lundi 24 décembre 2012

من المسؤول عن وفاة الشابين البشير القلّي ومحمد البختي؟



   شابان في مُقتبل العمر، في بداية العقد الثالث ... هما أقرب إلى مرحلة المُراهقة المُتأخّرة منهما إلى سنّ الكهولة ... يغلي حماس الشّباب في شرايينهما ممزُوجا ببقايا دم البراءة وبقدر كبير من المثاليّة المُميّزتين لمرحلة الشباب ... يتوقان إلى غد أفضل ، أحلى وأزهى وأكثر إشراقا من راهنيهما ... يدفعهم الإيمان بمبادئ تشبّثوا بها ... عضّا عليها بالنواجد مُعتقدين أنّه الأفضل والأرقى والأسمى ...
هذا فقط ما كانا يعتقدان... هذا إيمانهما ... تمسّكا به إلى آخر رمق في حياتيهما ...
ومن أجل هذا فقط لهُما منّا أجلّ الاحترام وأعمق الإكبار...

   كم هو جميل تمسّك الفرد بأفكاره ومبادئه التي لا ينفصم عنها حتّى تغدُو جزءا متمّما لكينونته... لكن أليس فضيعا الموت من أجلها مهما كانت قسوة الحياة؟ أليس الحياة أثمن ما في الوُجود؟ أليس جديرا بأن نحياها مهما كانت العقبات؟
أليس في العتمة أحيانا بعضا من النّور؟ أليس في السّواد الداكن بعض بياض؟

   أسئلة حارقة تبقى مطروحة وقد لا نجد الأجوبة الشافية لها، لكنّها تبقى ولزمن طويل مُقضّة لمضاجعنا:
ماذا فعلنا لاحتواء الشّابين؟ هل حاورناهما؟ هل ناصحناهما؟هل تعاملنا معهما بالمنهج القويم وبالقدر الكافي من الحكمة؟هل أقنعناهما بأنّ الحفاظ على النفس التي حرّم اللّه قتلها إلاّ بالحق إنّما هو أحد أهمّ مُرتكزات الإيمان؟هل حاولنا الاقتراب منهما، لنسمع منهما أم أعرضنا عن أطروحتيهما وعاديناهما كما لو كانا يحملان فيروس الجُذام؟
هل حاول زُعماء التيّار السّلفي الجهادي الذي ينتسبان إليه، إقناعهما بألاّ يُلقيا بنفسيهما إلى التهلُكة أم فضّلا استعمالهما وقودا لفرض آراءهم؟

   إن الاعتقاد السائد اليوم أنّ أطرافا ما لم تقُم بدورها ، إن لم نقل خذلت الشابين فتكون بذلك مُتورّطة في عمليّة قتل نفس بشريّة .
 هذه الأطراف هي : المسؤولون المُباشرون الهالكين في السجن ومن ورائهم وزارة العدل والوزارة المُكلّفة بحُقوق الإنسان وكذلك الإعلاميّون الذين انشغلوا بتغطية حادثة وفاة تونسيّ آخر في مدينة تطاوين ذهب بدوره ضحيّة العُنف السياسي وهو محمد نقض ، وكذلك جمعيّات ومنظّمات المُجتمع المدني ورابطة حُقوق الإنسان ...

   ثلاث حالات وفاة كان بالإمكان تفاديها بقليل من الحكمة والتبصّر وحسن التصرّف.
أليس من العار والقصور غير المُحتمل الآ يهتدي أيّ طرف إلى الحلّ الصحيح وانساق الكل في ضلال يعمهُون؟

   ثلاث تُونُسيّين أعزّاء على قُلوبنا كبقيّة أفراد شعبنا، لهُم عائلاتهم وزوجات وأبناء  وأمّهات وأقارب وجيران سيفتقدونهم... ثلاث تونُسيّين راحوا هباء منثورا... لم يتركوا لنا غير الألم يعصف بنا والنّدم على عدم تدارك الأمر والحسرة و... الشّعور بالذنب ...

     إنّ الشعور الفظيع بالذنب يعصرُني... يتسرّبُ إلى داخل كياني... يكاد يُفجّرُني...
يغمُرُني إحساس بعجزنا عن نزع الغشاوة التي تعمي أبصارنا وتُغطّي بصائرنا وتُحيل بيننا وبين أن نصبر على بعضنا البعض... أن نتحمّل بعضنا البعض... أن نُحاول فهم بعضنا البعض قبل أن يُسرع أحدُنا  إلى إدانة الآخر دون البحث عن  قد يساعده على فهمه.

