dimanche 24 février 2013

النّهضة تُحوّلُ وجهة الثّورة



                                                            " أحبّ النّاس إليّ من أهدى إليّ عُيوبي"
                                                                                           حديث نبوي شريف


   فاجأت الثورة التونسيّة الجميع، ومخطئ من يدّعي عكس ذلك. لكن فكرة الثورة كانت كامنة ومُتوثّبة في لا وعي جانب هام من النّخبة المُثقّفة، وفي صفُوف أغلبيّة الشباب الطلاّبي ، منذ نهاية ستّينات القرن المُنصرم تحديدا، يوم كان التيار اليساري يطرحُ نفسهُ بديلا للنّظام القائم. إلاّ أنّ حكومات النّظام البورقيبي المُتعاقبة أحكمت إغلاق كلّ المعابر وسدّت كلّ المسالك بتوخّي سياسة القمع والزجّ بآلاف المُعارضين في السّجون المُنتشرة من رجيم معتوق جنُوبا إلى بُرج الرّومي شمالا، وبالسّعي مُنذ بداية الثمانينات إلى تشجيع بُروز التيّار الإسلامي كأداة لضرب جماعة "آفاق" وجماعة "العامل" التونسي، ونجحت بفضل هذه السياسة في إخماد الأصوات التي كانت تنادي بتغيير النّظام والتي باتت حبيسة صُدور أصحابها، ولم تبرُز إلاّ باحتشام عبر حركة الاشتراكيين الديمُقراطيّين، التي أسّسها أحمد المستيري، بعد مُغادرته  قلعة الحزب الحر الدستوري التونسي، بمعيّة بعض "المُنشقّين" أمثال حسيب بن عمّار وراضية الحدّاد والدّالي الجازي ومحمد مواعدة وإسماعيل بولحية والباجي قائد السبسي، الذين اتّخذوا من جريدة الرّأي الأسبوعيّة منبرا للإصداع بآرائهم.                               
أمّا جماعةُ  "آفاق" التي كان الأستاذ محمد الشرفي  والحُقوقي خميّس الشمّاري من أبرز قادتها ، فقد غلبت السريّة على نشاطها  قبل أن يُنقل إلى رابطة حُقوق الإنسان، التي ناور النظام لتجاوُزها ببعث رابطة مُوالية له تراّسها الدكتور الضاوي حنّابليّة.                                                         

   في الأثناء، ومُنذ بداية الثمانينات لم  يتوقّف تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بعد تبنّي الدولة برنامج إعادة الهيكلة،  وانصياعها لتعليمات صندوق النقد الدولي المُتعلّقة بتطبيق "حقيقة الأسعار" والتخلّي عن الصّندوق الوطني للدعم، على خلفيّة تداعيات الصّدمة النّفطيّة الثانية، مما أدى إلى أحداثجانفي 1984،أومااتّفق 
على تسميتها ب"ثورةالخبز".

وبعد فترة "الإمهال"و"الإنتظار" التي عقبت انقلاب 7 نوفمبر 1987، عادت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية
 إلى التردّي،  في ظلّ نظام بدأ يُكشّرُ عن أنيابه،  باعتماد سياسة الابتزاز واستغلال مقدرات الدولة،  والتعدي على المال والملك العُموميّين،  من قبل أفراد الأسرة الحاكمة ومن كان يدورُ في فلكها، فاستفحل الشّعور بالغُبن والغضب، واستيقظت فكرة الثورة شيئا فشيئا من سُباتها في لا وعي التّونسيّين، لتتّخذ من الفضاءات الرّياضيّة التي يؤمّها الشبان مجالا مُلائما للبُروز وبدأت الاحتجاجات تتضخّمُ إلى أن وصلت إلى أحدث الحوض المنجمي، أين حاصر البوليس النظامي مدينة الرديف لمدة ستة أشهر، يقتل و يعذب و يسجن و ينتهك الحرمات في ظل تعتيم إعلامي مقرف (شاهدوا وثائقي "يلعن بو الفسفاط") . إلى أن كان يوم 17 ديسمبر 2010، لما أضرم الشّاب محمد (طارق) البوعزيزي النار في جسده ، احتجاجا  على سُلُوك أحد أعوان التراتيب البلديّة في مدينة سيدي بو زيد تجاهه، وتعبيرا منهُ عن عجزه لتوفير الرزق لعائلته و ضمان حياة مُحترمة يحلُم بها كلّ آدمي على سطح الأرض. فكان القادح الذي سُرعان ما ألهب الاحتجاجات الشعبيّة في أغلب المُدن التونسيّة لتصل يوم 14 جانفي 2011 إلى مدينة تونس حيث احتشد الشباب والكُهول أمام مقرّ وزارة الداخليّة مُنادين بسُقوط النّظام ورافعين شعارات مضمُونها  اقتصادي واجتماعي لا غير.  


