dimanche 20 décembre 2015

فعلا لقد أصبح الإرهاب خُبزنا اليومي

  سبق أن كتبتُ مقالا عنونتُه كالتالي"هل أصبح الإرهابُ خُبزنا اليومي".أضفيتُ على العنوان صيغة إنكاريّة لقناعتي وقتئذ بانّ الأحداث التي تعرّضت لها البلاد، على خُطورتها ، لم تبلغ حدا يُهدّدُ الأمن القومي، وذلك لتباعُدها في الزمن من ناحية،  بالرغم من خُطورة بعضها مثل إغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وللتقليل من أهميتها  من قبل الترويكا الحاكمة وقتئذ  من ناحية أخرى ، إذ اعتبرتها أحداثا معزولة لا بل اتهمت المعارضة بكونها تعتمدها كفزّاعة وكشكل من أشكال " وضع العصا في العجلة".
واليوم، وأنا  استحضر السّياق الذي كتبتُ فيه ذلك المقال وأقارنُه بما يحدثُ منذ الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر 2015 في العالم، وأتأمّل مليّا المُستجدّات التي عاشتها بلادنا في علاقة بالأعمال الإرهابيّة ، من تفجيرات سبقتها عمليّات ذبح و قطع رؤوس مُواطنين أبرياء، أُقرّ بأنّ الإرهاب أضحى فعلا خُبزنا اليومي.
وظنّي أن الكثير من المواطنين ، باختلاف مشاربهم وأهوائهم ومُيولاتهم العقدية والسياسيّة ، وأيّا كانت الفئة الإجتماعيّة التي ينتمون إليها ، يشعُرون في أعماقهم الدفينة بأنهم أصبحوا يعيشون فعلا " عصر الإرهاب" . يبدو ذلك جليا على مُحيا كل واحد منهم مهما اجتهد لمُواراة وجله  وراء ضحكات يقتلعها من بُؤس واقعه المعيش.
و للحقيقة فإنّ حدّة هذا   الشعور ما انفكّت تتزايدُ  منذ  الأسابيع الأولى  التي تلت أحداث 17  ديسمبر-14 جانفي 2011، أي منذ ثورة اعتبرها البعض ربيعا غذّى بعبقه الساحر أحلاما دفينة،  منذ عقود  طويلة حتى لا نقول منذ قرون ، أحلاما بالحريّة ، والإنعتاق من ظُلم ، وقهر، واستباحة حقوق،  تراكمت زمنا طويلا ، برّرته السلطة الحاكمة أحيانا، وربما عن حق ، و في ظل بناء الدولة الوطنية بعد الإستنقلال،  بهدف بناء " الوحدة الوطنيّة" ، وعن باطل أحيانا كثيرة من بعد،  بمُقاومة "إرهاب المُتديّنين" و "المُنتمين".
لذلك لم ير أغلب التونسيين حرجا بعد اقتناعهم  بأطروحات بعض التيارات السياسيّة ، ومنذ الأسابيع الأولى من عصر ما بعد الثورة،  في مُطالبتهم بسن قانون العفو التشريعي العام الذي تمتع بموجبه المئات من المساجين السياسيين الذين حوكموا بقانون الإرهاب لسنة 2003، مُعتبرين ذلك تكفيرا لمعاناتهم ( المساجين ) وخطوة لطيّ صفحة ماض أليم تسبب فيه نظام ابن علي الذي حاكم المُعارضين السياسيين مُحاكمات مُريبة لا يتوفّر فيها الحد الأدنى من شُروط المحاكمات العادلة، وتمتد من قضية برّاكة السّاحل إلى قضيّة سليمان ...
لكن بمرور الوقت تبيّن أن من مارس الإرهاب، وهندس لتفجيرات الغريبة بمدينة جربة، وفجّر النزل السياحية بمدينتي سوسة والمنستير، ومن رشّ  وُجوه المواطنين بماء الفرق( ماء النار) ، ومن تسبب في مقتل حارس مقر  لجنة تنسيق الحزب الحاكم، ببطحاء باب سويقة بعد إضرام النارفيه  عمدا، ومن كان يُواري  تنظيما سريّا مُسلّحا، ومن خطط لإنقلابين بالقوة على النظام الحاكم، استهدف الأول منهما النظام البورقيبي المُحتضر في منتصف الثمانينات بينما استهدف الثاني نظام ابن علي في بداية التسعينات، ومن ركّز خلاياه النائمة في المُدن والأرياف، ومن بارك وخطط ونفّذ عملية سليمان الإرهابيّة ...
 كل هؤلاء، وأتباعهم ومُريديهم الذين اندسّوا في مُختلف الأجهزة الحيويّة للدولة معتمدين مبدأ التقيّة، لم يعوا بأن الظروف تغيّرت، وأن المناخ السياسي الجديد منحهم حريّة التواجد كتنظيم مُعترف به قانونا، وأن التسابق و"التدافُع" لم يعُد يحتاجُ إلى حجّة القوّة بقدر ما أصبح في حاجة  إلى قوّة الحجّة، فواصلوا ممارسة الرياضة الوحيدة التي يُتقنونها وهي العنف بشتى مظاهره، الماديّة منها وكذلك اللفظية والمعنويّة.
هاجموا أحيانا المُثقّفين، ومنعوا المُفكّرين،  ألفة يوسف ويوسف الصدّيق من إلقاء مُحاضرات بمدينة قليبية، وكفّروا أستاذ الأجيال والمفكّر محمد الطالبي، شيطنوه وبالكاد أخفوا الدعوة إلى إهدار دمه، منددين به من أعالي منابر المساجد التي لفتكّوا إمامتها عُنوة، واعتدوا بالعنف على الإعلاميين ،فنال زياد كريشان وحمادي الرديسي وسفيان بن حميدة نصيبهم من التعنيف، واستُبيح بيت الإعلامي سفيان بن فرحات وسُرقت محتوياته بعد أ ن هُدد مرّات عديدة بالتصفية الجسدية ... أفسدُوا احتفال المسرحيين باليوم العالمي للمسرح في مارس 2012، في يوم مشهُود تمّ فيه غزو " المنقالة" ورشقُ رايات السلفية اعلاها، في قلب العاصمة وعلى بعد بضعة أمتار من مقر وزارة الداخليّة.
