vendredi 29 juillet 2011

العطلة الصيفيّة ... كيف نحسن استغلالها ؟

                         

نداء إلى التلاميذ والطلبة
نداء إلى شباب تونس الأبي
نداء إلى من أنجز ثورة أبهرت العالم ووقف منها الكونغرس الأمريكي موقف من يحيّي حدثا عظيما بإجلال كبيــــــــــــر.

الوقت من ذهب ... ما ذهب منه ذهب ...
الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك ....
بكّر تأكل السفنج...
النهار على صباحو ...
Le monde appartient à ceux qui se lèvent tôt…

أمثلة عديدة نجدها بكلّ لغات العالم تحوم كلّها حول فكرتين أساسيّتين هما :


  • أهميّة الوقت في حياة الإنسان وضرورة الاستفادة منه لقضاء أكثر ما يمكن من الشؤون الدنيوية، والواجبات الدينيّة، لأنّ المقابر زاخرة بمن لم يتمم قضاء بعض الشؤون ...
  • أهميّة الاستيقاظ باكرا للاستفادة من الوقت، وعدم التقاعس والتكاسل والإحجام عن ركوب المصاعب ومغالبة النفس ...
هذه أفكار راودتني ونحن في مفتتح أطول عطلة يعيشها شبابنا من تلاميذ وطلبة خلال السنة ... أول عطلة طويلة ... بعد الثورة ...
تنطلق العطلة نظريّا يوم 1 جويلية، لكن عمليّا وبالنسبة للتلاميذ تحديدا فإنّها تنطلق منذ أواخر شهر ماي لتستمرّ إلى غاية منتصف شهر سبتمبر ... أي ثلاثة أشهر ونصف الشهر من ... الفراغ الذي يحيط بالشباب وقد يستقرّ داخلهم مما يجعلهم يشعرون أحيانا بالملل وبطول الوقت ... وقديما قال الشاعر أبو فراس الحمداني:

تطول بي الساعات وهي قصيرة * وفي كلّ دهر لا يسرّك طول.

لقد خامرتني منذ سنوات عدّة أسئلة تتعلّق بكيفيّة حسن استغلال العطلة الصيفيّة، استغلالا مفيدا لكلّ الأطراف، خاصة الشباب، وتحديدا شبّان المدن الساحليّة الكبرى، لأنّ شبان المناطق الريفيّة في دواخل البلاد، يعرفون (البعض منهم) كيف يستغلّون أوقات الفراغ ...
تعود بي الذاكرة إلى نهاية سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي، لمّا كنت في مستهلّ حياتي المهنيّة، يومها لم توجد بعد قوانين تحدد الفترة الزمنيّة التي تجرى فيها الفروض التأليفيّة النهائيّة، كيف أن تلاميذ معهد مدينة مجاز البــاب (وكان وقتئذ يؤمّه تلاميذ من تستور وتبرسق وشواش وتوكابر والمنشار ودجبّة وقبلاّط وبوعرادة والعروسة وغيرها من قرى المنطقة التي لم تؤسّس بها معاهد بعد، وكانت مناطق على غاية الروعة والجمال الطبيعي الخالص أو على الأقل هكذا كنت أراها وقد سحرتني مشاهدها الطبيعيّة ) كانوا يلحّون على الأساتذة للإسراع بإنجاز الفروض النهائيّة لأن الأعمال الفلاحيّة كانت في انتظارهم في حقول والديهم، أو في الحقول التي كانوا يعملون فيها مقابل أجر بسيط ولكنّه كان يغنيهم عن سؤال أولي أمرهم.

جسر مجاز الباب
المصدر : http://shr.tn/8hN8

أمّا تلاميذ المدن فلم يتعوّد أغلبهم على مليء أوقات الفراغ لديهم بغير السمر إلى مطلع الفجر والاستيقاظ بعد انتصاف النهار للتحوّل إلى الشواطئ القريبة، وتقضية الساعات في لعب الكرة وحمامات الشمس .
هذا ما لم أكن وقتها قادرا على استيعابه، ولا زلت كذلك إلى يوم الناس هذا، لأنّي أعتبر أن الوقت هبة ونعمة أنعم بها اللّه علينا ، فإذا لم نحسن توظيفها فيما يعود علينا بالنفع نكون قد كفرنا بنعمة من نعم اللّه، وأكّدنا فشلنا في استغلال الفرص المتاحة لنا وأهدرنا ما لا يمكننا تعويضه أبدا.
في أوروبا، وفي شمال القارة الأمريكيّة (الولايات المتحدة وكندا) يسعى الشبان بمجرد دخولهم في العطلة الصيفيّة إلى الاسترزاق من كد جبينهم.لا يعني ذلك البتّة أن المسألة ماديّة بالأساس بقدر ما هي مسألة تربويّة تتعلق برغبة الشبان في إثبات ذواتهم وفي التموقع الصحيح داخل مجتمعاتهم ، وبالدور الذي على الفرد أن يؤدّيه ليعطي لوجوده معنى لا يتحقق في رأيهم إلاّ بالمساهمة، أو لنقل بالتدرب على المساهمة في بناء المجتمع والحضارة التي إليها ينتمون.
لذلك تجد الشيان منتشرين في شتّى مجالات العمل، في الفضاءات الكبرى، يساعدون الحر فاء على شحن سيّاراتهم بما اقتنوه من بضائع، وفي مرابىء السيارات كحرّاس، وفي الدكاكين، وفي محطّات بيع الوقود، وفي المصانع والمعامل ، والإدارات العموميّة وفي البنوك وفي شركات التأمين ....
أتذكر أنّه كان معمولا بهذه الظاهرة في تونس في السبعينات والثمانينات، عندما كانت بعض المؤسسات تنتدب بصفة مؤقّتة متربصين صيفيين des stagiaires d'été . و أنّ كثيرا من الطلبة اشتغلوا في العطل الصيفيّة واكتسبوا تجارب ماديّة وإنسانيّة جد مفيدة.
لكن يبدو أن الظاهرة تقلّصت، وربّما أصبح الشباب أنفسهم لا يقبلون عليها بدعوى أن أرباب العمل يرفضون تلك الصيغة ولا يتفهّمون حاجة الشباب إلى العمل. ومنهم من يرى أن المسألة تتعلّق بالعقليّة.
ويبدو هذا التفسير الأخير مقنعا إلى حد ما لأنّه ربما يعكس جانبا من ميكانيزمات المجتمع التونسي، الذي لم يصل الآباء فيه (ليس كلّهم من حسن الحظ) إلى الإقرار بانّ من حق الأبناء ، بداية من سن معيّنة، (لا توجد وصفة مثاليّة) التدرب على التحليق في فضاء اللّه الرحب بأجنحتهم. ولا أرى ما يمنعهم من ذلك.
ربّما الخوف المبالغ فيه على فلذات أكبادهم. وربّما عدم الثقة في مجتمع (وهم أحد أفراده) يرفضون أن يلقوا فيه بأبنائهم ما لم يتسلحوا بكل الأدوات التي تمكّنهم من الدخول في غمار الحياة.
والمسألة في النهاية لا تخضع إلى معادلة حسابيّة دقيقة ومضمونة النتائج، بل تبقى مسألة تقدير واجتهاد شخصي.