                                                    
في المُقابل ميّز التبعثُر والتردد، والحيرة وعدم الإجماع على موقف واحد، أغلب قوى المُجتمع المدنيّة منها والسياسيّة، دون أن يعني ذلك أنّها لم تكُن ترفعُ سرّا أو علنا، الشعارات التي هتفت بها حناجرُ المُتظاهرين من أمام مقرّ اتحاد الشّغل، وفي  شوارع العاصمة، من غير زعامات أو تـأطير من أيّ كان.  
                                                                                                            
وفيما كانت أغلبُ القوى التقدميّة  -التي التحق بصُفوفها  كلّ القوى التي كانت ترى في الثورة الوسيلة الأنجع لتغيير أوضاع لم يعُد ممكنا استمرارها أكثر- تتحرّكُ في كلّ الاتجاهات، في الأيّام الأولى التي تلت سُقُوط النظام، لتُؤمّن السّير الطبيعي للبلاد، وتُوفّر الأمن وتسهرُ بمعييه المُتطوّعين من مُواطنين على حماية المُمتلكات والمُؤسّسات العُمُوميّة، وتُنظّمُ التزوّد بالمؤونة، بمساعدة من تجنّد طوعا وتلقائيّا ليملأ الفراغ الذي خلّفهُ انسحابُ جانب هام من قوات الأمن من الشوارع، ممّا فسح المجال لقوى الردّة لبثّ الفوضى وترعيب النّاس، وإحراق المُؤسّسات والاعتداء المقصود على مقرّات السّيادة للمسّ من رمزيّتها... حدث ما لم يكُن يتوقّعُه أحد، وهو بداية عمليّة اختطاف الثّورة، وسرقتها وتحويل وجهتها من قبل أطراف يبدو عليها التنظيم والجُهوزيّة للانقضاض 
على الحُكم



