك 18 !!!

يا له من تفسير يأخُذ بالألباب ويُلجم العقول و الألسُن لقُدرته على الإقناع!!!

   لماذا لم يتمسّكوا بما كان يأتيه السلف الصالحُ من حسن مُعاشرة أزواجهم، وحُسن السّلوك، والتعفّف عن مُغريات الحياة الدنيا، والتقرّب إلى الواحد القهّار بالعمل المُفيد للمجموعة وبالتعبّد، والإتّحاد حول كلمة سواء تُجنّبُ النّاس الفتنة التي هي أشد من القتل، والتواضع وحُسن التصرّف في المال العام؟

   أليس كلّ هذا من سنّة الرسول وأعمال السلف الصّالح الذي يتباهون بالانتساب إليه؟

  إنّ شيخ العارفين يُريد أن يعود بنا القهقرى، إلى ممارسة ظاهرة كان لها في الحقيقة بعض الحضور في القبائل العربيّة قبل الإسلام، وقبل نُزول الوحي على سيّد الأنام، أي إلى العصر الجاهلي لمّا كان  فيه تعدد الزوجات عند الرجل من أبرز الأدلّة على السّؤدد والزعامة والثروة. لقد كان يُباحُ للرجل في الجاهليّة الجمع بين أيّ عدد شاء من الأزواج دون تحديد، كما كان الاكتفاء بامرأة واحدة مسألة اختيارية.
تذكر المصادر التاريخيّة أنّه كان لعروة بن مسعود الثقفي قبل الإسلام عشرُ زوجات .

  بعد الإسلام تواصلت الظّاهرة لكن مع التّحديد بأربع زوجات فقط، وقد تزوّج عدد من الصّحابة من عشر نسوان و منهم عبد الرحمان بن عوف، وهو أحد العشرة المُبشّرين بالجنّة، والذين كانوا يُكوّنون مجلس شورى محمد عليه صلوات اللّه وسلامُه، وقد تزوّج عشرين امرأة منهنّ خمسُ أُمّهات وُلد والأخريات حرائر من الفروع الكبيرة في قُريش، ومنهنّ أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنه، لكنّه حافظ على شرط عدم استبقاء  أكثر من أربع في العصمة في وقت واحد.

جاء في كُتب المُفسّرين :"انّ قريش كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقلّ"
وجاء أيضا:" انّ الرجل في الجاهليّة يتزوج العشر وما دون ذلك  ... وأنّهم كانوا  ... ينكحون عشرا من النساء وينكحون نساء آبائهم ولم يكونوا يعدلون بين نسائهم."

هذا الاتجاه الفكري الأوّل الذي تناول قضيّة المرأة في المجتمعات العربيّة.أمّا الاتجاه الفكري الثاني فهو الاتجاه الحداثي.

اتّجاه حداثيّ:

يُعرّف الشّاعر والناقد التونسي محمد الغُزّي الحداثة على أنّها:

   " رُؤية جديدة، وهي جوهريّا رُؤية تساؤل حول المُمكن واحتجاج على السّائد، ويتجلى ذلك في تجاوُز الأشكال المُتوارثة والخُروج عن الطّرُق المُستقرّة والبحث عن أسلُوب جديد يستوعبُ لحظته التّاريخيّة ويتخطّاها في آن."

    وفي الحقيقة فإنّ  لكلّ عصر مُحدثيه. فمن ينكُر أنّ رسول اللّه  محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كان في زمانه حداثيّا. ألم يحتجّ على القيم والنّظُم السائدة في شبه جزيرة العرب في العصر الجاهلي؟

ألم يكن حمو رابي الذي نظّم المجتمع ووضع له قوانين تنظّم العلاقة بين الأفراد، ألم يكُن حداثيّا في زمانه؟

ألم يكن بوذا وكونفيشيوس حداثيّين؟

ألم يكن محمد علي باشا في مصر حداثيّا؟

ألم يكن المُشير الأوّل أحمد باشا باي في تونس (1837 – 1855) حداثيّا مع زمرة المُفكرين الذين أحاطوا به ؟

 إنّ الحداثة تبدأ منذ اللحظة التي يولد فيها تصوّر جديد لعالم لم يعُد الإنسان في صورته القديمة قادرا على التوافق معهُ، مهما كان زمان و مكان ذلك التصوّرُ.

   لذا فإنّ الرؤية الجديدة للعالم وللعلاقات البشريّة هي الرحم الذي تتخلّق  فيه الحداثة و التي لا يُمكن أن تكون غير النّظر إلى الأمام، أي أنّها تتناقض كليّا مع من ينظر إلى الوراء ويعيش على أنقاض ما أتاه الأوائل.

إنّ الحداثة التي تعنينا  في قضيّة تعدد الزوجات هي تلك التي ارتبطت بما اتفق المفكرون على تسميته بالنهضة العربيّة الحديثة التي فجّرتها حملة نابليون على مصر، والتي تولّد عنها التساؤل حول وضع العرب من العالم، ومن ضمن هذا التساؤل طُرحت قضيّة وضع المرأة في المُجتمع العربي، وقضيّة التعددية الزوجيّة.