أنّ هذا الشباب الذي أشاهد صباحا ومساء وطوال السنة الدراسيّة، هذا الشباب الذي خبرته وعاشرته أكثر من ثلث قرن يمثّل طاقة بشريّة رهيبة، قادرة على هدم الجبال، وعلى إنجاز المعجزات.

علينا فقط أن نطرق السبيل المقنعة إلى تحميسهم وتجييشهم وإقناعهم بجدوى مل يقومون به.

علينا محاورتهم واعتبارهم جديرين بأن يحاوروا وأن يعتمد على آرائهم.

علينا معاملتهم على أساس أنهم رشد وليسوا قصّرا.

علينا بتحميلهم مسؤوليّة المساهمة في بناء وطن آخر، وطن مغاير لما كان عليه هذا الوطن، وطن للجميع ولكل فيه حظّ، ليس وطن أقليّة ، بل وطن كل التونسيين دون استثناء، من الماء شمالا وشرقا إلى الحدود الجزائريّة غربا والصحراء جنوبا.

علينا إقناعهم بأن ما سيقومون به إنما هو في صالح المجموعة الوطنيّة.

إني متأكد بأنّ لدى هذا الشباب الجبّار استعداد يتجاوز ما نتصوّره، للمساهمة في عملية إعادة بناء هذا الوطن على غير الأسس التي بني عليها إلى حد 14جانفي ، مع المحافظة على المكاسب التي تحققت.

إذا ما اقتنع هذا الشباب بجدوى ما يدعى للقيام به فسترون منه العجب العجاب.
في كل صائفة تحل ببلادنا عناصر من منظمات تطوّعيّة عالميّة، تنتشر فيما كان يسمى بمناطق الظل، تصلح بيوتا آيلة للسقوط،، تنظف محيط مكان عمومي، تدهن جدران وأبواب مدرسة في الريف، تقوم بصيانة مؤسسة ما ...

يا شباب تونس أين أنتم من كل هذا الذي يجري في بلادنا ونحن ننظر عاجزين عن المساهمة فيه أو ربّما معجّزون عن الإسهام فيه!
أين منظماتنا الشبابيّة ؟
أين منظمة المصائف والجولات التي رتع فيها مسؤول أكثر من ربع قرن؟
ألم تستح هذه المنظمة من قصر نشاطها على تنظيم رحلات دراسية مدرسية في أواخر كل ثلاثي إلى ملاهي قرطاج لاند وياسمين الحمامات؟
ألم يخطر ببالها يوما تغيير مسار الرحلات (وهي ترفيهيّة وليست دراسية بالمرّة) وتوجيهها إلى اتجاهات غير الاتجاهات التي اعتادتها ؟ أم نحن دوما أعداء التجديد ؟
ما الذي يمكن أن يستفيد منه شاب من رحلة إلى نابل والحمامات مقارنة برحلة إلى ريف عين دراهم أو جندوبة أو تالة والقصرين والرقاب والمكناسي والمتلوي وسيدي بو زيد وجامة و بو رويس والكريب والربع والمتلوي وقبلي وحيدرة وتبرسق ووشتاتة ووادي الزرقة ونفزة وقرية حمام بورقيبة ... يعاين خلالها ظروف عيش إخوان له في الوطنيّة ويبني معهم صداقات ويتبادل معهم الإستضافات، أليس هذا أولى من عمليّات التوأمة مع المؤسسات التربويّة الأجنبية واستضافة تلاميذ أجانب في بيوت تلاميذ تونسيين، دون أن يعني ذلك أننا ضد العلاقات مع غير التونسيين، إنما القضيّة هي قضيّة أولويّات.

تونس المنسية : مشهد من الڨصرين
المصدر :
http://shr.tn/3ZZ

سؤال يمكن طرحه على الشباب : هل فيكم من له استعداد للمساهمة خلال العطلة الصيفيّة القادمة في تحسين ظروف عيش صنف من التونسيين؟
ونترك لهم الاختيار بين اختيارات عدة من نوع :

  •  المساهمة في ترميم المساكن البسيطة التي تؤم تونسيين تزيد نسبتهم من جملة السكان تلك النسبة التي كذبوا بها علينا سنين طويلة يوهموننا خلالها بأن كل شيء على أحسن ما يرام.
  •  المساهمة في تهيئة المؤسسات التربويّة وجعلها أكثر تأهيلا وجمالا لاستقبال التلاميذ في السنة الدراسيّة الجديدة.

  •  إصلاح ما لحق طاولات التلاميذ من عطب، وكذلك شبكة المياه والكهرباء ...

  •  دهن قاعات الدراسة وإصلاح السبورات وزرع الفضاءات القاحلة داخل المؤسسات التربويّة زهورا جميلة ...

كل ذلك بتأطيرا من العمال المختصين والمتواجدين في تلك المؤسسات، وقد نجد من أساتذة ومعلمي المواد التقنية من يساهم في العمليّة.

  •  المساهمة في تنشيط الحركة الثقافيّة خلال الصائفة وتبادل التجارب والخبرات، ببعث نوادي للإعلامية والإلكترونيك والبحوث الفيزيائيّة والرسم والرقص والغناء وصناعة الفخّار ونسج الزرابي والأغطية الصوفيّة وصناعة أثاث من سعف النخيل ومن الحلفاء والنقش على الخشب والحجر وصناعة الأثاث الخشبي وصناعة الحديد المطروق والبلور المنفوخ ... أي التركيز على خصوصيّات كل إقليم من أقاليم البلاد.

ولا ننسى أن نوفر للشباب المشاركين في هذه الأنشطة كل ظروف الإقامة المريحة :

  • من فتح مبيتات المعاهد ودور الشباب لإيوائهم.
  • تمتيعهم بمختلف الأنشطة الثقافيّة: الدخول المجاني لما يقام من عروض ثقافية وغيرها.
  • توفير الغذاء المتوازن والمتكامل بتشغيل مطابخ المؤسسات التربوية التي تتعطل أكثر من ثلاثة أشهر، وسنجد من يمولها بالمواد الغذائية التي تحتاجها، لأن القضية كلها قضية تنسيق وإقناع الناس بجدوى ما يساهمون فيه دون أن نفرض على أي كان أي شيء كما كان يحدث في كل شهر ديسمبر من كل سنة في ظل النظام البايت والبائد.

ستتحول البلاد إذا ما تحقق هذا التوجه إلى خليّة نحل خلال العطلة الصيفيّة لا تهدأ الحركة فيها، في مناخ من الترفيه والثراء الثقافي والمعرفي.