 نادوا بعودة الخلافة التي حوّلوها إلى "مطلب شعبيّ"، وكسّروا الواجهة البلّورية لقاعة سينما افريكارت لعرضها فيلم "لا ربي لا سيديّ، وهاجموا مقر إقامة مالك قناة نسمة الفضائيّة لعرضها فيلم "برسيبوليس" لأنهم رأوا في بعض مشاهده "إعتداء على الذات الإلهية، وهاجموا معرضا للفن التشكيلي بقاعة العبدليّة بضاحية المرسى  ...
تواصل تشنّجُهم المُفتعل بفبركة قضيّة الهويّة وتمسّكوا شهورا طويلة بفرض الشريعة في الدستور كقاعدة لسن القوانين، وأثاروا قضية الطالبات المُنقبات في جامعة منوبة ما أدى إلى تعليق الدروس لأكثر من شهرين، وأنزلوا الراية الوطنية وعوضوها بالراية السلفية، واتّهموا العميد بالإلحاد وبتعنيف إحدى المنقبات ما جعله يتنقل بين أروقة المحاكم لأكثر من شهرين مسنودا داخليا وخارجيا من قبل أهل الفكر والمُتثبّثين باحترام الحريات الفردية ...
تزامنت كل هذه الأحداث مع إعتلاء من لا تتوفّر فيه شروط إمامة الناس المساجد،  تربّعوا على آلاف المنابر وحوّلوا المساجد إلى قلاع للتكفير،  وإلى ثكنات تُكدّسُ داخلها الأسلحة،  وتُعقد الندواتُ،  وتُجمع التبرّعات الماليّة ،  وتُنظّم الدروس المُحرّضة على العنف والإعتداء على العلمانيين وعلى المُثقفين الذين اعتبرهم أحد القياديين السلفيين "نكبة البلاد".
وانطلقت حملة تحجيب الفتيات الصغيرات في رياض الأطفال وفي " المدارس القرآنية" التي أرادوها منطلقا لتعليم مواز للتعليم النظامي، ولقّنوهن عبارة"موتوا بغيضكم" المُوجّهة للعلمانيين. وفي نفس الوقت  انتصبت آلاف الجمعيّات الخيرية الضبابية النشاط والتمويل ، وساهم العديد منها في تهجير  الشبان إلى سوريا وليبيا لقتال المرتدين،  تصاحبهم فتيات  كُلّفن بمُمارسة نوع خاص من الجهاد ...
كل هذا كان يحدثُ بمباركة ضمنيّة من قبل قوى دينية كانت طرفا رئيسيّا في إدارة شؤون البلاد، وساهم بعضُ قيادييها مُساهمة مباشرة في جلب دُعاة الكراهيّة  وشُيوخ الفتنة والتطرّف،  ومنتجي الفتاوى المُضحكة المُبكية الذين جاؤوا يحدوهم عزم على "إعادة فتح البلاد"، وعلى تلقيننا أصول دين اعتنقهُ أجدادنا الأوائلُ منذ الحملة الإسلامية الأولى على افريقية سنة 27 للهجرة والتي قادها عبد الله بن أبي سرح إنطلاقا من طرابلس،  قبل ان يُصبح تقريبا الدين الرسمي لولاية المغرب الإسلامي بداية من سنة 50 للهجرة،  وهي السنة التي أمر  فيها عقبة بن نافع بتخطيط أوّل مدينة وأول مسجد بالمغرب الإسلامي، مدينة القيروان وجامع عُقبة.
جاء هؤلاء الدعاة يحدوهم إعتقاد راسخ بأنهم سيرفعون الجهل عنا لذلك حرصوا على تعليمنا كيفيّة تغسيل موتانا قبل مواراتهم التراب، وختان بناتنا وزوجاتنا، وتداوينا من الأمراض بتجرّع بول البعير، دون الإغفال عن لفت نظرنا إلى ضرورة منح نسائنا وبناتنا أضرعهنّ لإرضاع زملائهنّ  في العمل ليُصبحوا حرما عنهنّ فنتّقي بذلك الفتنة ...
أمام هذا الإرهاب المادي والفكري كان أغلبُ قياديي الحركات الدينيّة ومعهم بعض قادة الأحزاب التي تدعي الديمقراطيّة، يعتبرون أن المخاوف من الإرهاب المُتصاعدة وتيرته، انما هي مخاوف في غير محلّها ولا وجود لها إلا في مخيّلة المُتوهّمين ممّن يرفعها ك"فزّاعة" لترهيب أطراف سياسية مُعيّنة واتهامها باطلا  بمسؤوليّتها في بعض "ألأحداث المعزولة" ...
و تواصلت الممارسات الإرهابية معنوية كانت كتنظيم حفل تقبّل العزاء اثر  مقتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن، أو ماديّة كأحداث الروحيّة في 2011، وخاصة تنظيم أنصار الشريعة لمؤتمرهم الأول في مدينة القيروان، وتنظيم حزب التحرير مؤتمره في ضاحية سكرة في 21ماي 2011، ذلك المؤتمر المشهود الذي تحدث فيه القيادي النهضوي الصادق شورو، والنائب بالمجلس الوطني التأسيسي، وصاحب الدعوة إلى تقتيل المعارضين وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، سنده في ذلك آية قرآنية أخرجها من سياقها التاريخي ، تحدّث عن صلح الحديبية وأسقطه على وضع البلاد إسقاطا مجانيا مُشبّها أنصار الشريعة ب"المؤمنون والمُنتصرون للرسول"، وبقية الشعب ب " كفّار قريش" مؤكدا بذلك فكرة تقسيم الشعب إلى مؤمنين وكفّار ...