   بوسع بلدنا احتواؤنا مهما باعدت بيننا الأفكار ومها تباينت مبادئنا وتضاربت،  ومهما تنوّعت ثوابتنا، بشرط  أن نبحث جميعنا عن المُشترك بيننا ونسعى إلى تنميته والبناء على أساسه، لأنّه لم يحدُث أيّ إجماع بشريّ حول قضيّة ما.ألم يختلف المُسلمون في السّقيفة اختلافا " وقى اللّه المُسلمين شرّه". إنّ الاختلاف بين البشر يشمل حتّى وُجود الذات الإلهية فما بالُك بالقضايا المعيشيّة.
إن التناقُضات والاختلافات من أهم مّكوّنات منظومة الحياة... إنّها تُعطيها أجمل ما فيها من معاني وتُوفّر أحد أهمّ الأسباب التي تجعلُها جديرة بأن تحيى...

   إنّ في تعايُش وتجاوُر المُتناقضات تعبير بليغ عن تلك السيمفونية العجيبة والغريبة المُسمّاة" فلسفة الوُجود ". فلننظر كيف يتجاورُ الموتُ والحياة، الجمالُ والقُبح، النّور والظّلام... ولننظر إلى النّبتة وهي تتحفّزُ لا تنمو براعمُها الجديدة حتّي يسقُط الميّت من أوراقها ليتحوّل إلى سماد طبيعيّ يُغذيها.
   هكذا يتداخل الموتُ في الحياة، فكيف والحال هذه لا يكون الكونُ في الذهنيّة العامة مُتسامحا مفتوحا مشتركا كما كتب ذات مرة الطيب لبيب في مقال له بجريدة " المغرب " بتاريخ 20 نوفمبر 2012، الصفحة 17.

  أليس من العيب أن يُفضي الإخلاف بيننا إلى أن يُشهر البعضُ منّا السّيوف في وُجوه البعض الآخر؟ أليس الأفضل الجُنوح إلى المُسالمة والمُجادلة باللّسان؟
أليس من حقّ كلّ واحد منّا أن يكون له رأيُه الخاص وتوجّهه الخاص وطريقة عيشه ونمط حياته مأكلا ومشربا ودثارا .
أليس من الخطأ أن نرد على الرأي بغير الرّأي،  وعلى الحُجّة بغير الحُجّة،  وعلى الكتاب بغير الكتاب،  وعلى الفيلم بغير الفيلم،   وعلى الرسم الكاريكاتوري مهما حمل في ثناياه من مسّ لكبريائنا و سوء لمن نراه كمُسلمين خير الأنام، بالتكفير الغبيّ والإهدار الأحمق لدم مُنتجه؟

     في هذه الحالات لا يُمكننا غير توظيف الحكمة لأنّه بغير ذلك لن نهتدي إلى الحُلول الناجعة لمُعالجة القضايا المطروحة علينا وما أكثرها وقد أصبحت تُرعبُ السواد الأعظم من شعبنا.

    رحم اللّه المُتوفّين وعسى أن تكون وفاتهم رسالة نستوعب مضمُونها لتحقيق توافُق بين كلّ الأطراف وأن يكُون لها  معنى نستفيد منه جميعا.

                                                                                                                                                                             العوينة، نوفمبر 2012.