أطراف تمزج بين الدين والسّياسة، ولها برامج ورؤى تُزلزلُ تنظيم المُجتمع، وتهدد نمط عيشه، وتُنادي بإعادة
 تركيز نظام "الخلافة"، بكلّ ما تعنيه هذه المؤسّسة القديمة من توريث للحُكم وما يترتّبُ عنهُ من عسف وطُغيان وأمراض اجتماعية وسياسيّة لازمت كلّ الأنظمة الوراثيّة المُستبدة عبر تاريخ الإنسانيّة و تاريخ الأمّة العربيّة-الإسلاميّة بشكل خاص، ورفعت شعارات تنادي بتطبيق الشريعة. وبدأت تتّضح ملامحُ مُخطّط يعتمد العُنف مسلكا والكليانيّة تصوّرا، والازدواجية خطابا بين طرح مدنيّ لا يرفضُ ظاهريّا نمط عيش المُجتمع، ويُبدي عزما على تطوير مجلّة الأحوال الشخصيّة نحو الأفضل(؟)، واغتراف من فكر إسلامويّ، إخوانيّ مُتشدد، برنامج لا يفصلُ بين الدّين والسياسة، ويرى أنّ الدين يعتمد النّقل أكثر من العقل، ومُعرضا عن البحث في المقاصد الحقيقيّة للدين ناكرا مُستجدّات العالم الذي نعيش، فارضا مواقفهُ عبر ميليشيات عنيفة مدّت مجاسها في مناطق عديدة من البلاد، تُرهّبُ السكّان، وتحرّكُ  خلاياها التي أيقظتها الثورة، ووفّرت لها فُرصة لم تكُن تأملُها للانقضاض على البلاد بمُساعدة مال سياسي كثير، وتدعيم من قواعدها المُنضبطة انضباطا يذكّرُ بانضباط تلك الميليشيا شبه عسكريّة التي خيّمت على أوروبا، وعاثت فيها فسادا في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي.                                                                                                          
   وأفرزت انتخابات المجلس الوطني التّأسيسي في  23 أكتوبر2012 ، انتصار حزب حركة النّهضة، وفوزه بنحو ثلث مقاعد المجلس، قبل أن يؤسّس تحالُفا ثلاثي الأضلاع على أساس "المُحاصصة وتقاسم الغنيمة"، يُمسك بمقاليد البلاد، ويشرعُ في السيطرة على القضاء وتعطيل إصلاح هياكله، ويتحرّشُ بالإعلام وينعته ب"إعلام العار"، ويجنّدُ أنصاره لمُحاصرة مبنى التلفزة الوطنيّة مُدة تُقارب الشهرين، لإركاع الإعلام السمعي البصري  وإدخاله "بيت الطّاع"، وجعله في خدمة النظام، ويبثّ مناصريه في هياكل الإدارة يُمسكون بمخانقها،  دون اعتبار لمقاييس الكفاءة والجدارة. فكانت النتيجة أن تعمّقت أزمة البلاد، وانتشرت الفوضى بكلّ أوجُهها، وانحسر الأمنُ، وتقلّص النشاط التجاري المُنظّم وأربكت الاضطرابات جهاز الإنتاج الصناعي، وتضرّرت السياحة، والتهبت الأسعار، وندُرت المواد الغذائيّة الأساسيّة، وتضخّمت عمليّات التّهريب عبر الحُدود الغربيّة والشرقيّة، وتعطّلت شبكات التّزويد بالمياه الصالحة للشراب في عزّ فصل الصّيف وفي شهر رمضان المُبارك، وقُطعت الكهرباء في عديد المُناسبات ... وفي الأثناء كان نوّاب حزب حركة النّهضة في المجلس الوطني التّأسيسي يُصادقون على القوانين التي تقضي بالزيادة في أجورهم وبتمتيعهم بمنح خياليّة وبمفعول رجعيّ، ويُحاولون إدراج تطبيق  الشّريعة في الدستور، ويُماطلون في كتابته بإثارة قضايا لم ينتخبهم الشعب لمُناقشتها 
مُدعين أنّ " المجلس سيّد نفسه"...                                                               



  وفيما كانت البلاد مفتوحة على مصراعيها على أيديولوجيّة رجعيّة مُنقطعة عن الواقع، لا تتردد في استقدام دُعاة مُغالين ليتنقّلوا عبر مُختلف أقاليم البلاد، ومن على منابر المساجد، ومن  معاقل الفكر النير والعُلوم العقليّة الصّحيحة، يُلقون خطابا يُقسّمُ التّونسيّين إلى مُسلمين وإلى كُفّار، ويُروّجون لفقه النّكاح وفقه العورة، ويدعون الفتيات في سنّ ما قبل الدراسة إلى الانخراط في برنامج "تحجيب البنات"، زارعين فيهم البُغض والكراهيّة والدعاء على من يُخالفهم الرأي بالموت غيضا، ويُروّجون عادة بالية استقدموها من العصر الجاهلي، أدانتها أغلب الشرائع الوضعيّة، ونددت بها منظمات الدفاع عن حُقوق الإنسان، ولم تكن في يوم ما من مُمارسات التّونسيّين، وهي عادة ختان البنات لكبح جماحهنّ الجنسي، وينشُرون فتاوى غبيّة كفتوى إرضاع الكبير ونكاح الزّوج زوجتهُ المُتوفاة نكاح وداع ...  تحوّلت الجوامعُ التي سيطر عليها المُتشددون من دعاة العُنف في ظلّ عجز وزارة الشّؤون الدينيّة عن مُراقبتها ، إلى منصّات تبُثّ سُمُوم التكفير والدعوة إلى الإقصاء والقتل، إلى أن تجاوزنا المحظور وقُتل في مدينة تطاوين المُناضل لطفي نقض، وحصُلت الفاجعة الكبرى يوم 6 أفريل 2013، يوم قُتل الزعيم السياسي شُكري بلعيد، فخلّف ذلك في أعماق التونسيّين  طوفانا  من الحُزن واللوعة والألم والخوف،  عبّروا عنه بعد يومين بالمُشاركة تلقائيّا وبأعداد غفيرة، لم يسبق أن شاهدناها في تاريخ تونس مُنذ الاستقلال، في موكب دفن قتيل الكلمة الحُرّة وشهيد الرّأي المُخالف ولسانُ دفاع العامل الذي سحقته الأسعار المُتعالية وتفتّتُ قدرته الشرائيّة فبات مقهورا لا حول ولا قوّة له، وقد عاف النقاشات المُطوّلة والمُجادلات 
القانونيّة، وتقيّأ السياسة والسياسيّين، والشرعيّة والشرعيّين....