وبلغ العنف ذروته بالهجوم على سفارة الولايات المتحدة الأمريكيّة وعلى المدرسة الأمريكية في 14 سبتمبر 2012 ، من جهة،  ونهبهما وإضرام النار فيهما ، ما ألحق ضررا فادحا بعلاقة البلدين و  لم يُجبر جزئيّا إلا بدفع الحكومة تعويضات مالية كبيرة ، في وقت شحّت فيه السيولة وتعطّلت أجهزة الإنتاج الإقتصادي من سياحة وصناعة واستخراج مناجم ... ومن جهة أخرى،  اغتيال الزعيمين المعارضين شكري بلعيد في 6 فيفري 2013 ومحمد البراهمي في 25 جويلية من نفس السنة، ما حرّك المجتمع المدني الذي انتفض وهبّ مناديا برحيل الحكومة بعد ان علّق نواب المعارضة مشاركتهم في نقاشات المجلس التاسيسي والتحقوا باعتصام الرحيل في ساحة باردو، بالعاصمة لينضمّوا لرافضي العنف والمزج بين الديني والسياسي،  الممارس من قبل من يتحدث باسم الدين،  ومن نصّب نفسه على العرش الإلاهي،  واغتصب صلاحيات الخالق،  وانبرى يحلل ويحرّم،  معتقدا  أنّه لا ينطق عن الهوى،  وانه يُمثّلُ الحقّ المُطلق...
وإذا قبلنا جدلا أطروحتهم المنادية بأنهم يُمثّلون "الإسلام الحق"، وأن من يخالفهم الرّأي لا يمتّ للإسلام بصلة،  ما يستوجبُ  في رلأيهم مقاومته مُقاومة يراها البعض من المتشددين فرض عين على كل مسلم،  فلنسألهم عن الشّكل الذي يرون لتلك المقاومة؟  وهل انها لا تكون بغير رفع السلاح؟
 وهل ثمّة طريقة سلمية واكثر  حججا وإقناعا لجلب "الآخرين" إلى صفهم،  صف من يعتقد إعتقادا راسخا بان الدين الذي يعتنق هو الأمثل والأجمل والحق وان لا دين غيره؟
ولنسألهم أيضا بماذا يُبرّرون قتل النفس البشريّة التي حرّم الله قتلها إلا بالحق؟ وماهو تفسيرهم للحق؟  وهل يرون أنفسهم فعلا على حقّ؟
ثم كيف لهم ان يُبرروا تفجيرات مدينة باريس ذات يوم جمعة 13 نوفمبر 2015؟
وما هو تفسيرهم لقطع راس الراعي الشاب مبروك السلطاني في احدى مناطق البلاد البعيدة عن بهرج المراكز الحضريّة؟

مبروك السلطاني
و كيف يُفسّرون للعالم بأن تفجيرات بيروت،  يوما واحدا قبل مذبحة وتفجيرات باريس،  والتي استهدفت حي بُرج  البراجنة الشعبي،  انما هي "حقّ"وقد تسببت في مقتل اكثر من أربعين بريئا وجرج أكثر من 240 مواطنا؟
وبايّ وجه حق تُزهقُ أرواح 147 طالبا كينيّا داخل الحرم الجامعي من قبل تنظيم بوكو حرام الإسلامي؟
وضع مُؤسف ومُؤلم نعيشه ... يُخيّل إلينا أحيانا أن العالم أصبح يسير على رأسه، وان ممارسي العنف يُطلّون علينا برُؤوسهم من كهوف الماضي السحيق وهم في قطيعة تامة مع زمانهم لا علاقة لهم به، ليفرضوا علينا راهنا لا يُمكن فهمه وإدراك ميكانيزماته بغير البحث في جذور الإرهاب ومُحاولة فهمها ليتسنى لنا النظر إلى الظاهرة نظرة شُموليّة وعميقة تُساعدُ على مواجهة الطوفان ...
في رأيي جذور عدة تُفسّر هيّأت  الظاهرة، ولئن يعسر حصرُها والإحاطة بها لعُمقها التاريخي وربما لوُجودها ولإرتباطها بطبيعة الشخصية القاعدية للفرد العربي منذ ما قبل الإسلام، فانّه بالإمكان وبكل يُسر رصد أهم محطاتها التاريخيّة منذ البعثات أو الحملات الإسلامية الأولى بمناسبة حروب الردّة، مرورا بظهور الفرق الإسلامية من خوارج وشيعة، وظهور مختلف الفرق والملل والنحل والمذاهب، وما قامت به كل واحدة  منها من أعمال عنف وشّحت جبين التاريخ الإسلامي، وصولا إلى الحروب الصليبيّة وحركات المقاومة للإستعمار وانتهاء بظهور الكيانات السياسية القزميّة في الخليج العربي وبناء الدول الوطنية بعد الإستقلال في سوريا والعراق واليمن ومصر والمغرب العربي و الحربين على العراق الجريح والحرب الأهلية الحالية في كل من سوريا واليمن ...
غير انه بالإمكان  في رأيي حصر الظاهرة  في  جذور ثلاثة تساعد على وضوح الرّؤية وتُيسّر بعد ذلك التصدي لها قبل أن تأتي على الأخضر واليابس.



هذه الجذور هي:
أوّلها : تخلّفُ هياكلنا السياسية
 أغلبُ الأنظمة السياسيّة  في جلّ  البلدان العربيّة ، مُتخلّفة يُسيطر عليها مُنذ إستقلالها،  قادة أو عائلات قياديّة انبثقت من رحم الثكنات العسكريّة لتُؤسّس أنظمة حُكم استبداديّة، أو رؤساء قبائل ومُمثّلو عشائر قروسطيّة التنظيم والتصرّف،  يُديرون شُؤون كيانات سياسيّة مشرقيّة قامت على أشلاء " الرجل المريض " الذي فصل قادته بعد الحرب العالميّة الأولى الحبل السرّي الذي  كان يشُدهم إلى إيالاتهم المشرقيّة تحديدا،  لإعتبارهم إيّاها  سبب نكبتهم وتأخرهم عن ركب بقية الدول الأوروبيّة، ووضعوا حدّا لنظام امبراطوريّ نخره الوهن بعد ان رفعوا  طويلا و منذ سقوط العبّاسيين تحت ضربات المغول، شعار" الخلافة" الذي أصبح شبحا أكثر منه واقعا  ملموسا وقائم الذات بالفعل.
