dimanche 4 février 2018

تفكيرُنا و ... تفكيرُهم

أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في أواخر أيام سنة 2017 قرار إعترافه بمدينة القدس عاصمة للدولة الإسرائيليّة وأعرب تبعا لذلك عن نيته نقل سفارة بلده إليها في أقرب الآجال

هذا القرار يفتح في رأيي عهدا جديدا سيُفضي إلى فرض الإعتراف بيهودية الدولة الإسرائيليّة، إعترافا يحرصُ مسؤولو الكيان الإسرائيلي على الحصول عليه تحت حكم اليمين بزعامة حزب الليكود الذي يقوده رئيس الحكومة الحالية  بنيامين نيتينياهو، ليضعوا العالم أمام حتمية تصفية مظلمة القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، القضية الفلسطينيّة، التي أقضّت مضاجع المتآمرين على شعب كامل منذ إعلان بلفور الشهير سنة 1917، الذي قد فتح الطريق إلى زرع لا شرعي لخليّة سرطانية في جسد الوطن العربي تكاثرت بمرور الزمن لتّصبح كيانا سياسيّا اعترفت به منظمة الأمم المتحدة في 15 ماي 1948 ..

هذا القرار غير المسؤول في نظر عدد من الملاحظين، قد كسّر الإتفاق العالمي حول وضع مدينة "مُقدّسة"  ليس عند المسلمين فحسب، بل كذلك عند اليهود والمسيحيين باعتبارها رحم ومهبط الأديان السماويّة ...
القرار الأمريكي الأخير لم يفاجئ في الحقيقة غير قصيري النظر وفاقدي الذاكرة من العرب، لأنّه كان يُطبخُ على نار هادئة منذ زمن طويل وكان مُنتظرا من قبل الرأي العام الأمريكي والإسرائيلي على حد سواء،  لأن الكنغرس الأمريكي قد كان تبنّى بأغلبيّة الأصوات قرار نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة "اورشليم" منذ يوم 24 أكتوبر 1995، ووضع لتنفيذه حدا أقصى وهو يوم 31 ماي 1999. إلا أنّ هذا القرار جُمّد خلال فترة حكم الرؤساء الثلاث بيل كلينتون وجورج بوش الإبن وباراك أوبا في انتظار تسوية نهائيّة للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، ولذلك كانوا يؤجّلون تنفيذه كل ستّة أشهر. وقد قام ترمب بدوره بتجميد القرار في شهر جوان 
2017، قبل أن يُقرر في 6 ديسمبر الإعتراف بمدينة القدس عاصمة لدولة إسرائيل...

وللعلم فانّ هذا القرار يتعارض مع القرار 476 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 30 جوان 1980 والرافض لكل التغييرات ذات الصبغة الديموغرافية والتاريخيّة للمدينة المُقدسة والتي أدخلتها الحكومات الإسرائيليّة المُتعاقبة. وعندما صوّت البرلمان الإسرائيلي على "القانون الأساسي" الذي يعترف بأن "مدينة القدس كاملة وموحّدة عاصمة لإسرائيل"، اضطر مجلس الأمن إلى التحرّك وأصدر في أوت 1980، وبإجماع 14 عضوا  احتفاظ الولايات الأمريكية بصوتها، القرارالذي يُطالب الولايات المتحدة بسحب بعثتها الدبلوماسية من مدينة القدس.

بأغلبية ساحقة: الأمم المتحدة ترفض إعلان ترامب بشأن القدس

ثم كيف يُفاجئنا قرار ترمب ونحن نعلم أن التمثيلية الأمريكية بمجلس الأمن قد عطّلت عشرات المرّات، وطوال سبعين سنة من اللاعقاب، قرارات مجلس الأمن، باستعمال حق الفيتو كلّما كان الكيان الإسرائيلي موضع إدانة من قبل المجموعة الدوليّة بشان خرقه للقوانين ودوسه حقوق الشعب الفلسطيني ...
وللتذكير فان قيام الدولة "اللقيطة" لم يكن غير فكرة بدأت تتجسّد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر مع انعقاد أول مُؤتمر صهيوني بمدينة بازل السويسريّة، الذي نظّمة الإعلامي النمساوي واليهودي الديانة تيودور هرتزل. لقد افتتح هرتزل المؤتمر بقولته الشهيرة "لقد اجتمعنا اليوم لوضع حجر الأساس للبيت الذي سيأوي الأمة اليهودية" ...

وعموما فان القرار الأمريكي الأخير يتنزّل في سياق تعيشُ فيه الدول العربيّة أسوأ أوضاعها بسبب ما أصابها من وهن وغياب عما يُستجد في العالم ، وانغماس يوما بعد يوم في مناخ طقوسه أقرب منها إلى الإفتراضي منها إلى الواقع الملموس، مناخ مشحون ماورائيات وأساطير وخرافات وسرديّات تملأ رؤوس السواد الأعظم من السكان،ملفوفة بوشاح مُطرّز بخيوط الجهل والتكلّس الفكري ومؤثّثة بعبادة شخصيّات دينيّة وبأحاديث موضوع أغلبُها، شكّلت  ما يسمّى بالموروث بوجهيه المادي واللامادي، يزرع بذوره  ويقطف ثماره المفسّرون والمحدّثون ومنتجو الفتاوى على القياس وعند الطلب، وكل الذين يعيشون عيشا قروسطيا ولم يغادروا "السقيفة" بعدُ ، عيشا نزع عنهم كل خصال الإجتهاد العقلاني والعلمي، وحوّلهم إلى دعاة "للإسلام الوهابي" المُروّج للعنف و للتكفير تسير وراءهم جحافل الجهلة سير القطيع وراء الراعي  

في سياق الوهن هذا  تُتخذ أخطر القرارات المصيريّة من قبل قادة اللوبي الصهيو-أمريكي، والتي تمسّ من المصالح الإستراتيجيّة والحيويّة للفلسطينيين، أصحاب الأرض والحقيقيين،  قبل أن تشُد إليها الرحال القبائل اليهوديّة في الألفيّة الثانية قبل الميلاد هروبا من فرعون أرض الكنانة وتعبُر نهر النّيل يقودها النبي عيسى عليه السلام ...

