mercredi 13 janvier 2016

دفاعا عن أمال القرامي

لو عُدتُ بذاكرتي عُقودا إلى الوراء،  لما تذكّرت مشهدا  عايشتُه  كشاهد عيان،  و تضمّن سيلا من اتّهامات وُجّهت  لمُفكّر ما، شبيها بالمشهد الذي  تابعتُ فعاليّاتُه  على قناة الحوار التونسي،  في برنامج كال فيه "اعلامي" لأمال القرامي ما لذّ وطاب له من أتّهامات مجانيّة وباطلة،  على مرأى ومسمع من ملايين المُشاهدين .
هو حدث مُؤلم في حد ذاته،  في بلد يُعد قادة الفكر فيه فئة  قليلة العدد، مُقارنة بمُواطنيهم بشكل عام،  ومُقارنة  تحديدا بالإنتهازيين والمُتشعبطين ومُبيّضي الأموال مشبوهة  المصدر،  وأشباه المُثقّفين وأثرياء الرياضيين وأصحاب بيع الأكلات السريعة، وكل الذين يستكرشون من مآسي دافعي الضرائب من العمّال والمُوظفين ... 
كم لدينا من مُفكرين أمثال محمد الطالبي وهشام جعيط و ألفة يوسف وعبد القادر المهيري ومحمد اليعلاوي والمنصف الشنوفي وتوفيق بكار وعبد السلام المسدّي وعمّار وعلي المحجوبي و راضي دغفوس ومحمد الهادي الشريف ومُنيرة شابوتو ويوسف الصديق،  والفاضلين الجعايبي والجزيري،  والرسامين كالتركيين  الهادي وزبيّر ومحمود السهيلي ، والموسيقيين أمثال القرفي وسعادة وابن علجيّة وابن عثمان،  واللّغوي عبد القادر المهيري وغيرهم،  حتّى نكيل لهم التّهم جزافا،  دون أن نُكلّف أنفُسنا الإطلاع على انتاجاتهم ونقدها- وهي ليست معصومة من ذلك- نقدا علميّا وموضوعيّا وبنّاء ؟

 
أمال القرامي

هذا ما حدث مع المُفكّرة أمال القرامي ... المرأة نُكبت مرّتين في ظرف زمني وجيز ... اُهينت في أحد مطارات البلاد المصريّة من غير أن نشعُر بأن السّلطات التونسيّة ردّت الفعل بجديّة، أو  نسمع بوقوف المُثقفين والمفكّرين مُجرّد وقفة احتجاجية رمزيّة أمام مقر السفارة المصريّة – وهذا لعمري أضعفُ الإيمان-، واستُهدفت ،  وفي بلادها،  بنقد شديد ومُغرض من احد المحسوبين على القطاع الإعلامي،  الذي عمد إلى" تحريك المُدية في الجرح" بتقزيمه قامة فكريّة تجاوزت شُهرتُها الحُدود الوطنيّة ...
والأنكى أن شبه الإعلامي هذا قد بدا في حالة غريبة من التشنّج بلغت حد الهستيريا، شاهرا "سيف سيدنا علي" ومُدافعا عن "عرض الرسول"،  الذي بدا له ان المفكّرة قد مسّت منه بكتاباتها العديدة ، والتي لم يطّلع على أكثر من  فقرة منها، استشهد بها بعد أن أخرجها من سياقها،  وتتعلّق  بموقف بعض الفقهاء من إمامة المرأة الرجال في الصلاة،  وما يُمكن أن يثير  سُجودها  أمامهم من ايحاءات جنسيّة .
 ألا يعلمُ أن  الصلاة لا يفترضُ أن يتقدّم المرء للقيام بها من دون أن يكون قد انسلخ  عن  عالم الماديّات، لينطلق مُحلّقا في فضاء الروحانيّات الرحب،  لا  يرى فيه  غير ربّ  يتعبّد بين يديه،  ويُقدّم له آيات الولاء والعرفان بعظمته ويحمدهُ ويشكرُه على ما حباه به .
ليس غريبا ان يكون موقفه غير هذا الموقف، وهو الذي أشك في اطّلاعه  على كُتُب "الآخرين" ليستنير بها،  فلا  يعتبرها كأشباههه –وهم كثر- من" كتابات الكفار" التي لا ينبغي الإطلاع عليها،  كما ذكر لي ذلك  يوما أحد المُشرفين على مكتبة بأحد انهُج العاصمة بعد أن طلبتُ منه  كتاب غزّة للمُفكر محمد الطالبي ...
رُبّما يكون أحد  أولئك الذين يُنسبون أنفُسهم إلى فئة المُثقفين من  الذين سجنوا أنفُسهم في كُتب التراث الإسلامي من دون إدراك لمقاصد مضامينها ؟
وقد يكون من الذين يؤولون النصوص الدينية، النصوص التأسيسية على حد تعبير المُفكر محمد أركون، بفكر مُتكلّس، مُقتصرين على الظاهر من معانيها ...
أو لعلّه أحد أولئك الذين اعتبروا الشابي مُلحدا ومُتهجّما على الإرادة الإلهيّة عندما أكّد على أن إستجابة القدر ليست سوى نتيجة حتميّة لإرادة الشعوب في الإنعتاق والعيش الكريم؟
وربّما هو  أحد أولئك الذين لم يُغادروا "السقيفة" بعدُ، وبقي يُراوحُ مكانه دون أن يعبأ بصيرورة التاريخ، واطلع بالكاد على بعض المآثر التي لم تتجاوز حدود ابن تيميّة والمودودي والسيد قطب وحسن البنا وأبو الرشتة وبغدادي الدواعش وصاحب إدارة التوحّش؟
فهل اطّلع يوما على فكر المعرّي وإخوان الصفاء والمُعتزلة ... وعلى كتابات جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار وألبار كامو، وألتوسار وماكسيم غوركي وماكسيم رودانسون وفرانس فانون وبوحديبة، ومن قلبلهم ماركس وهيجل ونيتشة وديدرو وروسو وفولتير، ورجاء غارودي ومنتغمري وات ... أي أولئك الذين مدوا القرّاء بمفاتيح الفهم الموضوعي ؟

