jeudi 13 septembre 2012

في الرد على الدعوة إلى التعددية الزّوجيّة




كان موضوع تعدد الزوجات أحد أهمّ المشاغل الدينية والاجتماعية التي انشغل بها مفكّرو عصر النّهضة العربية الحديثة ، وخلنا أنّه قد حُسم في البلاد التونسية على الأقل، منذ الثورة المجتمعية التي أُنجزت بعد الاستقلال والتي استهلها النظام الجمهوري بإصدار مجلّة الأحوال الشخصيّة في صائفة 1957، والتي تلاها إصدار القوانين المانعة لتعدد الزوجات.
   إلاّ أن بعض الأصوات المنبعثة من هنا وهناك منذ ثورة 14 جانفي 2011، والمحسوبة على التيّار السّلفي ظنّت أنّ الثورة قد أتت على كلّ القوانين التي نُظّم على أساسها المجتمع،  والتي تراها مُنافية للشريعة الإسلاميّة،  لتُعيد طرح بعض القضايا من قبيل إعادة نظام الخلافة الإسلاميّة وجعل الشّريعة أساس الحُكم وإعادة العمل بالتعدديّة الزّوجيّة الذي نادى به  رئيس الجمعيّة الوسطيّة للتوعية والإصلاح، وهي جمعيّة تأسّست بعد الثورة وحملت في البدء اسم " جمعيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ".
   ادعى الرئيس المذكور بأن "التعددية مطلب شعبيّ"، مؤكّدا على أن" النّساء والرجال في تونس يميلون إلى العودة إلى تعدد الزوجات"!!! مُستشهدا ب"حقائق علميّة تُثبت الجانب الصحّي لتعدد الزّوجات خاصّة بالنسبة للمرأة"  On aura tout vu! ، ساعيا مع من التفّ حوله من قدامى البلطجيّة وبائعي المسكرات خلسة والمُتعاقدين ضمنيّا مع البعض من رجال الشرطة الذين فقدوا أخلاقهم وباعوا ضمائرهم وحسّهم الوطني للشيطان، ومُروجي الممنوعات سابقا أمام المعاهد وفي المقاهي الشعبيّة وفي الأحياء المُترفة في ضواحي العاصمة من جهتي الشمال والجنوب، إلى تسويق نمط عيش يعود بنا إلى قرون الانحطاط .
  
للتذكير فإن العالم العربي كان  يعيش منذ القرن 15 وإلى غاية حملة نابليون على مصر عصر انحطاط بكل المقاييس شمل مُختلف الأنشطة الاقتصادية منها والفكرية  نتناولها من النواحي السياسية، الإقتصادية و الإجتماعية ثم الثقافية في دراسة هنا

من بين أهمّ القضايا المطروحة وقتئذ، قضيّة نظام الحكم ونمط الإنتاج الاقتصادي وتحديدا قضيّة المرأة العربيّة ووضعها في المجتمع.

   فكيف كان وضعها آنذاك؟

   كانت المرأة في الحقيقة تُشكّل الحلقة الأضعف في البنية الهرميّة للمُجتمعات العربيّة، وكانت محرُومة من نُور المعرفة والعلم للاعتقاد السّائد وقتئذ بأن العلم والعفّة خطّان مُتوازيان لا يلتقيان أبدا وهو لعمري اعتقاد يعكس التكلّس العقلي الذي ميّز ذهنيّة الأغلبيّة الغالبة من العرب، فكانت النتيجة إقصاء المرأة من المُؤسّسات التعليميّة وبالتالي  إقصاؤها من العمل وسلبها حقّ المساهمة في العمليّة الإنتاجيّة وأسدلت دونها ستائر تحجبُها عن أعيُن الفضوليين.