lundi 17 décembre 2012

دعاةُ السلفيّة والفتاوى الغريبة


   أنا من مواليد جيل الاستقلال، أمّا أجدادي وآبائي فقد وُلدوا زمن الاستعمارين العثماني ثم الفرنسي بعده، و عاشوا على غرار الأغلبيّة السّاحقة من مُتساكني هذا البلد الطيّبين، الفقر والهُوان في ظلّ أنظمة طاغية،  وتجرّعوا علقم الجهل وتعرّضوا لفتك الأمراض والأوبئة.
أبناء جيلي عايشوا استقلال البلاد وحلموا بالحريّة والإنعتاق والتمتّع بخيرات البلاد التي كان الغرباء عنّا يستغلّونها بدون حياء، ليُطلّقوا الفاقة ... هذا ما كان يُمنّيهم به قادة حزب الدستور الذين تزعّموا الحركة الوطنيّة.
   كم كانت جميلة تلك الأحلام ... لكنّ الواقع بددها، بخّرها فتسرّبت من بين أصابع أيدينا كتسرّب الثروة النّفطيّة من بين أصابع أيدي العرب من غير أن تُحقّق لهم اقتصادا متينا أساسُه الاكتفاء الذاتي وعدم التبعيّة لدول الشّمال...
    صدمنا الواقع المرّ، وعانينا القمع في الجامعات واقتيدت نُخبنا من اليساريين إلى السّجون والمنافي أين ذبُلت أزهار شبابهم وتعطّلت مسيرتهم لكسب المعرفة...Quel  gâchis!!!

   وكما لو أنّ هكذا مُصاب لم يكُن كافيا،  فقد عشنا انتكاسات العرب المُتعاقبة بدأ ب 1948 ثم 1965 ثم 1967 ثم احتلال بيروت في الثمانينات وصولا إلى الاعتداء على روح الأمّة العربيّة في العراق الشّامخ دوما  ...

   خيبات  تجرّعنا مرارتها  ... كسّرت أشياء كثيرة في دواخلنا  ... ملأتنا إحباطا  ... غرست فينا شُعورا بالنقص لم نتخلّصُ منه إلاّ ببعض إيمان بقي عالقا بأعماق الكثير منّا  ... تلك منّة من اللّه علينا لإعانتنا على تجاوز ذواتنا أو ... هكذا خُيّل إلينا ...

   عشنا في أقطار بذل آباؤنا من أجل استقلالها الغالي والنّفيس، لكنّها تحوّلت إلى مزارع خاصّة لطُغاة استفردوا فيها بالحُكم... أقصوا شعوبهم ... صادروا حُريّاتهم وسلبوا منهم أبسط حُقوق الإنسان بداعي تحقيق الوحدة الوطنيّة... لينعموا هم وحدهم بنعيم الدنيا ، بينما يُؤاخي سواهم  البُؤس والشّقاء والجوع ويمنعُهم عن الاحتجاج أو حتّى عن مُجرّد النّقد " علماء " رفعوا سُيوفهم دفاعا عن نظريّة " طاعة أولي الأمر " و " الولاء للحاكم " وانساقوا مُنسجمين مع الأنظمة القائمة.

  كتب أحد المشائخ وهو السعودي محمد صالح العثيمين ( ولد سنة 1929 وتوفي سنة 2001 )، وهو سلفيّ وهابيّ ومن مُتّبعي مذهب ابن تيميّة، في كتابه " شرح العقيدة الواسطيّة "، طبعة سنة 2006، الرياض، صفحة 657 ما يلي:

   " أهل السُنّة يرون ... إقامة الحج مع الأمير وإن كان من أفسق عباد اللّه ... ويرون إقامة الحج مع الأمراء وإن كانوا فُسّاقا حتّى وإن كانوا يشربُون الخمر في الحجّ، لا يقُولُون هذا إمام فاجر، لا تُقبلُ إمامته لأنّهم يرون أنّ طاعة وليّ الأمر واجبة وإن كان فاسقا بشرط أن لا يُخرجُه فُسقُه إلى الكُفر البُواح الذي عندنا فيه من اللّه بُرهان ... "

   يستشهد الشيخ في ذلك بقوله تعالى : " والذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه  ويقطعون ما أمر اللّه به  أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم  وسوء الدار " سورة الرعد الآية 25، معتبرا في ذلك أن أن الفُسق / الفُجور هو دون الكُفر، ومهما بلغ فإنّ الولاية لا تزول به بل هي ثابتة والطّاعة لوليّ الأمر واجبة في غير المعصية!!!