سيحول الشاب إلى مواطن على درجة من الوعي والارتباط الوثيق بأرض بلاده التي لن يرضى لها بديلا، يوم يصبح إطارا،  فنذلل بذلك أكثر ما يمكن من هجرة الأدمغة التي تعاني منها دول العالم النامي.
لن يفكر الشاب بعد ذلك بإلقاء نفسه في البحر حرقا لمتابعة سراب استقرار في بلاد "العكري".
سيشعر بأنه لم يعد غريبا عن مخططات هذه البلاد، بل أصبح مشاركا في وضعها
il devient complice et impliqué dans le projet de développement ، ويتحول بذلك إلى مدافع شرس عنها.

قوموا بهذه الخطوة يا أصحاب القرار.
قوموا بها على سبيل التجربة وعلى نطاق ضيق. وعندما ترون أنها آتت أكلها وسعوا نطاقها.
افتحوا أبواب التطوّع أمام التلاميذ.
أجزم أنكم ستفاجئون بالنتائج، جزم من خبر شباب تونس عقودا طويلة .
اقنعوا هذا الشباب الذي يملك طاقة جبّارة، بإمكانها لو أحسن توظيفها لفائدة الصالح العام، أن تحقق المعجزات.
أقنعوه بجدوى المساهمة في دفع هذا الوطن.
علموه أنّ هذا الوطن، الذي أعطانا فرصة للحياة على أرضه والارتواء من مائه الزلال واستنشاق هواءه النقي، من حقّه ألاّ نبخل عليه بجهدنا قبل أن تلفّنا مشاغل الحياة وما أكثرها.
ليس أفضل من فترة الشباب للعطاء بدون مقابل، عطاء لا مشروطا.
اتخذوا القرار وسترون أن هذا الشباب الذي أنجز ما لم تقدر على إنجازه الفئات الأخرى، من تخليص البلاد من إحدى أعتى الدكتاتوريات في النصف الثاني من القرن العشرين والربع الأول من القرن الواحد والعشرين، لقادر على ما لم تزوّدنا به الإخبار من قبل.
اختاروا فقط بكامل الدقة اللغة التي تخاطبونه بها وابتعدوا أكثر ما يمكن عن اللغة الخشبية التي اعتمدت طويلا.
افتحوا أمامه أبواب شرف المساهمة في بناء هذا الوطن.
لن نحصد غير الخير الوفير لهذا الوطن .
سيفاجئكم الشباب بالكم الهائل من الحب الخالص الذي يحملوه في صدورهم لهذه البلاد.


نزيدكم شوية تاريخ

في نهاية ستينات القرن الماضي عاش شباب هذه البلاد من التلاميذ أساسا تجربة ولا أروع منها، أطلقت عليها أسماء تجربة أحمد بن صالح و أحمد المستيري.
فيم تتمثل هذه التجربة ؟
تتمثل في القيام بالخدمة العسكرية. نعم الخدمة العسكريّة  
. le service militaire



طراف عديدة عشناها في الخدمة العسكرية، عندما لم تكن تعتبر عقاب.  
صورة من فيلم :
La grande Vadrouille


يطالب بها تلاميذ السنتين الخامسة والسادسة من التعليم الثانوي (الثانية والثالثة من النظام الحالي) :
تلاميذ السنة الخامسة يقومون بما يسمى le service militaire élémentaire
وتلاميذ السنة السادسة يقومون ب :   le service militaire supérieur
ويمنح في نهاية كل سنة شهادة. وتعفي الشهادتان التلميذ من أداء الخدمة العسكريّة لاحقا.
وخلال السنتين يتحوّل التلاميذ إلى أقرب ثكنة للتدرب يوما واحدا كلّ أسبوعين، على تفكيك وتركيب الأسلحة الخفيفة، وتعلم القانون العسكري والتربية البدنية حسب ما يسمى le parcours du combattant
في العطلة الصيفية للسنة الأولى تدريب عسكري يحضرا لتلاميذ معسكرا لمدة عشرة أيام وفي السنة الثانية خمسة عشر يوما un séjour bloqué  .

أجمل ذكريات فترة المراهقة والتي ما زالت مذكرتي تحتفظ بها، تلك التي تعود إلى الأيام التي قضيناها في ثكنة العوينة ثم في ثكنة " المنقالة " بمدينة بنزرت.
اليوم وبعد عشرات السنين من مرور تلك التجربة، يمكنني استخلاص ما استفدته منها والمتمثل في :

  • الإنظباط قولا وفعلا، في البيت وفي الشارع وفي العمل.
  • احترام الوقت وحسن التعامل معه، واعتبار أن ما ضاع منه لن يعود، مما يستوجب حسن استغلال كل دقيقة منه فيما ينفع.
  • حب الوطن الذي هو من متممات الإيمان.

تصوروا أنّه إلى حد هذا اليوم، وكلما سمعت النشيد الوطني إلاّ ووقفت له إجلالا واحتراما لراية البلاد التي ترفع على أنغام ذلك النشيد، في أي مكان كنت.
هذا السلوك علمتني إيّاه التربية العسكريّة التي تلقيت.
  • تطبيق المثل الشعبي الذي يقول : "آكل ما حضر والبس ما ستر". تعلمت تطبيق هذا المثل بعد أن وجدتني مجبرا، وأنا شاب على تناول ما لم تتفنّن الوالدة رحمها اللّه في طبخه ، وما طبخ في مطبخ الثكنة، دون أن أختار نوع الأكلة المقدمة، ودون أن أبدي رأيي فيها. آكل أو أنام على الطوى !
تعلّمت أنه ليس من "الرجولة أن أتشخنق في الأكل"، لأنه يوجد في بلادنا من لا ينعم بعشر ما يقدم لي، لذا علي أن أحمد اللّه على ما وهبه لي مع التفكير في الآخرين. 
il n'est plus  question de faire la fine bouche
هل من العسير أن نعيد هذه التجربة ولو بشكل آخر يتماشى أكثر والمتغيّرات؟ هل جفّت عبقريّة التونسي وعجزت عن إيجاد الحلول الملائمة ؟
حلول يتقبّلها شباب اليوم.
هلاّ أقدمتم يا أهل القرارفي التفكير في هذا المقترح ؟
ألستم على استعداد يا شباب لمد أيديكم لمساعدة إخوان لكم في المناطق المحرومة ؟
ما هو رأي الشباب في هذا؟

mardi 26 juillet 2011

ماذا يحدث في بلادنا اليوم ... وكيف نتصدّى له ؟






    لنتّفق قبل كلّ شيء، وقبل البدء بأيّ تحليل، أنّ بلادنا تمر بوضع في غاية الدقّة، وأنّنا كلّنا، دون استثناء أيّ طرف كان، حكومة وهيئات عليا وأحزاب سياسيّة بغثّها وسمينها ومنظّمات مدنيّة وكلّ أفراد المجتمع، كلنا معنيّون من قريب أو من بعيد بما يحدث في بلادنا اليوم.

   إننا نمر بمرحلة تاريخيّة بكل ما يحمله اللّفظ من معاني، أي أنّ التاريخ يسجّل ما نعيشه اليوم من أحداث. وأنّ هذه الأحداث وما سوف تتخذه من منحى ستكون حتما محددا، و لعقود قادمة، لمصير البلاد التونسيّة.