   فكيف لهكذا امرأة مسلوبة الحقوق ، غير مُتعلّمة، مسجونة بين جدران بيت أبيها ثم بيت زوجها،  أن تكون زوجة واعية، حسنة التدبير والتفكير والتصرّف في موارد العائلة، وتُربّي أبناءها تربية سليمة؟

   كما طُرحت كذلك قضيّة حُريّة المرأة في إختيار من يُشاركُها حياتها، وهي التي عاشت تحت وصاية الأب أو الأخ أو العم أو الخال ... ذلك لأنّ الأعراف التي تُنظّم حياة المُجتمعات العربيّة ترى أنّها عاجزة عن الاختيار و ليس لها غير الإذعان لأولي أمرها والاقتصار على السمع وطاعة من هم أدرى بمصلحتها منها.

   لقد تناول قضيّة المرأة زمن النهضة العربيّة الحديثة اتجاهان فكريّان:

اتجاه سلفيّ :

هو اتجاه ماضوي مُنغلق على نفسه، سجين سلوك مرّت عليه قرون عدة، يراه مُمثّلوه صالحا لكلّ زمان ومكان، إلاّ أنّي أراه يدير رأسه إلى الوراء غير مُدرك لما يستجد حوله من مُتغيّرات ، أي أنّه يُؤشّر على عجزه عن استنباط الحلول العصريّة لما يُطرح من قضايا، مُستمدا أحكامه من الفكر الوهابي (القرن 18)، وهو فكر ولئن أُعتُبر في زمانه حدثيّا إصلاحيّا لثورته على ثقافة عصور الانحطاط، إلاّ أنّه غالى في السلفيّة ونادى بالعودة إلى" العصر الذهبي" ، عصر الرسول صلوات اللّه عليه وسلامه والخلفاء الرّاشدين من بعده، بمعنى أنّه تحوّل إلى فكر عاجز عن هضم واستيعاب مُقتضيات الحداثة والتأقلم مع ما طرحته من قيم مدنيّة جديدة.

   يرى دُعاة هذا الاتجاه أنّ العمل والأدوار الاجتماعية مُقسّمة بين بني البشر على أساس الجنس، أي أنّ ألذكر، أي الأب يتولّى دور الإنتاج والإنفاق على العيال بتأمين الرزق ، أي أنّه يحتلّ مركز السلطة ضمن البنية الهرميّة والطّبقيّة للمُجتمع وللأسرة، بينما تتولّى المرأة مُهمّة الإشراف على عالمها الخاص، وهو البيت الذي تسهر فيه على شُؤون العائلة من تنظيف وطبخ إضافة إلى الإنجاب (لامحدود)، وتربية للأطفال والحرص على راحة بعلها والسهر على رفاهته حتّى لا يضطر إلى البحث عن غيرها  خارج البيت.

يقول صبحي الصالح :

   "إن وضعيّة المرأة الأساسيّة هي الأمومة وتدبير المنزل وبناء البيت السّعيد".

   بالإضافة إلى ذلك فإنّ المرأة جُزء ممّا يملكُ الرجلُ حسب تعريف الفقهاء للزواج الذي هو في مفهومهم:

    "عقد يملك به الرّجلُ بضع المرأة"!!!

   لذا فالمرأة كثيرا ما كانت عُرضة لأبشع مظاهر القهر واحتقار زوجها لها وذلك إما بتطليقها دون سبب مُقنع أحيانا، أو بالتزوّج عليها امرأة ثانية وثالثة ورابعة حتّى،  بدعوى" حقّه الشّرعي"، وهي قراءة خرقاء وعرجاء للنصّ القرآني الذي لا يُنظر إليه بالتمعن والتدبّر المطلوبين، وسنُبيّن ذلك لاحقا.

   في هذا الإطار تتنزّل الدعوة الغريبة التي دعا إليها رئيس الجمعية الوسطية للتوعية والإصلاح، وهي جمعيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر سابقا، وذلك عبر موجات الأثير ومن خلال الجرائد اليوميّة، والتي ادعى في إحداها بأنّ:

   "تعدد الزوجات مطلب شعبيّ"، لا أدري عن أيّ شعب يتحدث ، وهل أنّه نظّم استفتاء شعبيّا حول هذه المسألة؟
وهل أنّ كلّ من هبّ ودبّ أصبح ينسب لنفسه صفة "المُتكلّم باسم الشّعب"؟ أي أنّه يقوم بمهمّة دون أن يُكلّف بها،  وهي في نهاية المطاف أكبرُ من حجمه الضّئيل؟