  
    وهكذا، أظهرت  سنة ونيّف من حُكم حزب حركة النّهضة وحُلفائه من الحُزيبات، انعدام الكفاءة والخبرة السياسيّة لدى المُمسكين بزمام الأمور وبمقاليد النّظام، وعدم انسياق أغلب الشعب وراء مقُولات تطبيق الشريعة، و مُحاولات تعريف الهوية التونسيّة وإقصاء المُنافسين السياسيّين بدعوى إنتمائهم إلى النظام المُنهار، ولم تنطلق البرامجُ التنمويّة ، فتضخّمت الفجوة الفاصلة بين الفئات الحاكمة وهموم الشعب الذي لم يرفع البتّة إبّان ثورته شعارات تتعلّقُ بالهُويّة والشّريعة وختان البنات وفرض الحجاب وارتداء النقاب وتعدد الزوجات وقطع أطراف السّارق... بل كلّ ما نادى به  هو الحريّة والشّغل والكرامة الوطنيّة ومُحاسبة اللّصوص وإقامةُ عدالة انتقالية تُحاسب كلّ آثم في حقّ الشّعب وكلّ معتد على أمواله، بعيدا عن عقليّة الغنيمة والتدافُع، والتمكّن واستغلال الفُرص، والإلحاح في المُطالبة بالتعويضات الماليّة للمُتضرّرين من النّهضويّين، سواء منهم أولئك الذين كانوا ينعمون بهجرة ذهبيّة ، ويرتعون بين مطارات لندن وباريس وقطر، وأغلبهم من حاملي الجنسيّات المُزدوجة، يغرفون من المال السياسي "الحلال" ومن صُندوق الزكاة ما لذ وطاب لهم، يُؤسّسون الشركات بأسمائهم وأسماء زوجاتهم وأبنائهم، ويُلحقون منظوريهم بأرقى الجامعات الأوروبيّة، مُنقطعين عن واقع البلاد إلى حد أنّ أحدهم أصبح جاهلا جغرافيّتها ولم يعد قادرا على معرفة طول سواحلها، أو أولئك الذين أُلزموا بالمُكوث في منازلهم والخُضوع للمراقبة الإداريّة بعد أن سُرّحُوا من سُجون ابن علي، ولم يُعثر لهم على أثر بين جُموع المُحتجّين يوم 14 جانفي، ممّا يُؤكّد القول بأنّ حزب حركة النّهضة سرق الثّورة وقام بعمليّة تحويل وجهتها. فهل من سبيل إلى إعادة الثّورة إلى مسارها الصّحيح؟                                                                                                          
العوينة، فيفري 2013.             

samedi 16 février 2013

تداعيات اغتيال شكري بلعيد





     فتحت مراسمُ جنازة شهيد النضال في سبيل الحريّة والإنعتاق من الاستبداد والخنوع، يوم 8 فيفري 2013، يوم جرت العادة أن نُحيي فيه ذكرى الساقية التي ترمُزُ إلى وحدة المصير بعد وحدة النضال المُشترك بين الشعبين الجزائري والتّونسي ضد المُستعمر، فتحت أعيُن التونسيين على حقيقتين كلّ منهما صادمة في ذاتها، الأولى إيجابيّة البُعد والثّانية سلبيّةُ الأبعاد.