   إن كُهول اليوم وكذلك أولئك الذين دخلوا مرحلة الشيخوخة منذ بضع سنين ، عاشوا الظّلم والانكسار والقهر والانكسارات والانتفاضات الشعبيّة التي أغرقها النظام في الدماء ( مصر، تونس، السودان ...)
... قضوا عمرا بلا عزّة ...بلا هيبة ... بلا نخوة ... يلوكون المرارة تلو الأخرى لأكثر من نصف قرن ...
انقسموا إلى رافضين للأمر الواقع مُتعنّتين ومُنددين بصوت عالي بمُمارسات أنظمة انسلخ قادتُها عن أحلام شُعوبهم، فكان مصيرُهم أقبية السّجون، وإلى صامتين صابرين قانتين يعصف بهم اليأس أحيانا والأمل أحيانا أخرى، يرنون إلى الأفق الأعلى،  ينتظرون ما قد تجود به عليهم السماء من تغييرات، وإلى آخرين انساقُوا مُزمّرين مُهلّلين مُطبّلين مباركين لأنظمة لا يربطُهم بها سوى مقدار ما تٌحقّقُه لهم ولذويهم من امتيازات ماديّة ومناصب تختلف أهمّيتُها باختلاف ما يُبدون من ولاء .

   أما الشباب الذي قاسم آباءه سنوات الجمر وكبت الأصوات التي ترنو إلى التغريد بالحريّة، فإنّهم وفي لحظة ما زحفُوا رافضين وضعا مُعاكسا لصيرورة التّاريخ الطبيعي، يُنادون بوضع حد لكل المظالم والمآسي  التي عاشوها وعاشها آباؤهم من قبل، مُكسّرين،  بشعارات سلميّة،  أركان نظام نخرته الأمراض الاجتماعية،  وعمّه الجهل والفسق وأنانيّة مُفرطة،  واعتداءات على حُقوق النّاس وعلى مُمتلكاتهم،  ممّا أدى إلى فرار رأس النظام.
  
   إن هذا الشباب الذي كان بعضهم وقودا للثورة ليس اليوم على استعداد لتقبّل ما تجُود به قرائح من استقدمهم السلفيّون وأنصار الشريعة، بمُباركة من حزب حركة النهضة وبمُرافقة بعض رُمُوزه أمثال اللّوز وبو صرصار وشورو، من فتاوى يُطلقُ بعضُها على الهواء فتستقطبُها عُقول غير مُكتملة الإدراك، محدودة المعرفة والتّأويل والفهم الصحيح لمقاصد النص القرآني، عُقُول أفرزها بامتياز النظام الدكتاتوري بتركيزه منظومة تعليميّة أُفرغت من مُحتواها، وبإصداره كلّ ما يُشجّع على الكسب السريع بأقلّ ما يُمكن من البذل والجُهد والمُراجعة للمُكتسبات التعليميّة التي ما أن  يُختبر فيها المُتلقّون حتّى تتبخّر وتُصبح كأنّ شيئا لم يكُن، إلى حد  أن المُربّين أصبحوا يتعجّبون لوُجود بعض من ما زال من التلاميذ من هو مهووس بحبّ اكتساب المعرفة و بالسّعي إليها أينما كانت، كأنّه أطلّ عليهم من زمن أو من كوكب آخر.
  
   وبالرغم من كلّ هذه النقائص فإنّ الخير كلّ الخير في شباب رافضا شيوخا أطلّوا عليهم من زمن غير زمنهم، يُقدمون فتاوى، تنتشر عبر الشّبكات الاجتماعية،  بعضها يُثير الضحك وأغلبُها يبعث على الشّعور ب ...الغثيان، من بينها:
* تحريم اختلاء الأب بابنته في غياب الأم!
* ختان البنات لكبح جُمُوحهنّ الجنسي !
* جواز نكاح الزوجة المُتوفاة نكاح وداع! ( لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم، ألا يكفي الرجل مرارة فقدان زوجته حتّى يُجامعها؟؟؟)
* إرضاعُ الكبير ( أعرفُ كثيرا من المُراهقين يتحرّقون إلى الارتقاء إلى مرتبة الكبير!!! )
* وآخر بدعة / فتوى أخرجها الشيخ محمد العريفي،  تدعو إلى التساؤل بجديّة عن مدى صحة المدارك العقليّة للرجُل، وهي  تبريره الزنا بإضفاء صبغة الشرعيّة عليه، وتسميته ب " زواجُ المُناكحة " و يُعرّفُه بأنّهُ الزواج الذي تقُومُ به المُسلمة المُحتشمةُ البالغة 14 سنة فما فوق أو المُطلّقة أو الأرملُ، مع المُجاهدين في سوريا،  وهو في نظره  جائز شرعا، وليس أكثر من  زواج لبضع ساعات. والأنكى اعتبارُه  من موجبات دخول الجنّة لمن تُجاهد به!!!
بشرى لأخواتنا السوريّات، الجميلات اللواتي قيل فيهنّ أن من لم يتزوّج شاميّة فقد مات أعزبا، بشرى لكنّ بالجهاد في سبيل اللّه، بمنحكن أنفسكن لأخواتكن الثائرين في وجه الطاغوت الأسدي، مقابل الجنّة!!!