   ويرى رئيس الجمعيّة إيّاه أنّ:
  

"المشاكل الفعليّة التي يعيشها التونسي تدعو إلى ضرورة فتح باب الحوار والنّقاش حول هذا الطّرح المُتجسّد في تعدد الزوجات... وهو(حسب رأيه) طرح مدروس وحكيم ومسؤول ومُنضبط"، مُعتبرا أنّ موضوع تعدد الزوجات هو موضوع السّاعة!!!  

السيد عادل العليمي 
هذا الرأي يجُرّني إلى  طرح التّساؤلات التالية:

هل  يعيش هذا المُدعي على نفس الكوكب الذي يعيش عليه أغلب التّونسيّين؟
هل أنّه يعيش فعلا بين ظهرانينا؟
وهل أنّ المشاكل الحياتيّة التي تقُضّ مضجعه هي نفس المشاكل التي تشغلُ أغلب التّونسيّين منذ ثورة 14؟

   إن أكثر ما يُشغل التونُسيّين اليوم حسب رأيي المُتواضع هي القضايا التّالية :

  • تحقيق العدالة لكلّ أفراد المجتمع دون إستثناء.
  •  مُحاسبة الفاسدين والنّاهبين لأموال الشعب الذين أوصلوا البلاد إلى ما هي عليه اليوم قبل أن يُغادروها فارّين من التسونامي الجماهيري كما تُغادر الجرذان الخائبة السفينة التي أوشكت على الغرق، ووضع منظومة تشريعيّة رقابيّة جديدة تمنع مُستقبلا ما وقعنا في منذ عمليات  المملوكين محمود بن عيّاد ومُصطفى خزندار وُصولا إلى أسر بن علي والطرابلسيّة.
  •  مُعالجة قضايا الفقر والحرمان من أبسط حقوق الإنسان التي تُعاني منها فئات عريضة من مُتساكني وطن استقلّ منذ ما يزيد عن نصف قرن،وتمكينها من النّور الكهربائي والماء الصالح للشراب ، وتقريب المُؤسسات التعليميّة والخدماتيّة من أماكن استقرارهم.
  •  تحسين منظومة التغطية الصحيّة وتوفير وسائل المُعالجة وتركيز المؤسسات الإستشفائيّة المُجهّزة بمختلف الآلات الطبيّة العصريّة، وتوفير الدواء لمُستحقّيه.
  •  العمل أكثر على جلب الاستثمارات الأجنبيّة والوطنيّة للمساهمة في خلق الثروة الوطنيّة التي تعود بالنفع على كافّة المشاركين في خلقها من أصحاب رؤوس الأموال و الكادحين من العمّال.
  •  خلق أكثر ما يُمكن من مراكز العمل للعاطلين والمُعطّلين حفظا لكرامتهم ولتمكينهم من وسائل العيش الشريف.
  •  تجهيز البلاد ببنية تحتيّة عصريّة تستجيب لمُتطلّبات التنمية في الأقاليم وتربطُها ببعضها بمد الطرُقات السريعة والخطوط الحديدية وشبكات الاتصال الحديث، فنضمنُ بذلك خلق مئات آلاف مراكز العمل على غرار ما أُنجز في الولايات المتحدة الأمريكيّ وفي ألمانيا وإيطاليا في ثلاثينات القرن الماضي لمّا كانت هذه الأقطار تعيش أزمة اقتصادية حادة. وفي ذات الآن تتمكّن الدولة من السّيطرة على مجال البلاد، واستكشاف بواطن الأرض لاستخراج ما تكتنزُه من ثروات باطنيّة، وتجتهد في حُسن استغلال ما يتوفّر لدينا من طاقة جديدة ومُتجددة ونظيفة وهي الطاقة الشمسية، بوضع مُخطط شمسي طموح Un véritable plan solaire Tunisien، على غرار ما تقُوم به الجزائر بالتعاوُن تقنيّا مع ألمانيا.
  •  السعي بجديّة إلى استرجاع الأموال الوطنيّة التي هرّبها بارونات النظام البائد.
  •  استصلاح مئات الآلاف من الهكتارات من الأراضي البور وتوزيعُها على المحتاجين من المُزارعين عبر صيغ تسويغ مُريحة، وتثمين العمل الفلاحي وإعادة الاعتبار له، فنُشغّل بذلك مئات الآلاف من المُعطّلين ونحقق اكتفاءنا الغذائي ونضع حدا لتبعيّة غذائيّة نتج عنها عجز ميزاننا التجاري الفلاحي الذي يستنزف كل سنة أكثر مُقدرات البلاد من العملة الصّعبة.