لقد اعتادوا اصطياد حالات ضعفنا وانشغال الرأي العام العالمي بأحداث هامة كتنظيم ألعاب أولمبيّة أو اندلاع مجازر ناجمة عن حروب أهليّة، أو غيرها من الأحداث المُستقطبة لتركيز أغلب سكان كوكب الأرض في لحظة ما، للتوسّع على حساب أراضي والفلسطينيين، او الشروع في بناء مُستوطنات جديدة، أو شنّ اعتداءات  على المقاومة،  ومُواجهة المُنتفضين من شبّان لا يحملون من الأسلحة غير الحجارة، بالرصاص المطاطي وبالذخيرة الحيّة، ولنا في الطفل الشهيد محمد الدرّة خير دليل على ذلك ...
في الأثناء تنشغل الأنظمة العربيّة بالتآمُر على بعضها، وبافتعال الأزمات الداخليّة، وبتحريض المعارضة ضد الأنظمة القائمة، وبتشجيع وتمويل المتشدّدين دينيّا، وبالإعتداءات العسكريّة على بلد عربي، ضمن ما يُدعى تحالُفا يرفعُ شعار "الدفاع على الشرعيّة"، ويحصد مئات الآلاف من الضحايا المدنيين، على غرار ما يحدثُ في اليمن حيث يعيشُ حوالي نصف السكان تحت التهديد بالموت جوعا وأمراضا ...


هذا الإقتتال بين العرب منذ حرب  داحس والغبراء والتي امتدت على اكثر من أربعين سنة،  وحتى قبل ذلك بكثير، هو بالنسبة إليّ لغز لم أفلح البتّة في فكّ طلاسمه منذ أن أصبحتُ واعيا بما يدورُ حواليّ، ولعلّي لن أتوصّل إلى ذلك، لا أنا ولا غيري من بني يعرب،  إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ...
إنّه تقاتُل عبثيّ، كفكائيّ،يتطابق مع مُصطلح "التّطهير" عند الفيلسوف الإغريقي أرسطو، والمُرتبط بالإنفعال الناتج عن مُشاهدة العُنف، وهو عمليّة تفريف وتنقية على المستوى الجسدي والعاطفي لشُحنة العُنف الموجودة عند المُتفرّج، مما يُحرّرُه من أهوائه.لكن مع الإشارة إلى أنّ  وجه الإختلاف في هذا التطابُق، أن دور المُتفرّج في مفهوم أرسطو يتحوّلُ إلى دور الفاعل الحقيقي للتقاتُل من قبل أصحاب الفخامة والسيادة من ملوك وأمراء ورُؤساء العرب الذين يبذلون كل ما أوتوا من جهد ومن عتاد عسكري وأموال مُتأتية من ثروات طبيعية ، لم يبذلوا أي مجهود لخلقها، لتحقيق أهداف استراتيجيّة واقتصادية وسياسية لا قيمة لها إلا في مخيالهم ...
اليمن وما تشهده منذ سنوات من خراب ودمار لبناها التحتية، وما يترتّب عن كل ذلك من مآسي اجتماعيّة وعُقد نفسيّة، تتحوّل إلى مكوّن من المكوّنات الأساسية لشخصية المواطن اليمنى الذي لم ينس بعدُ حرب مصر الناصريّة ضد وطنه، هذا اليمن هو النموذج الساطع للحالة التي عليها الأمة العربيّة في جُزئها المشرقي تحديدا ...