   أمّا الحقيقة الأولى فتتمثّلُ في ذلك الإجماع الرّهيب والمُهيب لمئات الآلاف من التونسييّن، يُوحّدُهُم إحساس بأنّ اغتيال شكري بلعيد إنّما هو اغتيال للكلمة الصّادقة في الدفاع عن القضايا النّبيلة، قضايا العدل والمُساواة والكرامة، ومد اليد للمُستضعفين من أبناء أمّتنا، وهو لعمري سعي إنسانيّ بكلّ المقاييس القيميّة للإنسانيّة، فهبّوا تلقائيّا ليُعبّروا عن لوعتهم وعن عُمق وجعهم،  وعن تمسّكهم الشديد بتلك القضايا، و عزمهم وإصرارهم على  مُواصلة الدفاع عنها، تحقيقا للشعارات التي رُفعت أيّام ثورة 14 جانفي 2011: شُغل، حُريّة، كرامة وطنيّة، دون تردد ودون وجل، لم تثنيهم لا مُحاولات بثّ الرّعب والفزع في صُفُوفهم من قبل مجموعات شاذة، ولا رداءة الظّروف المناخيّة يومئذ، عن إتمام مراسم دفن شهيد توقّف الزّمن تحيّة وإجلالا لنضاله.

   لقد شكّلت تلك الحقيقة رسالة رائعة عكست مدى تماسُك وتضامُن ووحدة جانب هام من هذا الشعب النبيل، الذي يعرف كيف يُكرم الشّرفاء من موتاهُ، وكيف يتمسّكُ بمبادئ ناضل من أجل تحقيقها الكثيرون إلى حد الاستشهاد، الذي أعطى لحياتهم معنى، ورفع من منزلتهم عند ذويهم بعد مُواراتهم التراب.

   أمّا الحقيقة الثّانية والصّادمة فهي مُحاولات التقسيم التي نُظّمت غداة دفن الشهيد، والتي رُفعت خلالها شعارات، تُدافع في ظاهرها عن الشرعيّة لكن تهدفُ في الحقيقة إلى تقسيم المُجتمع التّونسي إلى تونسيّين مؤمنين وتونسيّين مُلحدين أو كفرة،  ونشر قيم التمييز والإقصاء ضد فصيل من فصائل الأمّة الواحدة، والانسياق والانصياع وراء تيّار سياسيّ – دينيّ مُعيّن، ما انفكّ باروناته يُديّنون السياسة ويُسيّسون الدّين، مُنذ نشأتهم سياسيّا، ويُضفون على رئيسهم قُدسيّة وعصمة تُحتّمُ طاعة مُريديه،  وتُذكّرُ بما كان يحظى به بعض الزعماء الكليانيّين في ثلاثينات و أربعينات القرن الماضي،  من طاعة شعوبهم لهم طاعة عمياء.
     إنّ السّؤال الذي يتبادر إلى ذهن المرء في مثل هذه الظّروف المُتشعّبة والمُركّبة والمُربكة والتي تمرُ بها البلاد هذه الأيّام، هو التّالي:

من الأجدرُ بالطّاعة والانصياع وراءهُ؟

هل هو زعيمُ حركة سياسيّة – دينيّة ماضويّة المرجعيّة، يدعو إلى التقسيم والتّكفير، وإصلاح ما يبدو له اعوجاجا وخُروجا عن سياق التديُن الذي يرتئيه على النمط الوهابي المُتشدد،  والمُتشبّع بمبادئ ابن حنبل ونظريّات ابن قيم الجوزيّة وابن تيميّة، والذي واصل الدعوة إليه مُؤسّس الإخوان حسن البنّا، وذلك بحُجّة القوّة لا بقوّة الحُجّة، ولا يتوانى عن مُساندة فئات ضالّة يراهُم ضمير الثورة، ويُذكّرونه بشبابه. فئات لا تعي أهميّة الرّاهن، ولا تُدركُ خُطُورة المرحلة  التي تعيشُ، ولا تُقدّر أهميّة الفرصة التّاريخيّة التي منحها إيّاها القدر بدفع من إصرار تراكم عبر الأجيال، مُقاوما بلا هوادة الظّلم والإقصاء والتّهميش والتمييز واحتكار الحياة السياسيّة، لا بل بكلّ بساطة مُقاوما احتكار الحياة واحتكار كلّ ما ينبض فيها ... فئات لم تنخرط في تيّار التغيير الجارف نحو التنوير والانفتاح على راهن عالم اليوم، دون التفريط في الخُصوصيّات الثقافيّة والحضاريّة لشعبنا، خُصوصيّات نُحتت عبر آلاف السنين لتجعل من هذا الشعب أمّة بكلّ ما في تعريف عالم الإجتماع إرنست رونان لمفهوم الأمّة من مُتطلّبات، أُمّة لها ذاتيّة تُميّزها عن سائر الأمم ومُندمجة في ذات الآن في " الأمّة الكبرى "، الأمّة العربيّة إسلاميّة والتي لا نرى سبيلا إلى قطع الحبل السرّي الذي يربطُنا بها. أُمّة، قال أحدهم،  لها قيمها الكبرى ورُموزها وأعلامُها ومواقعُها وأزمنتُها، وعاشت أحداثا مصيريّة على مرّ التاريخ حسمت مصيرها، أي أمّة لها كلّ ما يستلهمُ منهُ وجدانُها الجماعي ليُؤسّس توازُنه، ويستصفي سُلّم قيمه وأمزجة خواطره، وليُوفّر أسباب التماسُك التي يقتضيها فنّ العيش المُشترك.



   هل هذا هُو الزعيم الجدير بالطاعة والانصياع؟ أم هي جملة رُموز تجمعُ المُتساكنين وتُوحّدُهم وتُسمّى المُشترك ، الذي تبقى أهمّ ركائزه في نظرنا:

* حوزةُ الوطن والاستعداد للذود عنها كلّما داهمها خطر من أيّ نوع كان، ليُربكها ويُزلزل أركان استقرارها بنشر أفكار غريبة لا تنصهر في  الإرث الثقافي المُشترك، ونشر قيم التفرقة والتطاحُن والتباغُض بين أفراد الأمّة .

* الرّاية الوطنيّة، العلمُ المُفدى الذي كم قضى من مُجاهد في سبيل أن يُرفرف عاليا في سماء المجد والكرامة. رايةُ البلاد ورمزُها المُقدسُ الأوحدُ والذي رُفعت إلى جانبه رايات من مُختلف الألوان، وبلغ الغباء والحمق الذي لا دواء لهُ أن عوّض بعضهُم النّجمة والهلال والسّطح الأحمر المُخضّب بدماء الشهداء، براية سوداء في لون أوهامهم، في مُناسبات عدة كانت أوّلُها بمعقل الفكر النيّر، بالمُركّب الجامعي بمنّوبة، و التي كشفت عن المعدن الأصيل الصّافي للفتاة التونسيّة الأصيلة المُتمسّكة براية البلاد ، لا ترضى لها بديلا.




* النّشيد الوطني الذي تسلّل بيتان منهُ أبدعتهما عبقريّة شاعر الخضراء أبو القاسم الشابّي، إلى حناجر شباب الأمّة العربيّة الثائر، يتلذذون ترديدها لزحزحة أنظمة استبداديّة طاغية وباغية، فقدت شرعيّتها التي اكتسبتها بالغصب وهرّأتها  بتجديد البيعات لها مرّات ومرّات بكلّ ما يُعرف و ما لم يُعرف بعدُ من أساليب التزييف والضحك على الذقون.