  •  إعادة هيكلة المنظومة التربويّة وتجويد التعليم لخلق جيل يُفكّر ويُبدع ويبتكر ويخترع لا جيل مُستهلك وباحث عن أقصر طريق لتحقيق الرّبح السريع، علما وأنّه أثمن ما نملك في هذه البلاد.

 هذه بعض مشاغل المُواطن التونسي اليوم وهذه بعض الحلول التي قد تُساهم في تفريج أزمة البلاد، في وقت التهبت فيه الأسعار وتفتّتت القدرة الشرائيّة وتفاقمت نسبُ تلوث البيئة جرّاء تراكم الفضلات المنزليّة التي تلكّأ أعوان التنظيف في رفعها وأصبحت تهد بتفشّي الأمراض لا بل الأوبئة.

 إنّ المُواطن اليوم يُعاينُ تفاقم ظاهرة التسوّل والعربدة وسوء السّلوك وبذيء الكلام والعنجهيّة في الطريق العام إضافة الى تكرر ظاهرة الإعتصامات التي أصبحت الرياضة الوطنيّة رقم واحد.

 هذه هي المشاغل الحقيقيّة للتّونسي اليوم. فهل يُعقلُ أن يفكّر هذا التونسي والوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي على ما هو عليه من الاحتقان، أن يتزوّج بامرأة ثانية ولما لا...  ثالثة ورابعة؟

وهل أصبح مطلب التعدديّة

الزّوجيّة حقّا"مطلبا شعبيّا "؟

وهل هذا هو الحلّ الذي يقترحُه رئيس جمعيّة الوسطيّة للتوعية والإصلاح؟

ألا يرى هذا "الرئيس" سوى الحلّ الجنسي الذي يُغني في رأيه عن كلّ الحلول الأخرى، كما لو كان تعدد الزوجات حلاّ أصلا؟

ثمّ متى كان التونسيّون مزواجين حتّى يُعاد طرحُ قضيّة حُسم الرّأي فيها منذ أكثر من نصف قرن؟

ألا يعلم شيخ العارفين أنّ نسبة التونسيين الذين كانوا مُتزوّجين بأكثر من امرأة واحدة لم تتجاوز 6% فقط؟
امّا في سوريا فلم تكن النسبة تزيد عن 5%، في ثلاثينات القرن الماضي حسب دراسة أنجزها خالد شاتيلا.
بينما انخفضت النسبة في لبنان إلى 2% في ستّينات القرن العشرين وفي سوريا إلى 4%، وفي الأردن إلى8 %، وفي اليمن إلى 4،6%.

  ومهما كانت نسبة تعدد الزوجات ضئيلة في تونس قبل الاستقلال، ومهما سعت بعض الدول العربيّة إلى ربط التعددية الزوجيّة ببعض الشروط، مثل المغرب الأقصى منذ بضع سنوات (مُدوّنة الأحوال الشخصيّة)، فإنّه لا يخفى ما يُفرزه التعدد من مآسي اجتماعية لعلّ أهمّها تفكك الأسرة وعدم الاستقرار النّفسي لأفرادها كما عبّر عن ذلك الدكتور محمد عمارة في كتابه الإسلام والمرأة في رأي محمد عبده، إذ كتب ما يلي:

   "... وإذا تأمّل المُتأمّلُ ما يترتّب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنّه لا يُمكن لأحد أن يربّى أمّة فشى فيها تعدد الزوجات، فإنّ البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا يستقيمُ لهُ حال ولا يقُوم فيه نظام، فمفسدةُ تعدد الزوجات تنتقلُ من الأفراد إلى البيُوت ومن الأفراد إلى الأمة ... فهي تُغري بينهم العداوةُ والبغضاءُ فيدبّ الفساد في العائلة كلّها."