وكلّما ازددت تمعّنا في هذا النموذج، ودقّقت النظر في تفاصيله، قفزت من ذاكرتي إجابة المسؤول الأمريكي برزنسكي عن سُؤال طرحته عليه إحدى المُحاورات حول دور العرب في الخريطة الجغراسياسية الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط ، وهي أن "العرب أصبحوا خارج التاريخ" ...
هذه الإجابة تعكس في الحقيقة طريقة تفكير الغرب المُؤسّسة على رؤية واضحة المعالم للأوضاع الجغراسياسية على المدى القريب والمتوسّط والبعيد ...
ألم تُخطّط السياسة البريطانيّة لقيام دولة إسرائيل منذ نهاية القرن التاسع عشر، قبل ان يبرُز ذلك التخطيط للعيان رسميّا في أواخر 1917، عندما أطلق وزير خارجيّتها، بلفور وعدهُ المُتضمّن استعداد الملكيّة البريطانيّة لإعانة الشعب اليهودي على إقامة وطن له في الأراضي الفلسطينيّة؟ ...
هذا النموذج من التفكير بعيد المدى، والرصين، والمرتكز على مخطّطات محكمة ، وعلى دهاء ماكر، يحسب كل جُزئيّة، هو نموذج تفكيريّ مُناقض تمام التناقُض في رأيي تفكيرنا كعرب ... تفكيرُنا لا  يمتد إلى أبعد من أرنبات أنوفنا، لا يتجاوز اللحظةالآنيّة زمنا، لا يتخطّى الفضاء الضيّق الذي فيه نتحرّك ...
عندما نُصدم بحدث ما- والصدمة دليل قاطع على عدم الإستعداد لما قد يطرأ من أحداث، إيجابية كانت أو سلبيّة-، وندرك تهديده لمصالحنا الإستراتيجيّة ، ننتفض ونُعلنُ النفير، نهُبّ هبّة الرجل الواحد، نُبسمل ونُكبّر ونُهلّلُ، نُحدث ضجيجا وجعجعة، نتظاهرُ ونُهاجم مؤسسات "العدو" المقامة على أراضينا، نحرقُ أعلامه وندوس بأحذيتنا صور زُعمائه ... نرفعُ شعارات رنّانة، ونحرقُ مقرّات بعثاته الدبلوماسيّة والمدارس التابعة لها، نُحدث بها أضرارا جسيمة ثم نُقدّم أموالا طائلة لإصلاحها... نقوم بكل هذا ثم نعود إلى قواعدنا مُنتشين بما حققنا من "إنتصار"، غانمين، مُظفّرين، غير عابئين بما خلّفنا وراءنا من سلوكات همجيّة بدائيّة وخطيرة علينا في  قادم أيامنا ...
نردّ الفعل في أغلب الأحيان بانفعال، دون إعمال للعقل، ودون التفكير والتخطيط للعواقب ...

  • ثورة علي بن غذاهم في تونس عام 1864 لم تكتمل رغم الضراوة التي صاحبتها ورغم تهديدها عرش الملكيّة الحُسينيّة ...
  • أحداث 26 جانفي الشهيرة في نهاية السبعينات لم تُفرز تغييرا جذريّا للأوضاع الإجتماعية وانتهت بسجن عديد النقابيّين ...
  • أحداث "الخبز" في 3و4 جانفي 1984 بتونس أُخمدت بقولة بورقيبة الشهيرة"نرجعو وين كنّا ..."ولم تُسفر إلا عن سُقوط رؤوس بعض السياسويّين وفي مقدمتهم الوزير الأول وقتها محمد المزالي ...
  • المُظاهرات البعدية لنكبة 1967 بأرض الكنانة أنستنا الهزيمة النكراء التي تكبّدها جيش الطيران المصري أمام العدو الإسرائيلي، لإنشغالنا بالمسرحيّة التراجي -كوميدية للريّس جمال عبد الناصر 
  • الأحداث الطلابيّة في تونس بين 1968 و 1969 كامتداد لأحداث 68 في باريس، لم تُغيّر من الأوضاع شيئا إذ واجهتها السلطة القمعيّة بالزج بأعلام اليسار من برسبكتيفيين وأنصار"العامل التونسي" في زنزانات برج الرومي و9 أفريل وغيرها من السجون الأخرى ...
ويبقى السؤال الذي ما انفك يُراودني ويُفقدني توازني مُعلّقا:

 لماذا هذا الإخفاق وهذا القتل المبكّر لأحلامنا؟لماذا هذا الإجهاضُ لطموحاتنا؟ 
ولم لا نحقّقُ أهدافنا؟هل الفشلُ والعمل غيرُ المُكتمل مُكوّن من المكوّنات القاعدية ولشخصيتنا و أحد الجينات المكوّنة لتلك الشخصيّة؟

لا علاقة في رأيي لكل ذلك بما نقرر ونقوم به.ولا علاقة له بالحتميّة ولا بالقدر، كما يحلو للمُتشبثين بالغيبيّات وبالماورائيّات تفسيره ...

خطاب الخبز
https://www.youtube.com/watch?v=tDfJ4_mKQg8


العامل الأساسي وراء  كل هذه الخيبات والصفعات التي نتقبّلها،  يكمن في تقديري المُتواضع،  في عدم التخطيط،  وعدم بناء استراتيجيّة عقلانية على المدى الطويل، وعدم وُضوح الرؤيا عندنا


نحن كعرب،  مجموعة شعوب مُصابة بضبابيّة الرؤيا، نُعاني عمى الألوان ونُبدع في صدّ أبواب العقلانيّة وفي قتل الفكر النيّر.نعشق إستقرار الأوضاع، نكفر بكل تغيير ونعتبره بدعة مُضللة ونُعادي حتى الموت كل مبدع ... نعيش اللحظة الآنية ولا نعير للآتي إعتبارا.شعارُنا اليوم خمر وغدا أمر....
يقتصر جهد سياسيينا على إدارة الشؤون اليومية وقليل منهم من يمتلك رؤيا واضحة لما ستكون عليه أوضاعُنا بعد ثلاثين أو خمسين سنة ...
هل يملك أصاب القرار عندنا فكرة واضحة حول وضع المواطن التونسي في حدود سنة 2050؟هل لديهم فكرة حول ما سيُستصلح من الأراضي وحول انتاجنا من الحبوب سنة 2060 و حول امكانية ان نكون  وقتئذ قادرين على تحقيق اكتفاءنا الذاتي الغذائي في ظل تزايُد سكّاننا الطبيعي؟هل هم قادرون على توفير الحلول الملائمة لكي لا يشكو مُتساكنو العلا من ولاية القيروان العطش في صيف 2040؟هل ضبطوا من الآن أصلاحا تربويّا ينقل منظومتنا التعليمية من النقل إلى العقل ويحولوها إلى منظومة مرافقة وتفكير  لا إلى منظومة تلقين وحشو للأدمغة؟