* التنمية الاقتصادية والاجتماعية العادلة، بإقامة اقتصاد مُترابط ومُتكامل الأنشطة، لهُ طاقةُ استيعاب أغلب طالبي الشغل، وتذليل الفوارق الجهويّة والتفاوُت بين الفئات ، انطلاقا من توافُق حول رسم الخُطوط العريضة لعمليّة تنمية عاجلة، وأخرى آجلة، يكُونُ للجهات النّصيب الأوفرُ في رسمها وفي السّهر على تنفيذها وفق احتياجات كلّ جهة، وبتجنيد كلّ القادرين على المُساهمة في التنفيذ، وبمُشاركة التلاميذ والطلاّب خلال العُطل المدرسيّة، لتتحوّل كلّ جهات البلاد بذلك إلى خلايا نحل لا تهدأ الحركة فيها.  

* مُراجعةُ المنظومة التربويّة، بفتح الآفاق أكثر أمام تدريس العلوم والتقنيّات الحديثة والتطبيقيّة، وجعل المُتلقّين أطرافا فاعلة ومُتفاعلة ومُشاركة في العمليّة برُمّتها لا مُستهلكة استهلاكا سلبيّا، ويقتصر تكوينُها على تلقينها حجما معرفيّا يُهيّئها إلى اجتياز الامتحانات لا غير .

* نشرُ ثقافة المُواطنة وثقافة الالتزام بقضايا الوطن الكُبرى والمصيريّة، ثقافة البناء والتعمير والإنتاج الفنّي والإبداع، ثقافة أساسُها الفكر النّاقد نقدا بنّاءا، لا ثقافة المهرجانات الصيفيّة التي تكاد تكون مهرجانات للأغاني وللرقص المجاني غير الهادف، أي مهرجانات لا تستفزّ الفكر ولا تُحفّز الإبداع، ولا تُشرّك المُتلقي في الفعل الثقافي، ولا تبعثُ فيه الوعي بمشاغله.

هذه في نظري بعض ركائز المُشترك العُمومي الذي يتطلّبُ منّا الأمرُ التمسّك به والانصياع إلى ندائه بروح إيجابيّة مُبدعة خلاّقة، روح وطنيّة فيّاضة.

وفوق كلّ هذا تبقى الركيزة الأساسيّة لهذا المُشترك، والمفهُوم الأسمى الذي يُوحّد كلّ التونسيّين، مفهوم الوطنيّة. أليس حبُ الوطن من الإيمان؟

هذا هو الشعار الأساسي الذي يجبُ أن يُشكّل أهمّ دافع لكلّ ما نقومُ به لنسمُو بوطننا إلى أرفع الدرجات.
وما لم يتغلغل هذا المفهوم في وعينا، فإنّنا لن نقدر على رفع التحديات، وعلى تجاوُز ما يُفرّقُنا.
إنّ حبّ الوطن وحده الضامن لجمع شملنا وتحصين مناعتنا ضد التفرقة.
فلنجعل من "حبّ الوطن" ديدننا، لنجعله معركتنا المُقبلة، نخوضُها بكلّ عزيمة وبكل تفاني.
إذا نجحنا في هذه المعركة فإنّ مُستقبلنا سيكون لا محالة أفضلُ من ماضينا القريب ومن حاضرنا البائس.
إنّها معركة حياة أو موت، معركة أن نكون أو أن لا نكون.

                                                      
العوينة، فيفري 2013.


                      