 إنّي أكاد أجزم أنّ رئيس الجمعيّة الوسطيّة لا يفكّر بعقله الذي في رأسه، بل بدافع من غريزة بهيميّة لم يُساعده النّصيب الذي حصل عليه من العلوم الشّرعيّة تخصيصا  والثقافة  عامة  - هذا إذا افترضنا جدلا أنّه على نصيب من المعرفة – على  إخماد سعيرها والارتقاء به إلى مرتبة من يُفكّر بعقله، أي إلى مرتبة الإنسان العاقل المتحكّم في نزواته، ومنها النزوة الجنسيّة، ذلك التحكّم الذي هو في الأصل ملكة ميّز بها اللّه سبحانه الإنسان عن بقيّة السّوائم.

 لسائل أن يتساءل هل أنّ السلفيين اليوم لا يستحضرون من سلوك السّلف الصّالح غير علاقتهم بالمرأة؟
هل أنّهم لا يسعون إلا إلى إحياء ما أضحى نشازا مع نمط عيش العصر؟.

لماذا هذا التمسّك بشدّة بإطلاق اللحى وحفّ الشوارب،  وتقصير رجلي  البنطلون، والحرص على الدخول إلى بيوت الراحة بالرجل اليُمنى والخروج منها بالرّجل اليُسرى، والتعطّر بعطر يبعث على الغثيان، وإيتاء زوجاتهم في ليالي معلومات ، وتجرّع الماء ثلاث جرعات ، والمناداة بتعدد الزّوجات مثنى وثلاث ورباع.

لا بل منهم من يُفتي بحقّ الرجل في التزوّج من 9 نساء، ويُفسّر ذلك بأنّ 2+3+4=9، ويذهب البعض الآخر إلى رفع العدد إلى 18 زوجة باعتبار أنّ مثنى تعني 2+2، وثلاث تعني 3+3، ورباع تعني 4+4، فيكون العدد بذلك 18 !!!

يا له من تفسير يأخُذ بالألباب ويُلجم العقول و الألسُن لقُدرته على الإقناع!!!

   لماذا لم يتمسّكوا بما كان يأتيه السلف الصالحُ من حسن مُعاشرة أزواجهم، وحُسن السّلوك، والتعفّف عن مُغريات الحياة الدنيا، والتقرّب إلى الواحد القهّار بالعمل المُفيد للمجموعة وبالتعبّد، والإتّحاد حول كلمة سواء تُجنّبُ النّاس الفتنة التي هي أشد من القتل، والتواضع وحُسن التصرّف في المال العام؟

   أليس كلّ هذا من سنّة الرسول وأعمال السلف الصّالح الذي يتباهون بالانتساب إليه؟

  إنّ شيخ العارفين يُريد أن يعود بنا القهقرى، إلى ممارسة ظاهرة كان لها في الحقيقة بعض الحضور في القبائل العربيّة قبل الإسلام، وقبل نُزول الوحي على سيّد الأنام، أي إلى العصر الجاهلي لمّا كان  فيه تعدد الزوجات عند الرجل من أبرز الأدلّة على السّؤدد والزعامة والثروة. لقد كان يُباحُ للرجل في الجاهليّة الجمع بين أيّ عدد شاء من الأزواج دون تحديد، كما كان الاكتفاء بامرأة واحدة مسألة اختيارية.
تذكر المصادر التاريخيّة أنّه كان لعروة بن مسعود الثقفي قبل الإسلام عشرُ زوجات .