وسرعان ما ملأ الفراغ الذي أحدثه تأسيس  تُركيا الحديثة،  مخطّط خبيث اجتهد في رسم خطوطه  سايكس و بيكو،  وزيرا  الدولتين الإستعماريّتين  الكلاسيكيّتين،  بريطانا وفرنسا، اللذين وضعا خريطة جغراسياسيّة جديدة للمنطقة،  مُتناغمة غاية التناغُم مع "إعلان بلفور"،  رأسُ الخارجية البريطانية،  الذي وعد فيه اليهود بتأسيس وطن لهم، يجمعُ شتاتهم،  في أرض الميعاد  بدعم من ملك بريطانيا العظمى.
وهكذا تمزّقت خريطة الوطن  العربيّ ، وبرزت في المشرق الإسلامي وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وفي ستينات القرن الماضي،  دُويلات لا تملك مُقوّمات ألدولة الوطنيّة،   لا تاريخيّا ولا جُغرافيّا ولا بشريّا، إذ لا تعدو أن تكون  سوى تكريس لإرادة بريطانيا وفرنسا في تفتيت المنطقة للسيطرة عليها لاحقا، باستغلال مواقعها الإستراتيجيّة أوّل الأمر، ثم قُدراتها الإقتصاديّة بعد إكتشاف ما تزخرُ به بواطنُ أراضيها من مُدخرات محروقات لا مثيل لها.
ومن بين هذه الدويلات، دويلة تُسيطر على الأماكن الدينية المُقدسة لدى المُسلمين، نجحت في طرح نفسها ناطقة باسم الدين الإسلامي، وتسعى جاهدة إلى نشر المذهب الوهابي التكفيري، بكل الوسائل بما فيها الإغراءات الماديّة التي تُوفّرها عائدات النفط الضخمة، ما ساهم في انتشار ظاهرتي العُنف والفوضى  الذين يخدمان مباشرة  ما تستبطنُه من رغبة  في السيطرة على كيانات المنطقة والتحوّل إلى رقم هام  في ميزان القوى  الإقليمي الجديد ، خاصة وقد  توصّلت الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، مُنافستُها،  إلى حلّ الإشكال القائم بينها وبين القوى الغربيّة في علاقة بمجهودها النووي.
اضافة إلى ذلك فإن حُكّام هذه الكيانات الهشّة، والذي يوجدُ من بينهم رُعاة أو أبناءُ رُعاة، لم يكتسبوا من العلوم والمعارف أكثر من حفظ ببغائيّ لجزء عمّ على أكثر تقدير، استغلّوا الدّين لشرعنة وجودهم وتوريث أبنائهم أو أقاربهم في سدّة الحُكم.
ولئن كان فاقد الشّيء لا يُعطيه فإنّ هؤلاء قد روّجوا عن جهل أو عن غباء، أو عن الإثنين معا، ثقافة أساطير وخرافات عمادُها أحاديث مُختلقة ومنسوبة للرسول. ثقافة لا تعترف بالممارسات الديمقراطيّة ولا بروح المُواطنة ولا بحقوق الإنسان، ولا بحق الإختلاف فضلا عن حق المُعتقد. ثقافة تعتبر طاعة أولي الأمر واجبة والخروج عنها مروق عن الخط المستقيم وعن إجماع الأمّة، ونقدهم ضلالة تستوجب التأديب من جلد وحبس ... ثقافة تُكرّسُ فكرا قدريّا يرى في كل ما يحدُثُ، خيرا كان أو شرّا، نابع عن إرادة إلهيّة لا يُمكن البتّة معارضتُها، لأن معارضتها تدخل في خانة المحرمات وتُعدّ كبيرة من الكبائر،  لا بل  شرك  بالله. ثقافة تُؤمن بأن الخروج عن أولي الأمر فتنة حتى وإن كانوا مُستهترين بحقوق المُتساكنين ومُغتصبين لحُقوق المرأة، ومُكرّسين تمتّع العائلة الحاكمة ومن يدور في فلكها،   بالثروة والجاه،  والإتيان بكل المُوبقات،  دون سائر السكان،  ومن غير رقيب ولا حسيب ولا ... عقاب.


ثانيها: التوهّمُ بأنّنا الأفضل
الإعتداد  الكاذب  بالنفس من خلال عبارة تلوكها أفواهنا كعرب منذ قرون عدّة، لنُقدّم بها أنفسنا للآخرين،  وهي عبارة  " خير أمّة أخرجت للنّاس"،  من غير أن نعمل على تكريسها على أرض الواقع الملموس، بل ترانا نتباهى بها، ننفخ أوداجنا، وتعلو مُحيّانا ملامح الإفتخار والتعالي، ونتوهّم أننا أصحاب" رسالة كونيّة" وأنّ القرآن بنزوله  بلغة إحدى قبائلنا، قد ميّزنا عن بقيّة خلق الله.
لا يزال هذا الشعور بالإستعلاء عن بقيّة أمم الأرض يملأ بواطن  مئات الملايين من العرب، لم يتخلّصوا منهُ ، و لم يستيقظوا من الغيبوبة الثقافيّة والعلميّة والتّاريخيّة التي دخلوها من أوسع أبوابها منذُ قرون، يُهدهدهم حلم العيش على منوال  أوائل المُسلمين ، لا يرون فيه أي عيب ولا يتصوّرون نمطا غيره، نمط يرى "الآخر" المُختلف كافر ويعيشُ في "دار حرب"، غير واعين بان السلبيّة الحضاريّة تغلبُ على ماضينا الذي يعكس براعتنا في التقتيل والإنتقام والإستبداد، واستئثار قادتنا بقدرات شعوبهم، وتفوّقنا  في التدمير والصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف وتقطيع الأوصال والعبث بجماجم ضحايا همجيتنا ، وسحقنا قرى بأكملها، وحرماننا شعوبا بأكملها من أبسط حقوقها الدينيّة لنُدخلها عنوة دينا غريبا عنها، فرضناه عليها بحد السيف مُخيّرين إيّاها  بين اعتناقه أو الموت دونه، بداعي "الفتح"، لا بل أجبرنا البعض ممّن دخلن ديننا على دفع الجزية وهم صاغرون ...