ما أيسر هكذا جهاد!!! أظنّ أنّه لا يوجد أيسر منه سوى" دُخول المرء الجنّة في هرّة ".  

   للعلم فإنّ محمد العريفي هذا قد زار بلادنا في الأسابيع الأخيرة ومكّنه السلفيّون من اقتحام معاقل الفكر عندنا،  وإلقاء المُحاضرات في جامعاتنا، في حين يُمنعُ أصحاب الفكر النير من التونسيّين من أمثال ألفة يوسف ويوسف الصدّيق من إلقاء مُحاضرات بمدينة قليبية الجميلة في الصائفة الماضية، ويُكفّر أستاذ الأجيال محمد الطّالبي ويُتّهم بالخرف!!! دنيا عجيبة وغريبة فعلا.

   إنّ أمثال هؤلاء الدعاة ليسوا في الحقيقة سوى دُعاة للكراهيّة العُنصريّة والمذهبيّة ، يقسّمُون المُجتمع، كما فعل ذات يوم الداعي الآخر، وجدي غنيم، إلى مُسلمين وكفّار، زارعين بُذور الفتنة والإساءة، يتقاطعون في دعوتهم مع السلفيّة الجهاديّة التي يرى المُنتسبُون إليها أنّ الخلف، وإن بالسّيف امتداد لسلف صالح، قافزين بذلك على حُدود الزمان والمكان، غير عابئين بما طرأ على العالم من مُتغيّرات وتحوّلات جذريّة عبر حقب تاريخيّة جعلت من الوضع غير الوضع، ومن العالم غير العالم، ومن السّياق غير السّياق، فأصبح الرّاهن غير الماضي البعيد، ومع ذلك تراهُم رافضين وُجود الآخر المخالف لهُم، ويُعادون الديمُقراطيّة التي اعتنقتها أغلب بلدان العالم اليوم،  واعتبرتها أقلّ الأنظمة عُيُوبا، ولا يرون فيها غير"  منظُومة كُفر وفساد "، لأنّها تمنح الإنسان حريّة التّشريع، في حين أنّ التشريع في نظرهم من الوظائف الإلهية المُطلقة.

   إنّ اللّه خلق الإنسان في أفضل صورة، وحمّله مسؤوليّة أشفقت الأرض والجبال والسماوات من حملها، وزرع فيه عقلا ليعقل الخبيث من الطيب، وليُدرك به حقائق الأمور وأسرار الكون الفسيح، وليرسُم الخُطوط الكبرى لخريطة وُجوده ككائن فاعل في هذا العالم، مالكا لمصيره، يُقارعُ الحُجّة بالحُجّة ، لا بحُجّة العنف الذي انطلق من عمليّات باب سويقة، وتفجيرات ببعض الفنادق السياحيّة  بمدينة المُنستير، في بداية ثمانينات القرن الماضي، ليتواصل بعد أن عرف فترة من الخمود مع عمليّة مدينة سليمان المُسلّحة، ثم الهجوم على بيت صاحب قناة نسمة التلفزيّة بعد بثّها لفيلم برسيبوليس التي اعتُبرت بعض لقطاته المصوّرة مسّا من الذات الإلهيّة، ليتواصل في مدينة بئر على بن خليفة، ثمّ في مدينة تونس يوم غزوة السفارة الأمريكيّة، فحوادث دوّار هيشر، قبل قتل المُواطن لطفي نقض بمدينة تطاوين وسحله، وليصل هذه الأيّام إلى المُطاردة بين قوات الجيش الوطني وعصابة مُسلّحين قتلت رجُل أمن من مواليد قرية الكرمة( الهوارب سابقا).

   كلّ هذه الأحداث ليست سوى تعبير صريح عن رُؤية السلفيين لقضايا المُجتمع، وتجسيم لطُرق مُعالجتها.