  بعد الإسلام تواصلت الظّاهرة لكن مع التّحديد بأربع زوجات فقط، وقد تزوّج عدد من الصّحابة من عشر نسوان و منهم عبد الرحمان بن عوف، وهو أحد العشرة المُبشّرين بالجنّة، والذين كانوا يُكوّنون مجلس شورى محمد عليه صلوات اللّه وسلامُه، وقد تزوّج عشرين امرأة منهنّ خمسُ أُمّهات وُلد والأخريات حرائر من الفروع الكبيرة في قُريش، ومنهنّ أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنه، لكنّه حافظ على شرط عدم استبقاء  أكثر من أربع في العصمة في وقت واحد.

جاء في كُتب المُفسّرين :"انّ قريش كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقلّ"
وجاء أيضا:" انّ الرجل في الجاهليّة يتزوج العشر وما دون ذلك  ... وأنّهم كانوا  ... ينكحون عشرا من النساء وينكحون نساء آبائهم ولم يكونوا يعدلون بين نسائهم."

هذا الاتجاه الفكري الأوّل الذي تناول قضيّة المرأة في المجتمعات العربيّة.أمّا الاتجاه الفكري الثاني فهو الاتجاه الحداثي.

اتّجاه حداثيّ:

يُعرّف الشّاعر والناقد التونسي محمد الغُزّي الحداثة على أنّها:

   " رُؤية جديدة، وهي جوهريّا رُؤية تساؤل حول المُمكن واحتجاج على السّائد، ويتجلى ذلك في تجاوُز الأشكال المُتوارثة والخُروج عن الطّرُق المُستقرّة والبحث عن أسلُوب جديد يستوعبُ لحظته التّاريخيّة ويتخطّاها في آن."

    وفي الحقيقة فإنّ  لكلّ عصر مُحدثيه. فمن ينكُر أنّ رسول اللّه  محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كان في زمانه حداثيّا. ألم يحتجّ على القيم والنّظُم السائدة في شبه جزيرة العرب في العصر الجاهلي؟

ألم يكن حمو رابي الذي نظّم المجتمع ووضع له قوانين تنظّم العلاقة بين الأفراد، ألم يكُن حداثيّا في زمانه؟

ألم يكن بوذا وكونفيشيوس حداثيّين؟

ألم يكن محمد علي باشا في مصر حداثيّا؟

ألم يكن المُشير الأوّل أحمد باشا باي في تونس (1837 – 1855) حداثيّا مع زمرة المُفكرين الذين أحاطوا به ؟

 إنّ الحداثة تبدأ منذ اللحظة التي يولد فيها تصوّر جديد لعالم لم يعُد الإنسان في صورته القديمة قادرا على التوافق معهُ، مهما كان زمان و مكان ذلك التصوّرُ.

   لذا فإنّ الرؤية الجديدة للعالم وللعلاقات البشريّة هي الرحم الذي تتخلّق  فيه الحداثة و التي لا يُمكن أن تكون غير النّظر إلى الأمام، أي أنّها تتناقض كليّا مع من ينظر إلى الوراء ويعيش على أنقاض ما أتاه الأوائل.

إنّ الحداثة التي تعنينا  في قضيّة تعدد الزوجات هي تلك التي ارتبطت بما اتفق المفكرون على تسميته بالنهضة العربيّة الحديثة التي فجّرتها حملة نابليون على مصر، والتي تولّد عنها التساؤل حول وضع العرب من العالم، ومن ضمن هذا التساؤل طُرحت قضيّة وضع المرأة في المُجتمع العربي، وقضيّة التعددية الزوجيّة.

   لقد كان رفاعة رافع الطهطاوي أوّل صوت يثير قضيّة التعددية الزوجيّة فتجرّأ بذلك على إثارة مما يُعتبر مسكُوتا عنهُ، مُحدثا شرخا في جدار الخوف وفي قانون الصّمت ، وفتح الباب الجدال فيما كان يُعتبر مُقدّسا وغير قابل للجدال.
يرى الطّهطاوي أنّ :

   " حُكم تعدد الزوجات في الإسلام الإباحة، وقد شرّعهُ القرآن رحمة بنفوس من تتجاوز بهم الشّهوة حدُود الزّوجة الواحدة"، إلاّ أنّه لم يقف عند حدود النص إذ اعتبر أنّ:

   " الزواج التعددي مكروه والاقتصار على الزوجة الواحدة مندوب". واشترط إلى جانب توفّر العدل بين الزوجات ضرورة وُجود علّة ظاهرة تدعو للتعدد."