  إنّ فرنسا لا زالت تسير اليوم على المنهج الذي رسمه مفكّروها منذ القرن السابع عشر، و ما خططه سياسيّوها منذ القرن الثامن عشر أمثال روبيسبيير ودانتون ومارا، وغيرهم من الذين اكتووا بلظى الثورة الفرنسيّة المتأجّجة نيرانها ، والتي أصبحت لاحقا نبراسا تهتدي بنوره الوضّاء، كل مناضلي البلدان المستعمرة والمناضلين في سبيل تحرير أوطانهم.

    لذا ينبغي أن يكون لدينا شعور حاد ووعي عميق بدقّة المرحلة التي نعيش، لأنّها ستكون المحدد للمنهج الذي ستسير على دربه البلاد، وسينعم في ظلّه شباب اليوم وأبناؤهم وبنوهم من بعدهم، بثمار الثورة التي فجّروا.

  ولأجل ذلك يتحتّم علينا طرح أسئلة، نردفها بب حث عن حلول تعالج الأوضاع بأسرع ما يكون. لأنّ الاقتصار على طرح الأسئلة فحسب لم يعد كافيا، رغم ما لطرح السؤال من أهميّة في حد ذاتها باعتباره يؤدي إلى نصف الحل. يقول الأطبّاء أنّ وعي المريض بحقيقة علّته هو الخطوة الأولى على درب شفائه.

  إنّ أهمّ سؤال تفرضه الأحداث التي تمر بها بلادنا اليوم هو التالي:

  1. من المسؤول عن التوتّر الذي عمّ شوارعنا أيّام 15 و 16 و 17 جويلية 2011؟

  أحداث عنف، يقال أنّها نتجت عن تدخّل رجال الأمن لتفريق "مسيرة سلميّة" لم يتحصّل منظّموها على ترخيص مسبق من المصالح المختصّة.
ويتولّد عن السؤال الذي طرح، أسئلة فرعيّة من بينها:
- متى كان التونسيون، إذا ما قرّروا الخروج إلى الشارع للتعبير عن موقف ما تجاه حدث معيّن ، يسعون إلى الحصول على رخصة للقيام بذلك، خلال الخمسين سنة الأخيرة ، اللّهم إلاّ إذا كان التجمع الدستوري الديمقراطي هو المنظم والمشرف والمحدد لمسار التظاهرة إيّاها؟

صحيح أنّ القوانين تلزم بذلك. لكن هل تريد وزارة الدفاع إلزام التونسيّين بإتباع تلك القوانين بين ليلة وضحاها، وإن لم يستجيبوا فالعصا الغليظة لمن عصى، بينما استباح نظامان سابقين كل ما تحرمه القوانين دون إذن أو تصريح من قبل أجهزة الأمن. بل انّ هذه الأجهزة ذاتها اختارت الوقوف إلى جانب النظام إلى حد جعل أكثر الأسئلة التي ترددها ألسنة المواطنين هو السؤال التالي: هل أنّ أجهزة الأمن في خدمة الشعب أم هي في خدمة من استباح الأعراف والقوانين؟
ولهذا السؤال ما يبرره. الأمثلة على ذلك تكاد لا تحصى ولا تعد، ومنها على سبيل الذكر:

  • تدخل البوليس بعنف شديد لقمع مظاهرات الطلبة بمدينة تونس أواخر سنة 1971.

  • تعقبه اليساريين منذ بداية السبعينات تعقبا لم يخل من أشرس أصناف العنف، وسجنه العديد من الطلبة، فقضي على مستقبل العديد منهم الذين انقطعوا عن الدراسة، والذين اتخذوا من مقهى L'univers بشارع بورقيبة بقلب العاصمة ملجأ لهم ، وتمكنت أقليّة منهم أن تهاجر لتمم دراستها في الخارج. ومنهم اليوم الكثير من قادة الأحزاب السياسية وأمنائها العامين.

  ولا زالت زنزانات سجون برج الرومي والهوارب والحبس الجديد ( الذي مسح من على سطح الأرض منذ بضع سنوات)، تردد صدى أنين طلبة من خيرة شباب تونس، تفنّن السّاديّون من معذّبي وزارة الداخليّة Les tortionnaires في إذاقتهم شتّى صنوف التعذيب في دهاليز الوزارة، ولا زالوا يجوبون شوارع العاصمة كأنّ شيئا لم يكن، ينعمون بتقاعد مريح جدّا جدّا.

    • تصدّيه للحركات النقابيّة منذ 1975، وخاصة في 1978، وتلفيقه للمنظمة العمّالية تهما انتهت بسجن أمينها العام وتأسيس نقابة " الشرفاء " الموازية لنقابة وطنيّة ساهمت في تحرير البلاد وقدّمت من أجل ذلك قرابين من خيرة رجالاتها.

    • وقوفه في وجه من انبرى يدافع عن الخبز اليومي للمواطن في أحداث جانفي 1984، وقتله بالرصاص مواطنين أبرياء وغير مسلّحين ونجهل إلى اليوم عددهم!

  فكيف يمكن لشعب اختزن في ذاكرته كل هذه العداوة التي يواجهه بها البوليس، كيف له أن يرسي بكلّ بساطة ، وبجرّة قلم ، وبين ليلة وصبحها، أن يرسي علاقة حبّ بينه وبين جهاز أمن ليس في نظره غير جهاز قمع وتعدّ على الحريّات العامّة، واقتناء حاجات بدون مقابل وبكل banditisme ، معتبرا أن البلاد هو حاكمها الفعلي، إلى حد أنّه أصبح يطلق عليه إسم " الحاكم ".

  اسألوا العطّارة والخضّارة والحوّاته والجزّارة، في أي حيّ من أحياء البلاد تريدون، وستقفون على حقائق يعرفها الخاص والعام، اسألوا، يا مسؤولين إن كنتم لا تعلمون، ولا أخالكم لا تعلمون!

  هل يدفع أعوان الأمن من الذين يملكون سيارات خاصّة معلوم الجولان في الطريق العام La vignette؟ وكم يكلّف ذلك وزارة الماليّة من خسائر؟

  هذه حقائق يعرفها المسؤولون عن الأجهزة الأمنيّة حقّ المعرفة، ومع ذلك يطالبون المواطنين بإرساء علاقات ثقة مع رجال الأمن.

شرطي يبكي وهو محمول على الأعناق في مظاهرات في يوم 21 جانفي
 المصدر
    http://shr.tn/3dd7
  لهم الحقّ في ذلك. لا يمكننا التقدم بغير علاقات ثقة ترسى بين كل الأطراف، بشرط أن يعتذر الجهاز لكل من ظلم من المواطنين، وأن يلتزم بمعاملة الشعب على أسس احترام حقوقه .


§         كيف تصرف رجال الأمن إزاء معتصمي " القصبة 3 "؟

قارنوا شهادات الموقوفين بتصريحات أعوان الأمن.

§     - كيف تصرف جهاز البوليس إزاء الصحفيين للمرة الثانية في غضون شهرين( بعد أحداث شارع بورقيبة في شهر ماي الماضي على إثر تصريحات وزير الداخلية وقتئذ القاضي فرحات الراجحي).