   لقد كان رفاعة رافع الطهطاوي أوّل صوت يثير قضيّة التعددية الزوجيّة فتجرّأ بذلك على إثارة مما يُعتبر مسكُوتا عنهُ، مُحدثا شرخا في جدار الخوف وفي قانون الصّمت ، وفتح الباب الجدال فيما كان يُعتبر مُقدّسا وغير قابل للجدال.
يرى الطّهطاوي أنّ :

   " حُكم تعدد الزوجات في الإسلام الإباحة، وقد شرّعهُ القرآن رحمة بنفوس من تتجاوز بهم الشّهوة حدُود الزّوجة الواحدة"، إلاّ أنّه لم يقف عند حدود النص إذ اعتبر أنّ:

   " الزواج التعددي مكروه والاقتصار على الزوجة الواحدة مندوب". واشترط إلى جانب توفّر العدل بين الزوجات ضرورة وُجود علّة ظاهرة تدعو للتعدد."

   أمّا الشّيخ محمد عبده فقد حسم حسما باتا في قضيّة التعددية وكتب:

   "انّ الإسلام قد خفّف من الإكثار من الزوجات، ووقف عند الأربعة ثمّ انّه شدد الأمر على المُكثرين إلى حد لو عقلوه لما زاد واحد منهم على الواحدة."

ويضيف:

   "أمّا إبطالُ هذه العادة، أي عادة تعدد الزوجات، فلا ريب فيه ... ولهذا يجُوز للحاكم وللقائم على الشّرع أن يمنع التعدد دفعا للفساد الغالب."

   لقد دشّن الشيخان الطهطاوي وعبده حسب تعبير الأستاذ سعد غراب،  دشّنا منهجا في الاجتهاد مُتحرّرا ممّا تكلّس في الأذهان خلال خمسة قرون من أنّ باب الاجتهاد قد أُغلق ، وكانت محاولتهما الاجتهادية وتفكيرهما في قضيّة الزواج التعددي من أكثر المُحاولات استنارة وأشدّها انفتاحا وتماسُكا ووُضوحا.

  وبين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تدعّم التيار الحداثي ، وتناول مُعضلة تعدد الزوجات عديد المُفكّرين من بينهم المُفكّرين المصريين قاسم أمين وسلامة موسى والتونسي الطاهر الحداد.

اليوم، وبعد أكثر من قرن من تناوُل مُعضلة التعددية، يطلّ علينا من  ينادي بأن تعدد الزوجات" مطلب شعبيّ"!!!

يا اللّه رفقا بعيالك الضعفاء.

يا علماء هذا الزمن الرديء، اتقوا اللّه في شعبكم ولا تُشوّشوا أفكارهُ بما لم ينزل به اللّه من سلطان.
لا تُعوّموا مطالب الشعب ، سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا وثقافيّا، لا تُخمدوا أنفاسه ، لا تُغبطوا حقّه في حياة كريمة يتساوى فيها الرجل والمرأة مُساواة تامّة دون نُقصان.
  
إنّ المطروح على مُفكّرينا  اليوم و بإلحاح إنّما هو تجديد الفكر الإسلامي وقراءة موروثنا قراءة نقديّة مُتخلّصة من وهم القُدسيّة ومتماهية مع مُتطلّبات عصرنا دون القطع البات مع قيمنا ومبادئنا الحضاريّة والإسلاميّة السمحة.

   إننا في حاجة إلى المسك بمفتاح مُصالحة حقّة بين الموروث ومُتطلّبات الحضارة .
إنّنا في حاجة إلى التخلّص من التأويلات والصّيغ الفقهيّة والأنماط الفكريّة التي تجاوزتها الأوضاع الحاليّة ولم تعُد في مُستوى طمُوحات شباب حطّم جدار الخوف ونزع عباءة القدسيّة التي تجلبب بها أولي الأمر  وأصبح يرنو إلى العدالة الاجتماعية وإلى الإعتاق والحريّة و المُساواة .
إنّ المصالحة التي نريد هي تلك التي تجمعُ بين موروثنا العقائدي والتشريعي والأخلاقي وما تحتّمُه الحداثة من حقوق الإنسان وما ترتّب منذ الثورة الفرنسيّة من مفاهيم المُواطنة و سيادة الشّعب، بمنأى عن التطرّف والإقصاء والتصادُم الإيديولوجي، كما يقول المُفكّر هشام جعيط، والذي يُضيفُ أنّ التّاريخ يتحرّك دوما إلى الأمام، لا يتراجع البتّة إلى الوراء، إنّه كدحُ الإنسانيّة الدائم لرسم طريق نحو الأفضل.

                                                                                                          
      العوينة، 13 سبتمبر 2012-

المراجع:

-- احمد لطفي السيد، المنتخبات، ج1، القاهرة 1937 و ج2، 1945
-- الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريهة والمجتمع، تونس 1930
-- سعد غراب، العامل الديني والهوية التونسية، الدار التونسية للنشر 1990
-- محمد أسعد أطلس، محاضرات عن الشيخ محمد نغربي، معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة 1953
--  محمد عمارة، رفاعة رافع الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث، القاهرة 1984
-- محمد عمارة، الإسلام والمرأة في رأي محمد عبده، القاهرة 1975
-- قاسم أمين، تحرير المرأة، القاهرة 1899
-- قاسم أمين، المرأة الجديدة، القاهرة 1890
-- نور الدين المكشر، زعماء الإصلاح وقضية تعدد الزوجات، دار البيروني للنشر، د.ت.
-- نظيرة زين الدين، السفور والحجاب، بيروت 1928
-- نظيرة زين الدين، الفتاة والشيوخ، بيروت 1928
-- سلامة موسى، الورأة ليست لعبة الرجل، القاهرة. ت
-- عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة، تونس 1990
-- رفاعة رافع الطهطاوي، المرشد الأمين للبنات والبنين، ضمن الأعمال الماملة، المؤسسة العربية 1973