   أمّا الشّيخ محمد عبده فقد حسم حسما باتا في قضيّة التعددية وكتب:

   "انّ الإسلام قد خفّف من الإكثار من الزوجات، ووقف عند الأربعة ثمّ انّه شدد الأمر على المُكثرين إلى حد لو عقلوه لما زاد واحد منهم على الواحدة."

ويضيف:

   "أمّا إبطالُ هذه العادة، أي عادة تعدد الزوجات، فلا ريب فيه ... ولهذا يجُوز للحاكم وللقائم على الشّرع أن يمنع التعدد دفعا للفساد الغالب."

   لقد دشّن الشيخان الطهطاوي وعبده حسب تعبير الأستاذ سعد غراب،  دشّنا منهجا في الاجتهاد مُتحرّرا ممّا تكلّس في الأذهان خلال خمسة قرون من أنّ باب الاجتهاد قد أُغلق ، وكانت محاولتهما الاجتهادية وتفكيرهما في قضيّة الزواج التعددي من أكثر المُحاولات استنارة وأشدّها انفتاحا وتماسُكا ووُضوحا.

  وبين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تدعّم التيار الحداثي ، وتناول مُعضلة تعدد الزوجات عديد المُفكّرين من بينهم المُفكّرين المصريين قاسم أمين وسلامة موسى والتونسي الطاهر الحداد.

اليوم، وبعد أكثر من قرن من تناوُل مُعضلة التعددية، يطلّ علينا من  ينادي بأن تعدد الزوجات" مطلب شعبيّ"!!!

يا اللّه رفقا بعيالك الضعفاء.

يا علماء هذا الزمن الرديء، اتقوا اللّه في شعبكم ولا تُشوّشوا أفكارهُ بما لم ينزل به اللّه من سلطان.
لا تُعوّموا مطالب الشعب ، سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا وثقافيّا، لا تُخمدوا أنفاسه ، لا تُغبطوا حقّه في حياة كريمة يتساوى فيها الرجل والمرأة مُساواة تامّة دون نُقصان.
  
إنّ المطروح على مُفكّرينا  اليوم و بإلحاح إنّما هو تجديد الفكر الإسلامي وقراءة موروثنا قراءة نقديّة مُتخلّصة من وهم القُدسيّة ومتماهية مع مُتطلّبات عصرنا دون القطع البات مع قيمنا ومبادئنا الحضاريّة والإسلاميّة السمحة.

   إننا في حاجة إلى المسك بمفتاح مُصالحة حقّة بين الموروث ومُتطلّبات الحضارة .
إنّنا في حاجة إلى التخلّص من التأويلات والصّيغ الفقهيّة والأنماط الفكريّة التي تجاوزتها الأوضاع الحاليّة ولم تعُد في مُستوى طمُوحات شباب حطّم جدار الخوف ونزع عباءة القدسيّة التي تجلبب بها أولي الأمر  وأصبح يرنو إلى العدالة الاجتماعية وإلى الإعتاق والحريّة و المُساواة .
إنّ المصالحة التي نريد هي تلك التي تجمعُ بين موروثنا العقائدي والتشريعي والأخلاقي وما تحتّمُه الحداثة من حقوق الإنسان وما ترتّب منذ الثورة الفرنسيّة من مفاهيم المُواطنة و سيادة الشّعب، بمنأى عن التطرّف والإقصاء والتصادُم الإيديولوجي، كما يقول المُفكّر هشام جعيط، والذي يُضيفُ أنّ التّاريخ يتحرّك دوما إلى الأمام، لا يتراجع البتّة إلى الوراء، إنّه كدحُ الإنسانيّة الدائم لرسم طريق نحو الأفضل.