هذه نبذة من أسئلة عديدة تخامرُني وتندرج في رأيي في خضمّ "التخطيط" وفي صلب استشراف المستقبل- تلك العبارة المُفضّلة  للنظام القديم-، وفي إطار رؤيا بعيدة المدى بدونها لا يُمكن لأي نظام يحترم مُواطنيه عدم اعتبارها في إدارته للشأن العام ...
أود في هذا السياق سرد حادثة دارت وقائعها منذ عقود بين ظهرانينا،  تعكسُ بدقّة ما أعني بعبارة "تخطيط على مدى طويل" ...
الحادثة نقلتُها عن مُربيّة فاضلة، أصيلة احدى قرى عاصمة الأغالبة، نقلتها بدورها  عن والدها الذي كان شاهد عيان على كل تفاصيلها ...
مكان الحادثة هو مدينة حاجب العيون (هي اليوم معتمدية من ضمن احد عشر معتمدية تتكوّن منها ولاية القيروان، تقع في الجزء الغربي من الولاية، تحدّها معتمديتا العلا شمالا وحفّوز شمالا شرقا، ومعتمدية نصر الله جنوبا شرقا، فيما تحدّها ولايتا سيدي بوزيد وسليانة شمالا غربا) ...
في زمن الاستعمار الفرنسي وتحديدا قبل سنة 1967 كان التونسيّون ، باختلاف عقائدهم، يهود ،مسيحيّون ومسلمون، وهم الأغالبيّة، يعيشون جنبا إلى جنب ...
كان هذا الوضع مميّزا لعديد المدن التونسيّة، ومن بينها العاصمة واريانة ونابل وسوسة وصفاقس وقابس وتوزر وجربة وحلق الوادي ...
كل الطوائف كانت تعيش في تناغُم وانسجام تامّين لا يٌعكّر صفوه إختلاف المعتقد والعادات والتقاليد وطقوس التعبّد، بل كان ذلك نبعا ثريّا للتثاقُف ..
وكان لكل اصحاب ديانة مؤسّساتهم التعبّدية من جوامع وكنائس وبيعات ... فيها تُمارسُ العبادات بمطلق الحريّة 
...



في مدينة حاجب العيون، وفي احد أزقّتها من حيّ المرّ، كانت توجد بيعة يهوديّة، يؤمّها اليهود يوميا لتأدية صلواتهم ... وقريبا من هذه البيعة كان اليهود يملكون أغلب دكاكين الحي التجاري،   بينما كان عدد التجار من التونسيين ضئيلا،  ومن بينهم الراوي الأساسي لهذه الحادثة، وكان يملك مكتبة متواضعة، أرادها مركز إشعاع بأنوار المعرفة على ناشئة كانت وقتها مُتعطّشة للنهل من العلوم،  إيمانا منها بأنّه المصعد الوحيد نحو الرُقيّ الاجتماعي والاقتصادي ...
في مناسبات معيّنة كان يأتي إلى يهود الحيّ رجل أنيق اللباس يتأبّط محفظة فخمة، تبدو على مُحيّاه ملامحُ الوجاهة والمسؤوليّة ...
وبمجرّد نزوله من السيارة التي تقلّهُ ، يهبّ نحوه التجار اليهود، يرحّبون به بكل حفاوة، قبل أن يٌرافقوه إلى أحد الدكاكين أين يُقضّون ساعات طويلة في أحاديث ونقاشات ... قبل أن يُودّعه اليهود بنفس الحفاوة التي أستُقبلوه بها، و يغادر المكان ممتطيا سيارته متجها إلى مدينة أخرى ...
أسئلة عديدة كانت تختمر في رأس صاحب المكتبة كلّما زار ذلك الرجل الغريب المدينة واجتمع بالتجار اليهود ...
من تراه يكون؟ ما هي هويته؟
ما هي دوافع مقدمه إلى المدينة؟
لماذا كان يُستقبلُ بحفاوة مُبالغ فيها؟

لم يجرأ على طرح تلك الأسئلة على جاره ورفيق دربه، والذي كانت تربطُه به صداقة متينة منذ الصغر ... كان يظنّ أن ذلك " الغريب " لا يعدو أن يكون رجُل دين يزور أبناء ديانته من حين إلى آخر ... ربّما كان حبرا من الأحبار يأتي ليُجدد إيمانهم أو ليقّدم لهم بعض الفتاوى فيما يتعلّق بما يتعرضون له من إشكالات في حياهم اليومية ...
ولما لم يبلغ مرحلة اليقين من حقيقة الرجل  اتجه يوما إلى جاره وسأله بكل لطف عن الأمر ...
تردّد التاجر يعقوب طويلا، وبعد تفكير عميق أجاب جاره المسلم قائلا: " ذلك الرجل مسؤول يهوديّ يأتينا من حين إلى أخر مُحمّلا بخريطة لمدينة القدس وأحوازها يعرضُ علينا مقاسم من الأراضي ويرغّبُنا في اقتناء قطع أراضي لنُقيم عليها منازلنا في المستقبل،  وندفع المقابل بالتقسيط المُريح جدا.
هذه تفاصيل الحادثة ... لكن المُلفت أنها تعود إلى أربعينات القرن العشرين، أي قبل أن تضع الحرب العالميّة الثانية أوزارها، وقبل أن يقع الإعلان عن قيام دولة إسرائيل من قبل منظمة الأمم المتحدة في 15 ماي 1948 ...
ما هي العبرة التي نستقيها من هذه الحادثة؟
العبرة في رأيي هي كيفيّة تخطيط الأنظمة لمُستقبل شعوبها، فيما تقضي أنظمتنا العربيّة المُوقّرة جلّ أوقاتها للتآمُر على بعضها البعض، وعلى خلق بُؤر التوتّر بين مصر الناصريّة واليمن مرّة، وبين سوريا والعراق مرة أخرى، وبين إيران والعراق مرّة ثالثة، وبين مصر والسودان مرة رابعة، وبين سوريا وبلدان الخليج مرة خامسة، وبين قطر وبقية دول مجلس التعاون الخليجي مرة سادسة ...