اما ما قدمنا للبشرية باسم علماء مسلمين فان أغلبه كان من ابداعات مُسلمين من غير العرب،  في كل المجالات تقريبا و من بينها  المجال  العلمي والأدبي والفقهي وحتى الفني والموسيقي، بينما فلح العرب في نظم القوافي  مُتوهّمين  ان الشعر ديوانهم ...
كل هذا يجعلنا اليوم نقول مُحقّين  أننا أمّة تعيش على ماضيها،  لا تتوقّف عن النظر إلى الخلف، مُستلهمة كل صغيرة وكبيرة من السلف، مُهملة لحاضرها،  ولا مكان للمُستقبل في تفكيرها، ترفض رفضا قطعيّا الإنخراط في عصرها ولا تتعامل مع المُستجدات التكنولوجية والعلمية بغير عقليّة المُستهلك، رغم محاولات الفئات المستنيرة اللسباحة ضد التيّار ومُصارعة قوى الشد إلى الوراء.
ثالثها: إهمالُ  الإستثمار في النّاشئة

الناشئة هي المستقبل، مُستقبل كل الشعوب،  هذا أمر بديهيّ، لكنّنا لسنا على إدراك تام بأهمية ما تُمثّلُه من رأس مال  سيكون مردودهُ وفيرا على الجميع إذا ما أحسننا إستثماره. إنّ الواقع يعكس عدم اهتمامنا بها وعدم إيلائها ما تستحقّ من العناية إذ ترانا نُعاملُها مُعاملة القصر أو لنقل مُعاملة الراعي لماشيته، فلا نمكّنها من الرعاية والتأطير العلمي والنفسي  الضروري. نُقدّم لها مقرّرات تعليميّة لا تتوافق والحركة العلميّة والفكرية السّائدة في عالم اليوم.نفرضُ عليها أسلوبا تلقينيّا لا يُساهم في بناء شخصيّة  سليمة ومُتوازنة، ولا نشجّع على توجيهها نحو سُبل الخلق والإبداع والإبتكار، لا نزرعُ فيها إحترام الحقوق الكونيّة للإنسان، بل نُنمّي فيها العنصريّة والعصبيّة والقبليّة ، ونصدّ تنمية الفكر الناقد والشّعور بكرامة الذات الإنسانيّة.
أما الخطابُ المُعتمد لتكوينها فهو خطاب يُعادي الإيمان بقدرة العقل ولا يقطعُ مع كل مظاهر الإنحطاط والركود.خطاب ماضويّ لم تتغيّر مُفرداته منذ قرون، ينشُرُ سُلوكا تمييزيّا وفكرا أسطوريّا يختلف في بلادنا على الأقل مع  ذلك الخطاب الذي ساد في ستينات وسبعينات القرن الماضي في الأوساط الشبابيّة، في فضاءات دور الشباب ونوادي السينما ودور الثقافة في مختلف الجهات وفي المهرجانات والمسارح قبل أن يُضيّق عليه الخناق ويوضع حد تقريبا لخطاب يُنتج فكرا مستنيرا مواكبا لزمانه.
الخطابُ السائد اليوم خطاب صاغه شُيوخ يعتبرون أنفسهم"عُلماء"، وما هم بالعلماء، لا يستوعبون ما يجري في هذا العصر، لا يُدركون مبادىء وأصول الدين ولا مقاصد الآيات القرآنيّة ولا السياقات التاي انزلت فيها ...
يُروّج هذا الخطاب في الفضاء المسجدي وخارجه، أئمّة مُتشبّثون بالقشور، يُحلّلون ويُحرّمُون من فرط جهلهم أمُورا في غاية البساطة يرونها فُسقا ومُجونا وبدعا، عوضا عن تطرّقهم لجوهر الدين وما يزخر به من مفاهيم سمحة وقيّمة وذات بعد كونيّ.
وإذا ما تنضاف إلى ذلك ما تبثّه الفضائيّات الدينيّة من خطاب موغل في الماضويّة، فإنّ كل ذلك ينعكسُ سلبا على تشكيل عُقول ملايين من الشبّان لم يستكملوا بعدُ تكوينهم الديني وليس لهم من المكتسبات الثقافية سوى النزر القليل، ليتحوّلوا إلى قنابل موقوتة، وإلى مشاريع تكفيريّين وانتحاريين، غير واعين بالآلة التي جنّدتهم وبأهدافها السياسيّة وفي مُقدّمتها نشرُ "الفوضى الخلاّقة" لتأسيس "الشرق الأوسك الكبير والجديد".
لا يشذ عن هذا السياق صياغات السلفيين في بلادنا وفي مقدّمتهم الناطق الرسمي باسم أحد الأحزاب الدّينيّة المتشددة ، حتى لا نقول المُتطرّفة. صياغات تعكسُ الفكر الإنعزالي وتعكسُ الخلل العميق في فهم وقائع تاريخيّة تُخرجُها من السياق الذي نزلت فيه ، لتُروّج صورة هلاميّة للخلافة إعتمادا على أحاديث نبويّة موضوعة،  أحاطتها بفكر أساسُه  التكفير والتقتيلُ والتفجيرُ والتدمير ، غرستهُ في فكر ناشئة أوهمتها بأنّها حاملة لرسالة إلهيّة محورها رفعُ راية "الصحوة الإسلاميّة"، بينما لا تعدو أن تكون هذه الصحوة غير انعزال عن المُحيط الطبيعي والحقيقي والواقعي والتاريخي والمقاصدي والشّرعي ( من القانوني وليس من الشريعة) والنظامي لعصرنا للراهن، و تجسير لمرور شباب غضّ ، غير مُكتمل النّضج  فكريّا ومعتقدا، وغير مُتشبّع بملكة النقد، ألى صُفوف الحاقدين على أنظمتهم وعلى واقعهم، كخُطوة أولى تليها ارتماؤهم في أحضان الدواعش لقتال إخوان لهم في الدين والوطن، أو تفخيخ أجسادهم لإلحاق أكثر ما يمكن من الأذى بمن يعتبرونهم "كُفّارا"، يُهدهدهم حلم مُلاقاة عشرات الحوريّات في جنات الخلد تعويضا عن الكبت الذي عاشوه في الدنيا الفانية ...