   فهل يسير بنا الفكر السلفي وما يُنتجُه من فتاوى غريبة عن واقعنا وتراثنا وتاريخنا الثقافي إلى حرب أهليّة،  تأتي على الأخضر واليابس وتنسف ما هو جميل في بلدنا، أم إلى انقلاب يُحوّل البلاد إلى رهينة بين أيدي المشائخ على غرار ما حدث في إيران حيث يشنق المُعارضون ويُعلّقون عاليا في رافعات ليكونوا عبرة لغيرهم؟

                                                                                            العوينة، ديسمبر 2012.


mercredi 12 décembre 2012

الإضراب العام ليوم 13 د يسمبر إضراب سياسي!!!


  

  من أغرب التّهم التي أصدرت في شأن الإضراب العام ليوم 13 ديسمبر 2012 أنّه إضراب سياسي. وردت هذه التّهمة على لسان مرشد حزب حركة النّهضة الأستاذ( سابقا ) راشد الغنّوشي صاحب المقُولة الخالدة: إنّ روابط حماية الثورة هي الضمير الحي لثورة 14 جانفي 2011، ورددها بعده كلّ أعضاء الحُكومة – وهل يقدرون على مُخالفته – باستثناء النّاطق الرسمي باسم الحركة الأستاذ عبد الفتّاح مورو الذي أعرب أيضا عن عدم مُوافقته على مشروع قانون تحصين الثورة الهادف إلى إقصاء التجمّعيين من الساحة السياسيّة.

   إن هذه التّهمة لا تخرُج عن إحتمالين اثنين، إمّا أن تكون صدرت عن مسؤولين على رأس الدّولة جاهلون لتاريخ هذه الأمّة ولتاريخ الإتحاد العام التونسي للشغل، وتاريخ المُنظّمة النقابيّة التي سبقت إنشاءه وهي جامعة عُمُوم العملة التّونسيّة التي أسّسها محمد علي الحامي في أواخر سنة 1924، أو أنّهم يستنقصون ذكاء التّونسيين ويعتبرونهم إلى السذاجة وقصر الذاكرة والجهل أقرب منهم إلى معرفة دقائق تاريخهم. وفي كلتا الحالتين فإنّ الأمر على درجة من الخطورة ويدلّ على أنّه ليس للثورة ما تستحقّ من المسؤولين وأنّ من يُشرفُ على إدارة دواليبها ليس في الحجم المؤمل La Révolution Tunisienne mérite mieux que ceux la.

  إن القول أنّ الدعوة إلى الإضراب العام إنّما هي من قبيل العمل السياسي  لا يعكس غير الجهل بطبيعة العمل النّضالي نقابيّا كان أو مدنيّا أو حُقوقيّا، لأنّ جُلّ الحركات النقابيّة في العالم مُنحازة اديولوجيّا أو سياسيا منذ أن تأسّست الأمميّة الاشتراكية الأولى، وحتّى قبل ذلك بكثير عند تأسيس إتحاد النقابات البريطانية إثر الثورة الصّناعيّة The Trade Union. بالإضافة إلى ذلك فإنّ الكثير من المُنظّمات النقابيّة ذات صبغة حزبيّة واضحة إن كان ذلك بالولايات المُتّحدة الأمريكيّة أو ببريطانيا أو بفرنسا أو بأقطار  أمريكا اللاتينية ، ومُرتبطة بالأحزاب الشيوعيّة أو الاشتراكية أو التروتسكيّة أو المسيحيّة الديمُقراطيّة .... هذا من ناحية أولى .

   من ناحية ثانية فإنّ النّضال النقابي التونسي الذي تأسس في سنة 1924 بهُويّته التونسية على الأقلّ، كان تعبيرا عن إرادة العُمّال التّونُسيّين في القطع مع الكُنفدراليّة العامة للعمّال التي غلبت على نضالها النزعة الاستعمارية ، وهو على عكس ما يجب أن يقُوم عليه العمل النقابي كما هو مُتعارف عليه في كلّ أنحاء العالم، ورغبة منهم في تحسين أوضاعهم المهنيّة والماديّة بتنظيرهم مع رفقائهم العمّال من حاملي الجنسيّة الفرنسيّة، في الامتيازات وفي عدد ساعات العمل، ولا أدلّ على ذلك من قول محمد علي الحامي في الاجتماع التأسيسي لجامعة عُمُوم العملة التّونسيّة في أواخر سنة 1942 أنّه  لا معنى للمُطالبة بتحسين ظروف العمّال التّونسيّين في ظلّ دولة مُستعمرة.