كم كلفتنا كل هذه المؤامرات من وقت ومن أموال، لو استُثمرت في الأقطار العربية لتخلّت نهائيا عن الأمية والفقر وسوء التغذية وسوء المُعالجة الصحيّة، ولتحسّنت فيها البنى التحتيّة، ولتحوّلت عموما إلى أقطار يسكُنها مُواطنون يتمتعون بكل الحقوق ويُؤدون نفس الواجبات، لا إلى أقطار يسكنها رعايا يكدحون ليلا نهارا لتحقيق سعادة وراحة ورخاء أمرائهم وملوكهم ورؤساءهم الذين يفرضُون عليهم قهرا تقبيل أيديهم ورؤوسهم، وينحنون عند مرورهم أمامهم ...

لكن لمن تقرأ زبورك يا داوود؟

dimanche 14 janvier 2018

الرّبيع العربي ... سبع سنوات وبعد

منذ بضع سنوات وجدت الأنظمة السياسية العربيّة نفسها في طريق عدم استقرار لم تخترهُ ولم يتنبّأ به قادتها  حتّى في أحلك كوابيسهم ، متوهّمة  أنها مُمسكة بمقاليد الحكم في بلدانها بقبضة من فولاذ بفضل منظومة أمنيّة وان بدت  رهيبة ومحكمة التنظيم ومعقّدة في الظاهر، موجّهة إلى قمع الشعوب أكثر من توفيرها الأمن والأمان لها،بحماية أجساد وأعراض ومُكتسبات  أفرادها، لكن في الحقيقة   نخرها الفساد  من الداخل، وأغرقتها الأمراض الإجتماعية من رشوة ومحسوبيّة ودوس على أبسط الحقوق،  وطغى على المشتغلين فيها  جنون العظمة إلى حد أن الرأي العام أصبح يُنادي رجل الأمن ب"الحاكم" ...
ولئن تمكّنت بعض هذه الأنظمة، الخليجية منها تحديدا، من تجنّب موجة الغضب الشعبي الجارف-ولو إلى حين-، إلا انها وجدت نفسها تحت ضغط القوى الإقليمية من ناحية، وضغط القوى العظمى من ناحية أخرى(وهذا ليس جديدا عليها)، الساعية إلى فرض خياراتها السياسية والإقتصادية وفقا لمصالحها الإستراتيجيّة ضمن لعبة تقاسم مناطق النفوذ في العالم، فإنّ أنظمة أخرى منتهية الصلوحيّة "تفاجأت"، وهي المُصابة بعمى الألوان، بانفجار جماهيري رهيب، قوّض أركانها المُتداعية للسقوط، وأزاحها من سدّة الحكم لتُعوّضها الإرادة الشعبيّة من ناحية، واختيارات النُخب السياسيّة من ناحية أخرى، بأنظمة مُتعطّشة للديمقراطيّة وترنو إلى الشفافيّة والحوكمة الرشيدة، وإلى تركيز نظام إجتماعي أكثر عدالة واستجابة لمطامحها ولتوقها إلى تفعيل ما رفعته من شعارات تُنادي بالشّغل وبالحريّة وبالعدالة الإجتماعيّة، وتفعيل إرادة الشعب ...
شعارات انطلقت من غربي البلاد التونسية لتجد صداها في ميدان التحرير بالقاهرة المعزيّة وبالساحة الخضراء بطرابلس الغرب، وفي شوارع دمشق الأبيّة، قبل أن تندسّ القوى الرجعيّة والمشكوك في ولائها الوطني لتُحوّل "الثورة" إلى حرب أهليّة تنفخ على لظاها وتُذكي نيرانها القوى الدوليّة مُتضاربة المصالح ...
هذا الوضع المُتشعّب والذي وجدت  بعض البلدان العربيّة نفسها في خضمّه في السنوات الأخيرة، هو في رأيي من أكثر الفترات التاريخيّة خطورة في حياة العرب، يُذكّرنا بالفترة التي سبقت تركيز إستعمار القوى الإمبرياليّة الغربيّة فيها  بين القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، أي تحديدا منذ استعمار الجزائر سنة 1830 إلى  وعد بلفور الذي احتفلت بريطانيا منذ اسابيع قليلة  بمرور قرن على إعلانه من قبل خارجيتها وباسم جلالة الملك البريطاني المُعظّم، وقبل ذلك امضاء اتفاقية سايكس بيكو التي  مكّنت بريطانيا وفرنسا الإستعماريّتين  من اقتسام ممتلكات"الرجل المريض" ولم تُشرف الحرب العالميّة الأولى على نهايتها بعدُ ...