نيتشة وماركس وهيجل
وقبل كل هؤلاء،  هل اطلع على فكر أرسطو وسقراط ومسرحيّات سوفوكيليس؟
وربّما لم يُواكب فعاليّات  الحركة الفكرية العربيّة في العُقود الأخيرة ولم تعترض سبيله كُتُب نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي ونظيرة زين العابدين ونصر حامد أبو زيد والجابري والشرفي ...
لو أتيح له ذلك،  ولو توفّرت لديه  رغبة في تأثيث زاده المعرفي،  لما أصدر أحكاما ذاتيّة، تُدين كتابات وتصريحات المُفكرة أمال القرامي،  ولما عصر الأسف قلبه الضعيف على وزير الشؤون الدينيّة الأستاذ عثمان بطّيخ ...
مُؤسف أن يكون هذا الإعلامي سليل من قتلوا الحلاّج وابن المُقفّع ، وضربوا إمام المدينة  مالك حتى الموت، واستهجنوا بابن عربي ، وأحرقوا كُتب ابن رُشد قبل أن يُهجّروه...
ومُؤسف أن يكون من أحفاد من طعنوا  طه حُسين، اغتالوا فرج فودة، وطلّقوا أبو زيد من زوجته، وكفّروا المسعدي ونادوا بمنع تدريس نصوص علي الدوعاجي في المدارس، وأهدروا دم محمد الطالبي أو كادوا بعد أن اتهموه بكونه الشيطان الأكبر، وإلا لما كان له أن أن يعتبر أمال القرامي من صانعي الإرهاب ومن المُعتدين على "عرض الرسول" الأكرم  دون إثباتات دامغة ...
ان ما أتاه يتناغم تمام التناغُم مع ما قامت به جماعات هاجمت ذات يوم  المسرحيين والفنانين، واعتبرت الفن بكل فروعه حرام، وتهجّمت على قاعة لعرض الرسوم التشكيليّة، وحطّمت واجهة قاعة أفريكارت لعرض الأفلام مُحتجّة على عرض فيلم"لا ربي لا سيدي"، وحاولت إغتيال صاحب قناة تلفزيّة عرضت فيلم برسيبوليس الذي  اعتبروا أحد مشاهده مسّا من الذات الإلهيّة  ...
جماعات تُعادي الثقافة والفكر وتغتال العقل، وتعترض سبيل كل مُبدع،  دعواها في ذلك أن "كل بدعة فتنة وكل فتنة ضلالة وكل ضلالة في النّار" ...
جماعات تأتي الشيء ونقيضه، مُهتزّة الشخصيّة، تعيش انفصاما صارخا، عاجزة عن الإبداع، لا تُؤمن وبحق الإختلاف، ولا بحريّة التعبير ...
جماعات تُعادي المرأة وتعتبرها"  ناقصة" الحُقوق و"مُكمّلة" للرّجل ...  تنزع عنها حُقوقها الكونيّة ولا تعتبرها غير وعاء جنسي لإشباع حيوانية الرجل و لم تتصالح يوما لا مع أجسادها ولا مع جسد المرأة...
جماعات لا ترى في الآخر المُختلف عنها رأيا ومُعتقدا غير عدو،ّ  تُصبحُ معارضتُه وقتلُه فرض عين، وإن لم تستطع فإقصاؤهُ وتهميشُه يُعد من  أضعفُ الإيمان...
جماعات انانية وجاهلة ... لم تتوصّل إلى تحديد العلاقة بينها وبين الآخر ولا تزال مُتخبّطة تعيش ضبابية الرؤية،  ولم تُعرّف إن   كانت تلك العلاقة هي علاقة تعايُش وتواصُل،  أو علاقة نبذ وإقصاء وتهميش ...
جماعات لا تزال تعتقد أن كل ما هو خارج ديارها انما هو "دار حرب" و تُحلّل مُقاومة مُتساكنيها ...
جماعات لا تزال تعتقد أنها "أفضل أمّة أخرجت للناس"، بينما تُشير كل المؤشّرات إلى أنها قابعة في الدرك الأسفل من الحضارة الإنسانية ...