هذه الجذور الثلاثة التي أعتبرها من أهم عوامل تمدد الإرهاب في البلاد، إلى جانب جذور أخرى لا تقلّ أهميّة، وذات بعد اجتماعي ونفسي واقتصادي وسياسي، لا يجب أن تجعلنا قصيري النظر حول ما  يُحاك  لنا خارج أوطاننا من مُؤامرات نسج خيوطها الماسكُون بمراكز القرار في العالم من البيت الأبيض إلى عاصمة الكيان الصهيوني، دفاعا عن مصالحهم الإقتصاديّة والإستراتيجيّة ولفكرة العولمة وما يتبعها من تركيز نظام اقتصادي جديد، يعتبر تمزّق الدول العربيّة على أسس دينيّة وطائفيّة واثنيّة ،  وإهدار قدراتها لتيسير دخولها بيوت طاعة القوى العُظمى ، أحد عوامل نجاحه.
بحيثُ لا تخفى إذا دقّة الوضع الذي أصبحت تعيشُه بلادُنا التي توقّفت فيها أو كادت ان تتوقف عجلة الإنتاج الإقتصادي وتوقّفت أو كادت أن  تتوقف عمليّة ضخ الإستثمارات محليّة كانت أو أجنبيّة، لخلق مواطن الشغل ومُعالجة أكثر المشاكل دقّة وهو التشغيل وخلق الثروة التي تّمكّن من تنمية المناطق المحرومة والفئات الإجتماعية المُهمّشة ، ما انعكس سلبا على الوضع السياسي وعلى حضور الدولة وفُتح باب  المُهاترات على مصراعيه ليظهر  خطاب ديني خارج عن الموضوع تماما.
فما هي الحلول التي يمكنها مُعالجة هذا الوضع الدقيق؟ 


dimanche 30 août 2015

العُنف المُقدّس والعلاقة شرق-غرب منذ ظُهور الإسلام، الجزء الثاني والأخير




في الحقيقة لا يخفى على أحد طبيعة العلاقة القائمة بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي والتي كانت، على مر التاريخ، علاقة مُجابهة وصراع وتنافس، رغم بعض" النوايا الطيبة " الصادرة عن الكنيسة المسيحيّة، والتي عبر عنها عديد الباباوات، وفي مؤتمرات رسميه مضمونها أن " التحوّل فيما يخص العلاقة بين العرب والكنيسة الكاثوليكية أصبح حتميّا"، إلا أن خطاب البابا بينوا السادس عشر في جامعة راتسبون يوم الثلاثاء 12 سبتمبر 2006 في اطار زيارته لألمانيا ، قد أساء للإسلام وللمسلمين لمّا ربط بين الإرهاب والشرّ والإسلام، ما دفع عددا من المفكرين المسلمين إلى الإنسحاب من " منظومة حوار الحضارات "، وخاصة بعد أن استحضروا قرارات مجمع الفاتيكان الثاني لسنة 1965 والتي برّأت قراراته اليهود من دم السيد المسيح عليه السلام و"فرضت" الحوار بين الأديان مُستبطنة العزم على تنصير من يتحاور المسيحيّون معهم.
ولعل من المفيد، ولمزيد فهم العلاقة مسيحيّة – إسلام استحضار السياق التاريخي للربع الأول من القرن السابع للميلاد والذي شهد ميلاد الإسلام كدين جديد وإقامته امبراطوريّة شاسعة في وقت وجيز وترسيخ أركانه العقائديّة في سوريا ومصر والعراق وما وراء النهر وفي شمال افريقيا على حساب فضاء كان للمسيحية فيه السيطرة المُطلقة والتأثير العميق والإستغلال الحصري للثروات الطبيعيّة المحليّة.
وهنا يبرُز الإسلام كدين في ثوب مُنافس عنيد، يتقاسم البحر المُتوسّط مع أوروبا المسيحيّة بعد ان وضع أيديه على ضفّته الجنوبيّة و  قبل أن يتحوّل إلى أخطبوط يمُد مجاسه ومُلتمسا  طريقه إلى جنوب شبه جزيرة إيبيرية ليقضمها إثر وصول جيوش القائد البربري إليها طارق بن زياد في انتظار سيطرته ر لقرون على جنوب جزيرة صقليّة الإيطاليّة التي غزتها جُيوش الأغالبة  بقيادة القاضي أسد بن الفرات.
وهكذا تعمّقت المُنافسة مسيحية – إسلام ما مهّد للحروب الصليبيّة التي وجّهت فيها الكنيسة جُموع المسحوقين والمُهمّشين من المسيحيين، ضحايا نظام ديني – سياسي – إجتماعي  احتكرته فئة قليلة العدد من المحظوظين، إلى فلسطين بُغية استرجاع القدس. وهناك اصطدموا بعد عُقود عديدة وبعد تأسيسهم إمارات مسيحية، بالقائد الأيوبي صلاح الدين وانهزموا ما أسرع بمغادرتهم الشرق وافريقية إثر ما أصاب الجيوش الصليبية وقائدها لويس التاسع ما أصابها وهي على عتبة  مدينة تونس.
وبعد حين أطرد المسلمون من الأندلس وسقطت عاصمة البيزنطيين، القسطنطينيّة بيد آل عُثمان الذين سيطروا على منطقة البلقان...
ويتواصلُ الصراع حول المتوسط، القلب النابض للعالم وقتئذ  تجاريّا، وتُسيطر الجيوش الإسبانيّة على سواحل المغرب الأقصى وبعض المناطق الساحلية الجزائريّة، قبل احتلال الإمبراطور شاركان مدينة تونس سنة 1534 وتنازل الملك الحسن الحفصي على البلاد حسب اتفاقية 1535.لكن في  سنة 1574 تمكّنت الجيوش العُثمانية تحت إمرة القائد سنان باشا من طرد الإسبان والإحلال محلّهم وإلحاق تونس بالإمبراطورية العثمانية كإيالة من إيالاتها، فيما حوّل الإسبانُ وجهتهم إلى العالم الجديد...