أمّا السؤال الثاني فهو :

  1. كيف استخف سي الباجي بالعمل الصحفي من خلال تصرّفه مع صحفيّة القناة الوطنيّة ، 1 علما وأنّه لا يختلف اثنان في أهميّة العمل الصحفي ودوره في تبليغ صوت المواطن للمسؤولين، والتعبير عن مشاغلهم التي تقض مضجعهم من غلاء فاحش لأسعار المواد الغذائيّة، إلى ما يأتيه مؤسسو وأمناء الأحزاب السياسية " الفقاعيّة" من تغيير للحقائق والظهور بمظهر من كان نقيّ السوابق ، نظيف السلوك، خال من كلّ شائبة، أمثال التجمّعيين الذين بعثوا أحزابا سياسيّة عديدة ، فيكونوا قد خرجوا بذلك من الباب ليدخلوا من الشبابيك، أو الذين اشتغلوا السنين الطوال تحت إمرة ابن علي في وزارة الداخليّة وكان بعضهم يمثل ذراعه اليمنى ، وانخرطوا اليوم كرؤساء أحزاب سياسية في التنديد بالنظام البنعليلي. وقديما سأل أحدهم مرافقه بقوله: متى نصبح من الأشراف؟ فأجابه: بعد موت كبار الحيّ.

  لكن التاريخ لا يموت، لا ينتقل إلى الرفيق الأعلى بوفاة كبار الحومة، إنّه الشاهد الوحيد الموثوق بشهادته على سلوك بني البشر.
  مهما يكن من أمر علينا أن نعي بأنّ البلاد بلادنا، ليس لنا من البلدان غيرها، ونحن بها متمسّكون. قال شاعر الثورة محمد الصغير أولاد أحمد: ولو قتّلونا... ولو شرّدونا... لعدنا غزاة لهذا البلد...

  فلنتق الله في هذا البلد. ولنحاول، كلّ من منطلقه أن نخفّف الوطء على أرضه الطيبة، وأن نتعامل مع بعضنا البعض بروح التحابب والتسامح، ولنطو صفحة الماضي الحزين، فالتاريخ وحده سيتكفّل به.

  نحن اليوم أمام وضع دقيق. علينا أن نحسن التعامل معه.
لذا فإنّي أقترح ما يلي:

  • تعليق كل أشكال الاعتصام والإضرابات ووضع حد لتعطيل حركة المرور في الطرقات السيارة وتأجيل الاحتجاجات من قبل كلّ المتظلّمين.

  • تغيّر سلوك رجال الأمن تجاه المواطنين تغييرا ملموسا بما يساعد على إرساء مناخ من الثقة، قد يتدعّم بمرور الوقت ، فتتحسّن بذلك العلاقة بين الشعب وجهاز دقيق لا غنى لنا عنه البتّة خاصة إذا ما كان في خدمة الشعب حقّا.

  • ترك اللجان التي عهدنا إليها بالدفاع عن أهداف الثورة، وبمعالجة الفساد وتقصّي الحقائق، تركها تعمل في هدوء لإنجاز ما أنيط بعهدتها، والتوقف حالا عن انتقادها
    والتشكيك في كفاءة ومؤهلات أعضائها وفي شرعيّتها.



  • إقبال المواطنين بكثافة على تسجيل أسمائهم في القائمات الانتخابية ، إذ لا يعقل أن نشاهد هذا التباطىء في التسجيل بدعوى حجج غير مقنعة. إنّ الإنتخاب واجب وطنيّ حرمتنا منه الأنظمة السابقة في مناسبات عدّة،  أرسلوا فيها بطاقات لآبائنا وأمهاتنا المتوفّين منذ عقود وأهملوا حقّ الأحياء منه. فلا سبيل اليوم إلى التخلّي عن حق قدّم الشباب الأغر حياتهم قرابين لننعم به.


  • انتظار موعد الانتخابات في نهاية شهر أكتوبر بكل ما في عبارة السلوك المدني والحضاري من معاني عميقة.

  • قيام الأحزاب السياسية بدورها الوطني الذي تحتمه المرحلة، واجتناب اللّغة الازدواجية التي أصبحت تميّز بعض الأطراف السياسية، وطرح برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافيّة، والكف عن الثرثرة العقيمة في قضايا هامشيّة، لا تقدّمنا بل تشدنا إلى الخلف .

أليس من العبث أن نتطارح الأفكار في قضايا حسم فيها القول منذ حوالي أربع عشرة قرن؟؟؟

إنّ ما ينتظرنا أكثر أهميّة مما انقرض وفات .

إنّ الأهميّة للمستقبل. مستقبل شباب الثورة ومستقبل أبنائنا وبنينا.

إنّ أبناءنا وأحفادنا لن يغفروا لنا وقتا ثمينا قد نكون أضعناه في مسائل هامشيّة، كما لم نغفر نحن اليوم لأجدادنا ما أضاعوه من مجد ورثوه بدورهم عن أجدادهم وفشلوا في تدعيمه وإثرائه أو حتّى مجرد المحافظة على ما ورثوه من مكتسبات.

سيحاسبنا الشباب الذي أنجز ثورة كنا من مشاهديها فقط،. سيحاسبنا على ما ائتمننا عليه، سيحاسبنا عن مصير ثورته. وستكون محاسبته لنا، إن أخفقنا لا قدر اللّه في التوافق حول رسم مستقبل زاهر لبلادنا، محاسبة عسيرة. 

فحذار، حذار، حذار، ولنركز على الأهم قبل المهمّ. ولنتق اللّه في هذا الوطن. وليكن اللّه وليّ توفيقنا.

jeudi 21 juillet 2011

الثورة المضادة ترتدي عباءة العروشية و الجهويات


                                          
خبر أوّل:
 تم في بداية شهر جوان استباحة الدم التونسي من خلال ما سمّي ب "حوادث المتلوّي"، المدينة الفسفاطيّة الواقعة بجنوب غربيّ البلاد التونسيّة، والتي دارت بين عرشين هما أولاد بو يحي الذين يمثلون أغلبيّة سكّان المدينة، وعرش الجريديّة وهم أقليّة.
وفي حين يرى البعض حسب ما نشر في الجرائد وعلى الشبكة العنكبوتيّة أنّ الجريديّة احتكروا كلّ المناصب القياديّة في قطاع الفسفاط بالمدينة،  يرى البعض الآخر أنّ التعايش بين العرشين لم يطرح إشكاليّات فيما سبق بنفس الخطورة التي طرحها هذه المرّة، والتي كانت مناسبة أحكم بقايا النظام المنهاراستغلالها لصيانة مكاسبهم التي غنموها في العهد النوفمبري، وللإفلات من المحاسبة، وربّها للانتقام من نظام ارتكب حسب رأيهم مظلمة في حقّهم بمسحه قانونيّا التجمّع الدستوري الديمقراطي من مسرح الحياة السياسيّة وتصفية ممتلكاته.