جماعات لا تُؤمن بضرورة تجسير العلاقة مع من يختلف معها على أسس التواصُل والحوار والقبول والتفهّم ...
وليست هذه الجماعات جديدة، بل عُرفت في التاريخ العربي الإسلامي وفي التاريخ العالمي إجمالا، ولئن كانت تعمدُ في القرون الأولى لتاريخ المسلمين، إلى إدراج كل اختلاف في خانة الزندقة، فانها أصبحت اليوم تُشهر اتهامات الكُفر والإلحاد والردّة لقتل الفكر ...
أليس الفكر طائرا مُجنّحا في سماوات الحريّة والإبداع، ونغتالُه لو وضعنا لهُ حُدودا ووشّحنا طريقهُ بالتابوهات، ومنعناهُ من الجدال فيما يراه البعض مُقدّسا، باسم منظومة فكريّة وضعها آدميّون على أسس تتماشى ومصالحهم ولا تخدمُ غير الماسكين بمقاليد الأمور، بدءا  بذريعة أحقيّة "أهل البيت" ووصُولا إلى ذريعة"الأمن القومي" ...
ذرائع ما أنزل الله بها من سُلطان تُستعمل للحفاظ على مصالح ما،  وللضحك على ذقون السواد الأعظم ...
مُؤلم حقا ان ينتصب "إعلامي"، ليُروّج لفكر ظلامي، يعيشُ خارج التاريخ، ويُكيل التّهم بغير حُجج منطقية وعقليّة وتاريخيّة،  لمُفكّرة من بنات  بلده، و في قناة أجنبيّة، ويُدرجها ضمنت المُتهجمين على الرسول الأكرم ، في حين نعلم كلنا ما الذي حدث للذين اتُهموا بذات التهمة من صحافيي جريدة شارلي هبدو الفرنسيّة منذ سنة ...
فهل يدعو بذلك بشكل  غير مُباشر إلى إهدار دمها؟؟؟
قالت العرب قديما: لا يستوي الظل والعود أعوج ...
وقال مولانا جلال الدين الرومي من جملة ما قال:
-      المرء مع من لا يفهمُه مثل السجين.
-      -إن هذه الحياة أقصر من شهقة وزفيرها ... فلا تغرس بها سوى بُذُور المحبّة .
-      -كُنت فجّا ... فنضجت فاحترقت.
-      أما امال القرامي وامثالها من مُفكري بلدي فهم أكبر من الذين يحرثون في البحر ..