صدامات  وملاحقات... أفعال وردود أفعال...شحن لعزائم ضعاف حال  زُجّ بهم في حروب ألبسوها عباءات الدين من هذا الجانب أو ذاك وجعلوها حُروبا لرفع " راية الإيمان " ضد " الكُفر " ... حروب خطّطت لها الكنيسة المسيحيّة باشراف البابا أوربان الثاني الذي أعلن في مجمع كليرمنت بأنها " حرب باسم الرب " وأطلق على المُشاركين فيها اسم " جُند يسوع "، ووعد بغُفران ذنوبهم وأغدق عليهم العطايا.
وهكذا يكون العامل الديني حجر الزاوية  في المُخططات الإستعماريّة و أحد الركائز المؤسسة لإستراتيجيّة  إقتسام العالم. وهذا مطرانُ مدينة باريس يصفُ الإحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830 على انّه " انتصار للمسيحيّة على الإسلام "، في حين يُدين مطران الجزائر بعد أكثر من قرن، حرب التحرير الجزائري عندما تلحّفت برداء الدين في صراعها ضد الوُجود الفرنسي على الأراضي الجزائريّة.
غير انه لا يختلف عاقلان  بخصوص فوبيا الإسلام أو الإسلاموفوبيا، ذلك الخوفُ المرضي والحساسية المُفرطة من الإسلام،  والتي غزت الغرب في السنوات الأخيرة تحديدا، على أنّها نتيجة منطقية ناجمة عن شناعات المُتشددين من الإسلاميّين في عديد البلدان إلا أنها (الإسلاموفوبيا) نتيجة ايضا لترسيخ رجال الكنائس والبيعات  للصورة السلبية للإسلام في وعي ولا وعي العامة من اتباعهم منذ القرون الوسطى، أي منذ إدراكهم أن الإسلام الذي،  رغم تأكيده  على التوحيدية الإبراهيميّة قد  اختلف معهم فيما يتعلّق بتجسيد الطبيعة الإلاهيّة ونفى نفيا قطعيّا فكرة التثليث، ما اثار خوفهم من  تقويض النّظام البنيوي اللاهوتي الذي كان مُهيمنا على مخيال ومُعتقدات المسيحيين،   خاصة وأن  الإسلام  أخذ يتمدد جغرافيا بواسطة الفتوحات في آسيا وإفريقيا وجنوب أوروبا.

ولئن كان مُناهضو الإسلام كدين يعتمدون قديما وسائل تتمحور حول  ترويج صور سلبية و في نشر خُرافات مُشوّهة لدين المُسلمين، والتشجيع على الإنخراط في الحروب الصليبية والتحوّل إلى الأراضي التي " تفيض لبنا وعسلا"، فإن المُناهضة اليوم يقودُها عوضا عن رجال الدين التقليديين،  الاقتصاديون والخُبراء الماليّون ، و بأكثر دقة كبريات الشركات متعددة الجنسيّات والعابرة للقارات و المُعتمدة على وسائل حديثة لعلها اكثر نجاعة وأسرع لتحقيق أكثر ما يمكن من أرباح مادية بغض النظر عن الجانب الروحي.
ونُشير إلى أن خوف المسيحيين في القديم من الإسلام لم يكُن بمعزل عن رغبة نُخبهم في التعرّف على كل ما يخصّ مُنافسهم العنيد فيما يتعلّق بنمط عيشه وثقافته لتجاوُز المعلومات الضئيلة التي كانت تصلُهم حوله والتي  كانت تتلخّص في كون العرب ليسوا إلا سُكان صحارى يُقيمون حياتهم على النّهب والجنس واللصوصية. هذه الرغبة في رأيي هي  مُحاولة لعمليّة تثاقف صدرت عن الجانبين إذ سعى العرب بدورهم إلى معرفة منافسيهم سواء عن طريق العيون التي زرعوها في " دار الحرب" أو عن طريق المبادلات التجارية أو من خلال أدب الرحلات.
غير أن عملية التثاقف هذه تضمنت نقيصتين وهما:
  • إقتصارها على الفئة المسيحية المُثقفة التي وضعت حجر الأساس لعملية تواصُل ثقافي لم تُفلح الحروب في أكثر العصور تصادُما في وضع حد لها. وهذه في رأيي نقيصة منطقية باعتبار انحسار مجال المعرفة في القرون الوسطى واقتصار عملية التعلم على القليل من السكان الميسورين .
  • اقتصارُها على ترجمة المُؤلفات العلمية والفلسفيّة ككتب الرازي وابن رشد وابن سينا والكندي وابن الهيثم فيما اُهملت النصوص الدينية عن قصد أو عن غير قصد.
وهكذا بقي الجزء الأكبر من التراث الإسلامي بما في ذلك كتب الأحاديث النبوية وكتب السنة مجهولا عند الأوروبيين ويلُفّه الغُموض، بينما تغلُب الخُرافات  الأكاذيب والتشوّهات على النزر القليل الذي وصلهم منه.
هذين النقيصتين نجدُهما في الجانب العربي أيضا إذ قام العرب في إطار تفتّحهم على الحضارة الإغريقية تحديدا بترجمة أمّهات الكتب العلميّة والفلسفية بين القرنين الثالث و الرابع للهجرة/ التاسع والعاشر للميلاد، وأسقطوا من مجال إهتماماتهم كل ما يمت للمسرح وللملاحم وللشعر ولكتابة التاريخ بصلة.
وعليه بالإمكان التأكيد على أن كلا من العرب المُسلمين والغربيين من المسيحيين قد أستفادوا من تراث بعضهم البعض لكن بقيت صورة الإسلام كدين عند المسيحيين مُشوّهة الملامح ما جعل العرب يُحافظون على مكانتهم كأعداء خطرين مُهددين لبقاء المسيحيين، لذا تُصبحُ محاربتهم واجبة.