قد يُؤدي هذا الوضعُ إلى خروج الشعوب العربيّة كُليّا من التاريخ بعد أن عاشت طويلا على هامشه، وتقدّمها رويدا رُويدا نحو إندثارها على غرار شعوب أخرى، اختفت أو كادت من المسرح السياسي والإقتصادي والعلمي، ولنا في ما حدث للسكان الأصليين في القارتين الأمريكية والإقيانوسيّة خير مثال على ذلك ...(1)
قلت ان  هذا الوضع ليس جديدا على العرب إذ يعود  إلى قرون خلت، لكن أزاح الغطاء عنه في بداية التاريخ الحديث على الأقل الإهتمام المُتزايد بمنطقة الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسّط، وبضفّته الجنوبيّة تحديدا، من قبل القوتين العُظمتين عصرئذ، وهما الإمبراطوريّة الإسبانية من جهة والإمبراطوريّة العُثمانيّة من جهة اخرى، لما كانت تُمثّله هذه المنطقة من أهميّة إقتصاديّة واستراتيجية كبرى رغبت كل من الإمبراطوريّتين في  السيطرة عليها وإلحاق كياناتها السياسيّة بها(2). ومنذ سنة 1574 نجحت الجيوش العثمانية بقيادة سنان باشا في وضع يدها على جزء كبير من شمال القارة الإفريقيّة، والتخلّص من الحضور الإسباني الذي استقطبته القارة الأمريكية حديثة الإكتشاف عبر المحيط الأطلسي الذي سيُصبح تدريجيّا مركز المبادلات التجاريّة العالميّة على حساب البحر الأبيض المُتوسّط...
وهكذا حوّل العُثمانيّون ليبيا وتونس والجزائر إلى إيالات مُلحقة بالباب العالي وتُسيطر فرق الجيش الإنكشاري الرهيبة على مقاليد الحكم فيها.فكان احتلالا لا يقلّ ضراوة واضطهادا وظلما واستغلالا واستنزافا للقدرات المحليّة من الإحتلال الروماني سابقا  أو الفرنسي لاحقا (3)...إذ لم يسع البتّة إلى النهوض بشعوب الإيالات فكريا وعلميّا، بل سعى إلى زعزعة البنية العقائديّة والمذهبيّة بفرض المذهب الحنفي على شعوب عانقت المالكيّة منذ انخراطها في المنظومة الإسلامية إذا ما استثنينا فترة حكم الفاطميين للمهدية فيها والخوارج في تاهرت، ما ساهم في تقسيم الشعب طائفيّا بعد ان كان مُقسّما إلى ريفيين وحضريين، أي إلى بدو ورحّل يمتهنون الفلاحة والرعي لتوفير الغذاء للحضريين في المدن من حرفيين وتجار وفئة قليلة العدد من المثقفين و"العلماء" من خريجي الجامع الأعظم بالعاصمة أو جامع عقبة بالقيروان والذي من بينهم كان يُنتدبُ أئمة المساجد وكتّاب العقود بمختلف أنواعها والمدرّسون والموظّفون أي اولئك اللذين تحتاجهم مختلف الدواليب الإدارية للدولة ...

تونس في العهد العثماني
  
ولعلّه من الأهمية بمكان التأكيد على أنّ الحضور العثماني لم يرتق بالبلاد التونسية على سبيل المثال إلى مُستوى  من التحضّر أرفع مما كانت عليه، إذ لم يُشجّع على الإبداع ولم يُؤسس المدارس بالعدد الكافي ولم يُشجع الناشئة على الإقبال على التعلّم ولم  يستثمر في البحث والتاليف العلمي، رغم ان هذا الحضور تجاوز ثلاثة قرون وثمانين سنة، منها قرنان واثنين وخمسين سنة تحت مسمى الحكم الحُسيني.
كما أنّه لم يسع إلى خلق الثروات وتكوين رأس مال محلّي قادر على مُسايرة ما كان يُستجدّ شمال المنطقة المتوسّطيّة من نهضة فنيّة  و ثورة زراعيّة عقبتها ثورة تقنيّة و ثورة صناعيّة، بل لم يكن همّ النظام العثماني غير تحويل الإيالات إلى أبقار حلوب يدر ضرع الواحدة منها أكثر ما يُمكن من الخيرات، ضرائب ومنتوجات فلاحية وغيرُها ...
ولم تكن فترتا حكم حمودة باشا الحُسيني والمُشير الأول أحمد باشا باي في تونس غير استثناء للقاعدة العامة  سعا خلالها البايان إلى تحقيق شبه نهضة اقتصادية في البلاد...
وكانت النتيجة تميّز الوضع العام في تونس بالجمود الفكري والتأخّر الإقتصادي والتطاحن اللامُتناهي بين الحاكم والمحكومين خاصة في الأرياف التي هُمّشت مما أدى إلى انتفاضات الأهالي المُتتالية من أهمّها الإنتفاضة العارمة التي قادها علي بن غذاهم الماجري(4)سنة 1864 في وقت بدأ فيه الفكر التحرّري يخطو خُطواته الأولى ويسعى إلى تركيز رؤية جديدة للمجتمع وللنظام السياسي مما أسفر عن إعلان عهد الأمان سنة 1857 أولا يليه إعلان دستور 1861 ...
لقد عكس هذان المرسومان،  والذي سبقهما قرار أحمد باي المتعلّق بتحرير العبيد ومنع بيعهم في البلاد و ذلك سنة 1864 أي قبيل زيارته إلى فرنسا،  رغبة ملموسة في طرح رُؤية جديدة لتنظيم المجتمع التونسي ووضعه على سكّة التقدم الحضاري بتأسيس منظومة الحقوق والواجبات بين الأهالي والأجانب ما لم يتعارض ذلك مع تعاليم الشريعة الإسلاميّة، وهو ما مهّد له المفكّرون كأحمد بن أبي الضياف وسليمان بوحاجب وخير الدين باشا التونسي، وقد تضمّن كتاب هذا الأخير "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" السّبُل المؤدّية إلى إصلاح أوضاع البلاد، و أضحى أحد المراجع الهامّة في مجال العلوم السياسية.
وهكذا نلاحظ بداية تحرّك جزء من النخبة وخاصة المتنوّرة والحداثيّة لطرح أسئلة حارقة للنقاش لإستكشاف الطرق القويمة للخروج من حالة الوهن التي كانت عليها البلاد، ومن بينها سؤال مركزيّ حول أسباب تأخّر العرب وتقدّم الغرب ...