dimanche 10 février 2013

اغتيال شكري بلعيد




نزل خبر اغتيال المُحامي والمُناضل شكري بلعيد على تونس صبيحة السادس من شهر فيفري 2013 كالصّاعقة ... أدخل النّاس في حالة ذهول لفترة ليست بالقصيرة، قبل أن تتحرّر الألسُن وتنطلق الأسئلة من أفواه المُتحجّبات وغير المتحجّبات، ومن أفواه الرجال مُلتحين وغير مُلتحين ... تحلّقوا جماعات جماعات في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة يتبادلون ما تسرّب إلى أسماعهم من أخبار ... يُحاولون التأكّد من صحّتها ... كان أكثرُ الأسئلة تداوُلا:
 إلى أين نسير؟
هل هي الحربُ الأهليّة انطلقت ولا مراد لها؟
من يكونُ وراء هذه الجريمة النّكراء ؟ ومن المُستفيد سياسيّا منها؟
غيوم مُتلبّدة غطّت سماء المدينة ... طقس بارد ... وحشة تُخيّمُ على العاصمة لم أفهم سرّها ... لم أكد أسمعُ الخبر الحزين حتّى أدركتُ كُنهها ...
خبر موجع مُؤلم ... لم يُصب عائلة بلعيد ، زوجتُه وبنتيه ووالديه وإخوته وأصدقاءه ورفاق دربه فحسب ، بل أصابني في مقتل، أنا الذي لم يسبق أن قابلتُ الرجل أو تحدثت معه أو حضرتُ إحدى الاجتماعات التي كان يُؤثّثها بحُضوره الوضّاء ويملؤها بصوته الجهوريّ الذي اعتاد التونسيون سماعه عبر شاشات التلفزيون التي كانت تتسابق لاستضافته، يُدافع بحضوره في بلاتوهاتها  عن آرائه ومبادئه التي لم تكن سوى صدى لصوت" الزوّالي" ... خبر أصاب كلّ العائلة السياسيّة في البلاد... كلّ المُناضلين وكلّ المُلتزمين بالدفاع عن قضايا الحق والعدالة والمُساواة، والتصدّي للعُنف وللفساد  أيّا كان مأتاهُ وبكلّ أشكاله الماديّة واللاّماديّة ... خبر امتد إلى كافة فئات الشعب... إلى كلّ ألوان الطيف السياسي...

    إلا أنّ حُزني اقترن بالخوف من رد الفعل لأنّ القاعدة المنطقيّة تُقر بأنّ لكلّ فعل ردّة فعل ...
من يُقنعُني أنّ هذا الفعل على ما هُو عليه من قذارة لن يكون له ردّة فعل من نفس الجنس؟
عمليّة الاغتيال البشعة هذه قد فتحت في رأيي باب جهنّم على تونس، باب لن يُغلق إلاّ بعد أن تسيل أنهار من الدماء، وتُصفّى شخصيّات سياسيّة عديدة وتُسقط ضحايا قد لا يكون للكثير منها ناقة ولا جمل في باب السياسة والسياسيين ...
خوفي على بلدي،  بلد الاعتدال والتسامُح والتحاب أن يتحوّل إلى بُؤرة من بُؤر العُنف في العالم، وإلى منطقة جذب لتطاحُن قوى لا قُدرة لنا على التحكّم فيها، وقد لا يكون مثال الصومال والجزائر ومالي غريبا عنّا ...
خوفي على ثورة الياسمين أن تتحوّل إلى ثورة شوك مُؤلم ومسمُوم...
عندما يعجز المرء عن ردع طفل صغير ضال وينقصه الوعي بعواقب الأمور، فيقومُ بإشعال عود كبريت بغير سبب وجيه، فإنّه يُواصلُ صنيعُه اللاّمسؤول ليُشعل عُلبة الكبريت ... وعندما يتمادى ذات المرء في لا مُبالاته فإنّ ذلك الصغير يُشعلُ البيت كلّه ويُحوّلُه إلى رماد...
هذا ما أخشى أن تُصبح عليه تونس في قادم الأيّام والسّنين...
لقد بدأت السلسلة بالاعتداءات اللفظية وبالعُنف الخفيف ضد المُفكرين والمسرحيين والمُبدعين  والصحافيين وأصحاب الرأي الحر من الذين لا يُغرّدون مع سرب من يعتقد أنّه وصيّ على هذا الشعب في مُعتقداته و في نوعيّة لباسه وفي  نمط عيشه،  لتتواصل بقتل المرحوم لُطفي نقض وسحله بمدينة تطاوين، ثم باغتيال شهيد الكلمة الحُرة شُكري بلعيد ... إنّ الحرب الأهليّة قد بدأت... والكلّ يعرف من فتح لها الأبواب ...التاريخ لن يرحم من تسبّب فيها طال الزمان أو قصر... إنّ غدا لناظره قريبُ...