كما حافظت الصورة المُسيئة للرسول محمد على ما تستبطنه من تشوهات عمّقها في لاوعي الأوروبيين كتاب الإيطالي دانتي" الكوميديا الإلهية"الذي قدّم فيه الرسول كرمز للعنف وللكذب ولتشويه الحقائق وللإنحلال الأخلاقي وللإقبال على الملذّات والشهوات الجنسية.
من خلال هذه الصورة السلبية جدا أضحى الإسلام في أعيُن السواد الأعظم من المسيحيين الغربيين نموذجا قبيحا يتناقض كليّا مع ما تُمثّله المسيحيّة، في رأيهم،  من نموذج للحقيقة وللأخلاق الصارمة ولروح السلام، ولعقيدة تنتشر بالإقناع لا بحد السيف.
لقد حافظت هذه الصورة المُشوّهة للإسلام على ملامحها الأساسية إلى غاية القرن الثامن عشر، حين تيقّن  الأوروبيّون الغربيّون من  تفوّقهم على كل المُستويات العلميّة والتقنيّة والصناعيّة ، تيقّنا  تعمّق بعد الثورة الفرنسية (1789) وما ترتّب عنها من فصل الكنيسة عن السياسة وتفريق بين الدين والدولة ومُحاربة رجال الدين الداعمين للثورة المُضادة، وانتشار أفكار عصر الأنوارعلى نطاق واسع.
 وهكذا أضحى الإسلام في نظرهم  دينا رجعيّا ، يشد إلى الوراء ويحنّ إلى الماضي وما يوحي به من جُمود فكريّ ومُعاداة لحتميّة التقدّم والتطوّر الإجتماعي والثقافي للشّعوب، وهي الفكرة التي امتدت إلى بداية القرن العشرين والتي على أساسها بُني جزء هام من السياسة الإستعماريّة التي كانت بدورها أحد إفرازات الثورة الصناعيّة وما وفرته من فائض الإنتاج حتّم ضرورة البحث عن أسواق جديدة تستوعبه،  وتُشكّل في ذات الآن مصادر لمواد أولية تحتاجها مصانع أوروبا الصناعية لضمان ديمومة نشاطها.


في النصف الثاني من القرن العشرين انضافت ملامح جديدة لصورة المُسلمين تشكّلت إثر الصدمتين النفطيّتين، فزادتها قُبحا وسلبية إذ أصبح يُنظرُ للمُسلمين على أنّهم كائنات جاهليّة ، بربريّة، غير مندمجة في حضارة القرن العشرين، لكن تتحكّمُ في نفس الوقت في أهم مصدرين للطاقة الحديثة، النفط والغاز الطبيعي، عصب الحياة الإقتصاديّة ، فانطلقت حملات التشويه والسخرية في مختلف وسائل الإعلام، مُعتبرة أن مآسي وأزمات الغرب المصنع سببها عربُ الصحاري الجالسين على حقول المحروقات. وأضحت السخرية من رسول العرب القاسم المُشترك لوسائل الإعلام السمعية والبصرية والمكتوبة، من أفلام وكتب ومجلات هزلية... ما فجّر ردود فعل عنيفة وأحداث دامية بباكستان وبعدة دول عربيّة، وتفجيرات لمقرّات دور النشر، وعمليّات اختطاف لإعلاميين، وقتل البعض منهم. وفي هذا السياق يندرجُ الهجوم ضد سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بطرابلس وقتل السفير الأمريكي والتمثيل بجثّته، وكذلك مُهاجمة السلفيين من أنصار الشريعة في تونس السفارة الأمريكية ذات 14 سبتمبر 2012، والمُناداة بإقامة نظام الخلافة ...
واليوم تزداد صورة الإسلام والمسلمين سلبيّة في الغرب المسيحي على ضوء ما يُقترفُ، في أماكن عدة من أعمال شنيعة باسم دين بريء من كل الفضاعات المُقترفة باسمه.وفي هذا المعنى كتب الدكتور محمد يوسف إدريس في أطروحته" مُتخيّل أحداث قصص الأنبياء والرسل في الكتاب المقدس والقرآن الكريم" هذه الممارسات الإرهابية الشنيعة التي تسمح لنفسها سلب الحق في الحياة لمن تراهم" أعداء " لها لمُجرّد كونهم لا يُقاسمونهم أفكارهم ولا يتبنون أيديولوجيّتهم، وتضعُ لمسيرتهم في الكون حدّا أو نهاية كما لو كانت تُمسك بحق الحياة والموت عوضا عن الواحد الصمد ... لهي أشنعُ أنواع العنف الذي يُمارسُه الإنسان تُجاه أخيه الإنسان خاصة إذا كان فعلا مُخطّطا لهُ ونتيجة لإصرار وترصّد سابق.لذا لا يُمكن أن تقلّ عُقوبتها عن عُقوبة الإعدام، تلك العُقوبة المُستخرجة من روح النصوص المُقدسة في كل من التوراة والإنجيل ةالقرآن الكريم، والتي تُحرّم كلّها قتل النفس البشريّة بغير حق."

وتبقى بعد كل هذا أسئلة عديدة تقضّ مضجعي وأود لو وجدت لها أجوبة مُقنعة ومنها:
هل بهكذا أعمال نُنمّق صورة الإسلام ونُقنع الآخرين بأن ديننا دين تسامح ووسطيّة واعتدال ومحبة وحريّة؟
هل يذهب في ظن الإرهابيين أن ممارسة العنف المقدّس تُعزّز الدين وتُحصّنه من" الضياع "؟
هل يُمكن أن يكون لهذا العنف المحموم المزروع  في رُبوع  أوطاننا العربيّة دور في بناء الإنسان ومساهمة إيجابية في صناعة الحضارة الإنسانيّة؟
أليس المُقدّس سمو ونقاوة وطهارة نفس وترفّع عن أي مُدنّس وعن كل أشكال الإعتداء على المُحرمات؟
أليس الوظيفة الأساسية للمُقدّس وللدين إقصاء العُنف؟