   إنّه لمن الحماقة والسذاجة وكساد الطّبع على حد قول  الأستاذ مُصطفى الفيلالي ، ألاّ يُعتبر هكذا مطلب على أنّهُ مطلب سياسيّ!!!
       ثمّ متى وُجد تفريق بين الاجتماعي والسياسيّ من المشاكل التي تهزّ المُجتمعات، أليس كلّ قضايا المُجتمع سياسيّة كما أنّ كل القضايا السياسيّة هي قضايا تهُمّ المُجتمع Les problèmes politiques sont les problèmes de tout le monde, et les problèmes de tout le monde sont des problèmes politiques.

   إنّ إتحاد حشّاد الذي تأسس غداة الحرب العالميّة الثانية، بعد إفشال التجربتين النقابيّتين، الأولى على يد محمد علي الحامي، والثانية التي حاول من ورائها الدستوري بلقاسم القناوي إعادة الروح لجامعة عُمُوم العملة التونسيّة سنة 1937، كان البوتقة التي ضمّت  كلّ مُعارضي الاستعمار من الوطنيّين يتقدمُهم النقابيّون في زمن كان فيه الزّعماء السياسيون في غياهب السجون الفرنسيّة بعد حوادث 9 أفريل 1938، وإليها لجأ الوطنيّون باختلاف مرجعيّاتهم الفكريّة وقناعاتهم السياسيّة . فهل كان يُلامُ حينها على اشتغال الإتحاد بالسياسة وبأنّه كان ملاذ المُناضلين الأوفياء لمعركة التحرير الوطني؟؟؟

   من ناحية ثالثة فإنّ الإتحاد نجح بامتياز في المسك بطرفي المُعادلة : الاجتماعي والسياسي، وذلك من خلال إنخراطه في بناء دولة الاستقلال،  وإرساء بُناها التحتيّة،  ورسم خريطة الطّريق لاستشراف المصير المُشترك، وتقديم  الدراسات فيما يتعلّق بإصلاح القطاعات الاقتصادية،  وإعادة تنظيم هياكل الوظيفة العُموميّة،  ورسم الخُطوط الكُبرى لبرامج ومُخطّطات التنمية الاقتصادية،  وإصلاح المنظومة التربوية وتونستها وتحسين مردوديّتها، ومزيد إحكام التغطية الاجتماعية، وما على المُشكّكين في ذلك، وعلى من يلوم الإتحاد على الاهتمام بالشّأن السياسي من سادتنا المسؤولين على إدارة شؤون هذه المرحلة الانتقالية الثانية بعد الثّورة، إلاّ العودة إلى اللّوائح المُنبثقة عن المُؤتمر السّادس للإتّحاد العام التونسي للشُغل، وإلى اللاّئحة الاقتصادية لمُؤتمر الحزب الدستوري بمدينة صفاقس.

   لذا كفانا إدعاءات باطلة واستبلاه للرّأي العام ومُحاولات لكتابة أحاديّة للتّاريخ، وعلينا اليوم أكثر من أيّ وقت مضى التخلّص من النظر إلى الشّؤون المصيريّة من زاوية ضيّقة.
  ألا يكفي ما عانيناهُ من اعتداءات على الذاكرة الجماعيّة وعلى ذكاء التونسيين طيلة 23 سنة، وهل نحن في حاجة إلى المزيد من هكذا صنيع؟
إنّ من يعتقدُ ذلك فهو يُعيد إنتاج سياسة ثار ضدها الشعبُ ذات 17 ديسمبر 2010 وواراها التّراب ذات 14 جانفي 2011 – أو هكذا يعتقد -، ويُعيد ارتكاب نقس حماقات النظام البنعليلي . فعسى ألاّ يُؤدي ذلك إلى ثورة ثانية، إن كنّا نُكنّ حقّا لهذا البلد كلّ الحبّ الصّادق واللاّمشروط.

                                                                                                                 العوينة، 12 ديسمبر 2012.