خبر ثان:
14 جويلية 2011.
حلّت المصالحة محلّ العداوة والبغضاء بين عرشي السبيطليّة والهراهرة الذين تقابلا منذ أيّام في سبيطلة ...
وحسب مصادرمؤكّدة فإنّ شيوخ وعقلاء العرشين نجحوا في مساعي الصلح فتمّ ذبح الخرفان في المكان الذي وقعت فيه الأحداث الدامية كما تمّ نصب موائد الوئام وتشارك أفراد العرشين في تناول الطعام وكأنّ لا شيء قد وقع.

خبر ثالث:
14 جويلية 2011. 
جدّت يومي 12 و 13 جويلية 2011 أحداث أليمة في مدينة قفصة. وقد اتّفقت مختلف وسائل الإعلام والاتصال على أنّ العروشيّة والقبليّة والعنصريّة ... هي الأساس.

والملاحظ أنّه لم يثبت التاريخ مرّة واحدة وجود مثل هذا الصّراع بين أولاد سلامة وأحياء الحارة والصبط والمدينة العتيقة.
والثابت والمتأكّد أنّ الصراعات كانت على خلفيّات جد بسيطة وتدلّ على أنّها جاءت ممّن في قلوبهم مرض والكافرين بالثورة ...

الاستنتاج: أخبار ثلاثة قاسمها المشترك العروشيّة والقبليّة! 

ما هذه الانقسامات التي تهدد تماسك ووحدة المجتمع التونسي ؟
ما هذه الصراعات التي تهدد "الوحدة الوطنيّة " بالتصدّع ؟
صحيح أن الانقسامات كانت تميّز المجتمع التونسي، لكن كان ذلك قبل الاستقلال. لقد كان المجتمع وقتئذ منقسما بين البلديّة وهم سكّان الحواضر، المستقرّون في تجمّعات حضريّة من ناحية. والبدو أو الأعراب وهم سكان الأرياف والبوادي ومنهم المستقرّون في القرى والرحّل الذين يتعاطون تربية الماشية ويعتمدون الترحال بحثا عن الماء والكلإ لقطعان ماشيتهم وكانوا يتنقّلون باستمرار. وعند استقرارهم المؤقت في مكان ما تأويهم بيوت الشعر التي تنسجها نساء وبنات القبيلة وهي بيوت في غاية الجمال .
ونادرا ما كانت  العلاقة على أحسن ما يرام، بين القبائل البدو منها والرحل وبين النظام القائم، الذي لم يكن يرى في هذه التجمعات البشريّة غير وسيلة للتزوّد بالمنتوج النباتي والحيواني و... ما يجمعه ممثلوه منها من أموال، تفرضها سياسة جبائيّة مجحفة ولا متساوية بين الجهات والأفراد، هدفها الأساسي تلبية حاجيات الأسرة الحاكمة والبلاط المحيط بها.
بعد الاستقلال سعت الحكومات المتعاقبة إلى تعويض النزعة القبليّة والعروشيّة بفكرة "الوحدة الوطنيّة". وقد نجح النظام السياسي لتونس المستقلّة أيّما نجاح في بناء مجتمع انتفت منه الانقسامات القبليّة واختفت النظرة الدونيّة من فئة اجتماعية تجاه فئة أخرى،  أو هذا ما كان يوحي به ظاهر الأشياء على الأقلّ.
تجسّم هذا السعي في اجتهاد كبير لتعميم التعليم وتوحيده،  ومجانيّته والتشجيع على الإقبال عليه،  ونشر الخدمات الصحيّة في كلّ أنحاء البلاد، وكذلك تحقيق المساواة بين الجنسين. ممّا أضفى على المجتمع التونسي ميزة حداثية جعلته منفتحا على حضارة الأقطار المتقدمة، بقدر تمسّكه بأصالته وبثوابته الفكريّة والدينيّة التي إنغرست فيه منذ القرن الأول للهجرة والسابع للميلاد.
لكن يبدو أنّ النزعة القبليّة والعروشيّة لم تخمد نهائيّا، بل بقيت كالنار تحت الرماد.
والعروشيّة كما يعرّفها علماء الاجتماع، شكل من أشكال الهيكلة التنظيميّة للمجتمعات البدائيّة. ترتكزعلى القرابة الدمويّة، تلك التي يعبّر عنها العلاّمة عبد الرحمان بن خلدون في "المقدّمة" بالعصبيّة، إذ يقول في الفصل الثامن تحت عنوان "في أنّ العصبيّة إنّما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه":

"وذلك أنّ صلة الرحم طبيعيّ في البشر إلاّ في الأقلّ ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة فإنّ القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويودّ لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك نزعة طبيعيّة في البشر مذ كانوا... "


لقد وجدت العروشيّة في المجتمع التونسي منذ أبعد الحقب الزمنيّة كأيّ مجتمع آخر من المجتمعات الإنسانيّة.
ولئن تمكّنت بعض المجتمعات من معالجتها وتعويضها بنزعة الانتساب إلى الوطن، أي غرس مفهوم الوطنيّة le nationalisme ، منذ القرن التاسع عشر الذي ازدهرت فيه الحركات الوطنيّة في أوروبا الغربيّة وأفضت إلى تحقيق الوحدة الألمانيّة في 1870 بزعامة وليام فون بسمارك، والوحدة الإيطاليّة سنة 1871 بزعامة قاريبالدي.

قلت أن العروشيّة لم تخمد نهائيّا والدليل على ذلك ما عشته شخصيّا في أواخر سنة 1977. حدث ذلك في مدينة صفاقس التي التحقت بها للتدريس في معهد الذكور بطريق قابس. وفي الأيام الأولى، وأثناء تعرّفي على مختلف أحياء المدينة، لاحظت وجود مقاعد خشبيّة كتلك التي توضع في الحدائق العموميّة، محاذية للسور المحيط بالمدينة العتيقة،  من جهة باب القصبة، وقبالة المعهد الفنّي، لكن لم ألاحظ ولو لمرّة واحدة من يجلس عليها، فدفعني فضولي إلى أن أطرح على مرافقي، وكان زميلا من أهل المدينة الطيبين، سؤالا يتعلق بسروجود مقاعد لا تستغلّ، فأجاب بأنّ تلك المقاعد وضعت ليستريح عليها "البراينيّة". ولمّا سألته عن معنى "البراينيّة"،  وقد فهم قصدي، أجاب بأن اللفظة تطلق على غير سكان المدينة، أي الغرباء عنها واللذين يقصدونها لقضاء بعض الشؤون، وعندما يأخذ منهم التعب مأخذه يجدون أمكنة يستريحون فيها!

يومها أدركت أن فكرة انقسام المجتمع إلى فئات عدّة متراتبة في الأفضليّة على أساس الانتساب إلى مدينة أو ريف، والتفريق بين بلديّة وبرّانيّة ليست حكرا على العاصمة. وأدركت أن عملا كبيرا ما زال ينتظر من على عاتقه تلقى مسؤوليّة تغيير المفاهيم المجتمعيّة وفي مقدمتهم المربّون، لتجسيم المعنى الحقيقي لفكرة "الوحدة الوطنيّة".