 
المشير أحمد باشا باي الأول
 

وبذلك بدأت حلقة أخرى من حلقات صراع انطلق ولم يتوقّف ، منذ " السقيفة" بين الأصوليين والتحررين ...أدرك خلالها التحرريون أن بلورة مفهوم عصري للإسلام وللحياة  هو الشرط الأساسي للتخلص من تاخّر المسلمين و تثبيت حُضورهم وتأكيده  في قلب دائرة التواصل الكوني لا على هامشها، فيما تمسّك الأصوليّون المُتزمّتون برُؤيتهم التقليديّة الرافضة لكل تجديد باعتباره  بدعة وفتنة تُؤدّيان إلى الضلالة ...
ولئن خبا توهّج الجدال نسبيّا بين شقّي المثقفين سواء في بلادنا وحتى في سائر البلاد العربيّة، كالشام والعراق ومصر ليترك المجال في وقت من الأوقات للنضال ضد القوى الإستعماريّة ، فإن جذوته لم تنطفئ حتى وإن فقد الأوليّة على مسرح تطارح الأفكار الذي يُؤذنُ فقدانه في أي مجتمع كان بالخراب والتصحّر الفكري ...
في مصر لفتت اعمال بعض المفكّرين الأنظار منذ عودة الوفود الطلاّبية من العواصم الأوروبية التي وجّهها إليها محمد علي باشا حاكم  البلاد، لتنهل من مصادر العلم والمعرفة، بطرحهم أفكارا تجديديّة تضمنتها مؤلفات عدّة لعل أكثرها إثارة مؤلف رفاعة رافع الطهطاوي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، إلى جانب مؤلفات الشيخ جمال الدين الأفغاني وأتباعه كمحمد عبدة ومحمد رشيد رضا ... وصولا إلى المؤلّف الحدث الذي أقام الدنيا ولم يُقعدها "أصول الحكم في الإسلام" لعلي عبد الرازق ...
في تونس شهد القرن التاسع عشر بروز نفس تنويري جسّمته جماعة خير الدين باشا التونسي ليتواصل خلال عشرينات وثلاثينات القرن العشرين بواسطة دُعاة التحرر الفكري والمجتمعي كالشاعر ابو القاسم الشابي والمصلح الإجتماعي  والمناضل النقابي الطاهر الحدّاد . وبالتوازي ظهرت موجة ادبية وإعلامية جديدة يقودها الروائي علي الدوعاجي والشاعر محمود بيرم التونسي والصحفي الهادي العبيدي ...
تواصل المد والجزر بين الأصوليين و الحداثيين في السنوات التي عقبت إستقلال البلاد حول النمط الذي يستوجب أن يكون عليه المجتمع والتربية والثقافة في تونس المُستقلّة.ولئن اشتد الجدالُ أحيانا بين "المُستغربين" و"الزيتونيين" فإن الحسم جاء من قبل سلطة سياسيّة قويّة، لها من الإرادة الفولاذية والعزم ما وجه البلاد نحو وجهة تقدمية، تجسّمت في تتالي القرارات الهادفة إلى عصرنة البلاد، اقتصادا ومجتمعا وتربية، فكانت الدعوة إلى المساواة بين الذكور والإناث، ونشر التعليم في كامل ربوع البلاد وجعله مجانيا وفي متناول أبناء العائلات الضعيفة بتأسيس المدارس في البوادي والأرياف، وتحرير المرأة من غطرسة وسيطرة الذكور بمنع الطلاق على الصيغ التقليدية ومنع التعددية الزوجيّة في بلد عُرف منذ قرون ب"الصداق القيرواني" الذي ذاع صيتُه في كل أرجاء البلاد العربيّة منذ القرن الثاني للهجرة ...

  