في الأيام الأخيرة صدمت ، كما صدم غيري، بما حدث من صراعات بين الجريدية وأولاد بو يحي، والسبيطليّة والهراهرة، والجلماوة وأولاد سيدي البشير وباب الجزيرة. وقد نسمع غدا بصراعات أخرى بين النوابليّة والشعابنيّة، والسواسة والمستيريّة، والهلاليّة والبوزيديّة، وأولاد باب سويقة وأولاد باب الجديد

ما هذا الخور؟
أهذه هي الثورة في مفهوم البعض ؟
ألم يع الناس بعد أنّ الثورة حبّ وإيثار وتماسك ووحدة ؟
ألم يبلغهم أنّ الثورة فعل سام،  لا ينحدر من ساهم فيه ودعّمه إلى درك الانقسامات الجهوية المقيتة، التي تقسّم ولا تجمع، تضعف ولا تقوّي، تشتّت ولا تلملم، تهدّم ولا تبني، وتأتي على الأخضر قبل اليابس وعلى كلّ ما أنجز وتحقق طوال نصف قرن ؟

مجموعتان من الأسئلة  أود طرحهما للتفكير فيهما، علّنا نتوصّل إلى وضع حدّ لهذه الحالة غير الطبيعية  التي نعيش على وقعها منذ بضعة أشهر،  والتي تشتت تركيزنا وتلهينا عن  القيام بما هو أساسي وعاجل،  لتسوية أوضاعنا بذكاء التونسي وفطنته المعهودتين والتين عرف بهما منذ أقدم العصور وأصبحتا من المكوّنات الأساسيّة لشخصيّته.

الأوّلى:
  من له مصلحة من كلّ ما يحدث  في بلادنا من غرائب الأمور التي لم نتعوّد ؟
ومن يصبّ الزيت على النّار ؟
من ينفخ على الرماد ليوقد نيران الفتنة بين أفراد الشعب الواحد ؟
من يحرّض التونسي على سفك دم أخيه التونسي ؟
من يحرّض على التمثيل بجثث إخوانه الذين كان يلتقيهم صباحا ومساء،في غدوّه ورواحه ؟
هل نحن في حرب ... أهليّة ولسنا على علم بذلك ؟
هل أنّ الجريديّة وأولاد بو يحي، والسبيطليّة والهراهرة، والجلماوة دخلاء على هذه البلاد ؟
أليس لهم الحق في التنقّل والتجوّل والشغل والسكن أين يطاب لهم المقام،  في أي شبر من هذه الأرض الطاهرة والزّكيّة ؟
كيف نسمح للبعض منّا بتلويث تربتها المعطاء وتعقيمها ؟

علينا أن نبحث عن المستفيد من كلّ هذا الخور الذي يحدث، وأن نستأصل جذوره،  في الداخل كان أو في الخارج.



الثّانية:
 أين هي مكوّنات المجتمع المدني ؟
أين هي الجمعيّات المدنيّة التي أصبحت تعدّ بالمئات ؟
 أم هل أنّ أقصى غايتها حصولها على ترخيص للعمل ؟
 وأيّ عمل هذا إن لم يكن التوعية ورص الصفوف،  الآن وهنا ؟
أين هي الأحزاب السياسيّة ؟
أليس التصدي إلى كلّ ما يشق المجتمع من صميم عمله ؟
لماذا نراها كلّها حتّى تلك الأحزاب الصغيرة التي يوهم مؤسّسوها أنفسهم بأن لهم وزنا سياسيّا في البلاد- وهي التي تأسست بالأمس القريب وكان رؤساؤها وأمناؤها العامون من الذين خدموا النظامين الأسبقين البورقيبي والنوفمبري – لماذا نراها تتكالب على عقد الاجتماعات  بمنخرطيها في كل أطراف البلاد، ولا تثير ما يهدد البلاد من عواقب سيّئة ؟
إنّي  أعرف البعض  من مؤسسي هذه الأحزاب، من قدم من فرنسا خصّيصا بعد التحوّل النوفمبري ليهنئ الرئيس الجديد. وعندما منع من ذلك،  تحوّل بقدرة قادر إلى المعارضة، وأسس اليوم حزبا سياسيّا واختار له اسما خاليا من كل إبداع، مكتفيا بنقل اسم حزب تركي يثير كثيرا من الجدل.

أليس الأفضل أن تتطرّق هذه الأحزاب السياسيّة المصابة بإسهال كلامي مزمن لا يفيد المواطن البسيط في شيء، إلى هذا الخطر المحدق بالبلاد والمهدد بفتنة، لو اندلعت لن يستطيع أيّ كان إطفاء نيرانها إلاّ بعد أن تكلّف البلاد كثيرا من الوقت والخسائر، فتدخل بذلك قلوب التونسيين،  وتكتسب شرعيّة وطنيّة تؤهلها إلى مغازلة الحكم الذي يبقى في نهاية التحليل غايتها الأولى.
أليس هذا ضعف إستراتيجيّ فادح من قبل هذه الأحزاب ؟ أم تراها ما زالت تعيش فترة الطفولة، أو لنقل فترة المراهقة السياسيّة ؟
أليس من مهامها الأساسيّة التوعية والتثقيف السياسي للمنضوين تحت لوائها ؟
أليس من مهامها تدعيم الوحدة السياسيّة التي تبقى الضامن الوحيد لتعايشنا على هذه الرقعة الجغرافيّة الضيقة التي تسمى تونس ؟

لكن ماذا عساني أقول، ومؤسّس أحد هذه  الأحزاب السياسيّة يعتبر العلم المفدّى، الذي قضى في سبيله مئات آلاف التونسيين،  ليرتفع مرفرفا من أعلى مؤسسات البلاد دون أن يرفع إلى جانبه علم دولة أخرى، اغتصبت أرضنا ويتّمت أبناءنا وهتكت أعراض بناتنا ونساءنا، ومشّطت قرانا وبقرت بطون الحوامل من نسائنا في قرية تازركة بالوطن القبلي، وفي غيرها من القرى والمدن التونسيّة الكثيرة، واغتالت زعمائنا السياسييّن والنقابييّن ... يعتبر ذلك العلم  مجرّد ...  خرقة ؟

 ماذا عساني أقول وقد ملأني شعور بانّ حزبا كهذا، وغيره من الأحزاب الأخرى المماثلة له، لا تربطني به ولا يربطه بهذا الوطن أيّ رابط،  بدعوى انتمائه إلى فضاء أرحب، لا معنى فيه للحواجز المصطنعة ولا للانتماءات الوطنيّة.
هذا النوع من الأحزاب لا يلزمني وأتصوّر أنّه لا يهمّ كثيرا من التونسيّين.
 لذا أقول اليوم أن البقاء في هذه الأرض لا يكون إلاّ لمن أثبت ارتباطه بها قولا وفعلا،  وثبّت ذلك في ميثاقه، وإلاّ ليس له في أرضنا مقام، من غير أن  يعني ذلك أي شكل من أشكال الإقصاء.

إنّ الوضع الحالي، الذي تمر به بلادنا في غاية الدقّة، ويتميّز بغياب أو شبه غياب السلطة السياسيّة وبالانفلات الأمني الذي سجل منذ 14 جانفي 2011، وبتحدي المواطنين للسلطة الأمنيّة التي فقدت في نظرهم الكثير من مصداقيّتها بسبب تورطها في كثير من القضايا،  وقيامها طويلا بدور المدافع عن النظام لا عن الشعب. كلّ ذلك أدّى  إلى البروز على سطح العلاقات بين الأفراد لجزء من المخزون القديم من أحقاد وأغراض لم تسوّ في الإبّان بالطرق المثلى، وذلك لأتفه الأسباب أحيانا بغية تصفية حسابات قديمة أو أخذ ثأر عطّلته القوانين الوضعيّة وترتيب التقاضي الطويلة في ظلّ عدم التشبّع بمفهوم المواطنة والولاء لتونس أوّلا وأخيرا.
لقد كان للنظام المنهار دور أساسيّ في تغذية الجهويّة بين الساحل وبقيّة المناطق، تغذية اتخذت من المجال الرياضي، ومن لعبة كرة القدم تحديدا، مرتعا لها ساهم فيه بكلّ غباء وحماقة، (أو بتخطيط جهنّمي) مسؤولون عن فرق رياضيّة تصوّروا أنفسهم خطأ أنّهم يخدمون جهاتهم، وفاتهم أنّهم يبذرون الحقد بين الجهات، ويشجّعون التنافر بين الأفراد، بينما كان من المفروض أن يعملوا على غرس معاني التداني والتحابب بين المواطنين.
زيادة عن ذلك فقد سعى النظام البنعليلي بكل ما أوتي من جهالة رأسه،  الذي  لم يمسك في حياته كتابا، إلى تكريس التنمية اللاّمتكافئة بين أقاليم بلاد أصبحت ذات وجهين متناقضين تمام التناقض، الساحل البحري المجهّز بكل أنواع التجهيزات الاقتصادية والصحيّة والاجتماعية والرياضية والترفيهيّة والشبابيّة، والداخل المتخلف عن ركب الساحل على كل المستويات، كما لو كان  سكّانه من غير حاملي  الجنسيّة التونسيّة ولم يساهم آباؤهم وأجدادهم  في تحرير هذا الوطن ودفع ضريبة الدم من أجل أن تكون تونس حرّة بين الدول.




ما هو المطلوب اليوم؟

هذا الوضع الهشّ الذي عليه بلادنا اليوم،  يتطلب منّا أن نكرّس في شبابنا مفاهيم المواطنة والحب اللاّمشروط للوطن من خلال مراجعة منظومة التعليم والبرامج التربويّة، والتخلّي عن المنظومات التربويّة المفروضة علينا مقابل ملاليم يعلم اللّه وحده من استفاد منها، من قبل فرنسا والكندا وبلجيكيا.
 وعلينا الاستفادة من تجارب الآخرين : تركيا، الهند، ماليزيا، البرازيل، الصين، أي التجارب التي أثبتت نجاعتها.
كما علينا تنويع اللغات المدرسّة في معاهدنا، ألم يحن الوقت بعد لفكّ هذا الارتباط البغيض باللغة الفرنسيّة،  التي ما انفكت تتأخّر في المحافل الدوليّة أمام اكتساح اللّغة الانكليزية، لغة التخاطب في كل العالم؟ دون أن يعني ذلك طبعا التخلي نهائيّا عن اللغة الفرنسيّة و إهمال اللغة الأم، العربيّة. لماذا لا نكون بلدا ثلاثي اللغات؟ أليس الإبداع والسبق من شيمنا منذ أقدم العصور؟
وعلى رجال التعليم ، مكوّني الأجيال، والذين همّشهم النظام المنقضي، (ولم يكن له أن يفعل غير ذلك، كما همّش الثقافة لأنّ فاقد الشيء لا يفهم ذات  " الشيء" ولا يعطي منه أي شيء بسبب فقدانه له!) تكريس السلوك الحضاري في ناشئتنا، واحترام بعضنا للبعض الآخر مهما اختلفت أفكارنا. والحرص  على التمسّك بمرجعيّاتنا الدينيّة والثقافيّة البعيدة كلّ البعد عن التعصّب والتطرّف.
وعلى أصحاب القرار أن يعتمدوا العدل والمساواة بين الأفراد والجهات.

إنّ الشباب الذي خرج إلى الشوارع وعرّض صدره "للكرطوش الحيّ" لن يتراجع في المستقبل، وها أنّنا رأينا رجالا ونساء، شبابا وشيوخا يستلقون على الأرض أمام شاحنات الشرطة يوم الجمعة 15 جويلية 2011، غير عابئين بما يمكن أن يحدث لهم.
إنّ هذا الصنف من المواطنين أراد أن يبلّغ السلطة أن الزبد بلغ الربى وأنّه لا صمت بعد اليوم، ولا خوف بعد اليوم، ولا تراجع أمام الظلم، والتعسف، والتجاهل ولامبالاة النظام.
إنها رسائل مضمونة الوصول بعث بها الشعب إلى أولي الأمر.
فليتّعظ من بيده الأمر.
إنّ اليقظة مستمرّة ولن تهدأ مستقبلا أبدا. لقد تغيّرت البلاد، وتغيّر سلوك العباد.
وعلينا أن نتصدى لكلّ محاولات بقايا الحثالة التي جثمت على أنفاسنا عقودا طويلة، وكتمت أصوات أدمغة اكتشفنا كم هي عظيمة،  وكم كان يمكن أن تفيد به البلاد لو تم الاستنارة والاستئناس بآرائها، عوضا عن طمسها وفسح المجال لغربان ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كلّ ريح، ولأنصاف رجال،  نفخ النظام في صورهم فتحوّلوا إلى شخصيّات مهمّة،  وما كانوا يحلمون يوما بذلك.  وكان عليهم أن يردّوا جميل من وضعهم في مراكز القيادة بالتسابق في التطبيل والتزمير والتظليل، همّهم الوحيد الدفاع عن أطماع تتعاظم يوما بعد يوم، لتصبح  مثل كرة الثلج المتدحرجة من أعالي الجبال، عوضا عن أن  يتّقوا اللّه في هذا الشعب المسحوقة أصواته، والذي ما زالت ثورته مهدّدة بثورة مضادّة.
يجب أن نتصدى لمظاهر الثورة المضادة  بمنتهى السلوك الحضاري.
إنّ ثورتنا حضاريّة وستبقى كذلك  كما قال ذلك الشيخ يوم الجمعة أمام كاميرا التلفزة الوطنية وكلّه حماس وعزم وإصرار على تبليغ رسالته.
إنّه عمل طويل النفس ، يتطلّب اليقظة والتأهّب لمعالجة ما يمكن أن يطرأ من إشكالات في الإبّان.
كان اللّه في عون الجميع.

مصدرالكاريكاتور : قريحة سيف الدين الناشي، مدونة "باكو نوار".
http://seifnechi.blogspot.com/2011/06/akhiran-rwanda-fi-tounes.html