وبذلك اكتسى المجتمع التونسي حلّة العصرنة وأصبحت للمرأة فيه مكانة تتمنى بقية النساء العربيّات الحصول عليها في بلدانها ...
إلا أن تضخم الأنا السياسية عند "الزعيم الأوحد" أدّت إلى منع وجود الأحزاب المعارضة بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة على النظام،في بداية ستينات القرن الماضي، ليُفتح الباب على مصراعيه أمام الإستبداد بالرأي وانعدام الجدال على اساس الفكر والفكر المعارض فقبعت المعارضة السياسية في السرية في الداخل على نقيض نشاطها في الخارج في صفوف الطلبة والمثقفين المهجّرين، وزُجّ باليساريين من الطلبة والعمّال  في السجون ليتسم المناخ السياسي في  الظاهر بهدوء يُخفي نارا خامدة  تحت الرماد ...
وفي نهاية شهر ديسمبر وبداية شهر جانفي 2011 انفجرت الأوضاع لتطيح بنظام اتُفق على انه أوصل البلاد إلى شفا حفرة لما كان ينخره من فساد ونهم وشبق للمال العام وضرب بحقوق الإنسان عرض الحائط  ...
وغداة "ثورة الياسمين" عاد الجدال من جديد بين قوى تدعي العودة الى الجذور لإصلاح الأمراض الإجتماعيّة، أي بالنسج على منوال "السلف الصالح" وبتطبيق الإسلام في إطار تركيز نظام"الخلافة"، ذلك لأن الحل في نظرها هو الإسلام، وبين قوى تقدمية ترفع شعار التصدي للقوى الرجعيّة التي تراها ظلاميّة، وتطمح إلى الحصول على مزيد من القوانين الضامنة لمدنيّة الدولة ولحرية الضمير  ولتحقيق العدالة والمُساواة بين كل أفراد المجتمع وفي جميع المجالات لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى ...
لقد كان القادح لعودة هذا الجدال رجوع رموز السلفيّة والتشدّد الديني من المنتمين إلى حركة"الإتجاه الإسلامي" من المنافي ومُغادرة المتشدّدين المتورّطين في جرائم ضد النظام القائم وأولئك الذين شاركوا في حوادث مدينة سليمان، من السجون بعد الإعلان عن العفو التشريعي العام ...
وتم فتح البلاد على مصراعيها أمام رموز التشدد والتعصّب وأعلام التكفيريين، ليرتعوا في رُبوع البلاد تحت حماية قادة  حركة الإتجاه الإسلامي التي غيّرت اسمها إلى حزب حركة النهضة، يُلقون المحاضرات في الجوامع وفي دور الثقافة، وحتى بين جدران الجامعات، معاقل العلم والمعرفة وحصون العقلانيّة، يُروّجون خطابا عنيفا مُؤدلجا ومُعبّئا للطاقات الشبابيّة.خطابات لم نتعود سماعها خارج الفضائيّات المحسوبة على الأنظمة الوهابيّة.خطابات تمزج الديني بالسياسي وتُهيج أنصاف الأميين والجاهلين لعمق المعاني والمقاصد التي تتضمّنها رسالة الإسلام.ركيزتها أحاديث منسوب أغلبها إلى رسول المسلمين،  تنادي بحتميّة العنف والتصدّي للفكر المُغاير ولا تتماشى البتّة وروح الإسلام وما يدعو اليه من تسامح وتعايُش. تنشر الكراهيّة والعنصريّة ، تُفضّل النقل على العقل، وتعزف على الغرائز المكبوتة في أجساد شباب مهمّش و محروم،  يحلم بحور العيون ومُقتنع بأنهن ينتظرنه في جنّات الخلد بالعشرات وربما بالمئات إذا ما أقدم على أعنف وأقذر الأعمال يراها وحده مطيّة منها ينتقل إلى الفردوس الأعلى ...



وكانت النتيجة مرور البلاد التونسية، منبع "الربيع العربي" بين أواخر 2011 و2014 بفترات مظلمة شهدت الإعتداءات على قاعات السينما، والهجوم على مقر قناة فضائية وعلى مقر سكن مالكها، وعلى قاعات عرض للفن التشكيلي، والإعتداء الصارخ  على السفارة والمدرسة الأمريكية ونهب محتوياتهما مما كلّف الحكومة لاحقا دفع ملايين الدنانير كتعويضات، والهجوم على المسرحيين في شارع بورقيبة بالعاصمة وهم يحتفلون باليوم العالمي للمسرح، دون ان ننسى "غزوة المنقالة" ومنع الفنانين من القيام بعروضهم المسرحية  ...
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل بلغ مرحلة الإغتيالات السياسية والإعتداءات على الأمنيين والجنود، وقطع رؤوس مواطنين أبرياء والتنكيل بالجثث ...
واليوم وقد خطونا سبع أشواط على اندلاع "الربيع العربي"، وبعد ان ادعت القوى الرجعيّة ممثلة في حزب حركة النهضة، فصل الديني عن السياسي، والتخلّي  ظاهريا عن اللإسلام السياسي، ونُكران الإنتماء في يوم من الأيام إلى تنظيم الإخوان المسلمين، ها أن الجدال يعود من جديد، بأقل حدّة، حول رهان مدني تقدّم به رئيس الجمهوريّة يتعلّق بالمساواة في الإرث بين الذكر والأنثى، ليرد عليه زعيم كتلة النهضة في البرلمان بإلغاء التعليم المجاني وجعله تحت نظر نظام الأوقاف، الذي تمّت تصفيته بعد الإستقلال لتحرير العقود العقاريّة المُجمّدة وتنشيط الدورة الإقتصاديّة، وبعث صندوق لجمع الزكاة وتوزيعها على فقراء القوم ومُحتاجيهم ...
ولعل هذا المشغل الأخير هو المحكّ الرئيسي الذي يُختبر فيه صدقُ الحركة الأصولية فيما يتعلق باعلانها عن توجّهها المدني وتخلّيها عن مزج الديني بالسياسي خاصة وان الظرفيّة العالميّة لم تعد تهبّ في اتجاه مصالحها ...
ويبقى السؤال الحارق المقض لمضاجع التونسيين، متى الخروج من هذه المتاهات الجدالية وقد مرّت على الثورة سبع سنوات عجاف ازداد فيها الوضع الإقتصادي والإجتماعي وحتى النفسي تعكّرا؟ ...