                                                                                                          
      العوينة، 13 سبتمبر 2012-

المراجع:

-- احمد لطفي السيد، المنتخبات، ج1، القاهرة 1937 و ج2، 1945
-- الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريهة والمجتمع، تونس 1930
-- سعد غراب، العامل الديني والهوية التونسية، الدار التونسية للنشر 1990
-- محمد أسعد أطلس، محاضرات عن الشيخ محمد نغربي، معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة 1953
--  محمد عمارة، رفاعة رافع الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث، القاهرة 1984
-- محمد عمارة، الإسلام والمرأة في رأي محمد عبده، القاهرة 1975
-- قاسم أمين، تحرير المرأة، القاهرة 1899
-- قاسم أمين، المرأة الجديدة، القاهرة 1890
-- نور الدين المكشر، زعماء الإصلاح وقضية تعدد الزوجات، دار البيروني للنشر، د.ت.
-- نظيرة زين الدين، السفور والحجاب، بيروت 1928
-- نظيرة زين الدين، الفتاة والشيوخ، بيروت 1928
-- سلامة موسى، الورأة ليست لعبة الرجل، القاهرة. ت
-- عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة، تونس 1990
-- رفاعة رافع الطهطاوي، المرشد الأمين للبنات والبنين، ضمن الأعمال الماملة، المؤسسة العربية 1973


mardi 4 septembre 2012

غريب واللّه ما يحدث برعاية حكومة النّهضة


  نُظّمت بالبلاد التونسيّة في نهاية الأسبوع الماضي ، مسابقة دوليّة وهي جائزة تونس العالميّة الثانية لحفظ القرآن الكريم وتجويده، والتي انضوت تحت رعاية وزارة الشؤون الدينيّة وشارك فيها عدد من المتسابقين من البلدان الشقيقة والصديقة التي يجمعها رابط الإسلام.
وإن كان لا اعتراض لديّ على أيّ نوع من المسابقات في أيّ مجال كان ، لما تجُره من تحفيز للشباب  حول موضوع ما ، وتُوجّه  طاقاتهم إلى ما ينفع العباد والبلاد ، ويضيف حركيّة إيجابيّة على العطل المدرسيّة والجامعيّة الصيفيّة ( والتي أراها طويلة جدّا وغير مُستغلّة ، ممّا يطرح قضيّة مراجعتها وإعادة  تصوّرها وهو ما بدأت التفكير فيه المصالح المُختصّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وفي اليابان - وقدكنت أثرت هذه القضيّة منذ أكثر من سنة ودعوت إلى التفكير في حسن استغلال العُطل المدرسيّة الصيفيّة- وبالتالي علينا بالمسايرة الحينيّة  لمستجدات المجال التربوي )، قلت أن لا اعتراض لدي لأيّ نوع من أنواع المسابقات التي  يشارك فيها الشباب ليُعبّروا في إطارها عن ذواتهم ويُفجّروا طاقاتهم وإبداعاتهم، إذا ما سمحت لهم الظروف بذلك، إلاّ أنّي أعترض على هذا النوع من المسابقات لأنّي لا أرى لها أيّ مساهمة ماديّة وإيجابيّة تُساعدنا على معالجة رواسب تخلّفنا العلمي والتقني والخروج  من عُنق زجاجة السلفيّة التي بدأنا نختنق بعطر الموتى الذي تبُثّه في الفضاء، وبالسلاسل التي تُكبّلُنا بها وتشُدنا إلى الوراء، إلى أكثر من أربع عشرة قرن.


حفل تكريم الفائزين في مسابقة حفظ القرآن


    ويزداد اعتراضي  عليها في ظلّ غياب أي نوع آخر من المسابقات العلميّة التي توقظ العقول وتُحفّز الأذهان وتُفجّر في الشبّان حب الإطلاع العلمي وتُحبّبهم في البحوث العلميّة والتقنيّة وتُمهد لهم طريق الاختراع والابتكار بما لا يجول بخاطر الكهول والشيوخ من الآباء و الأجداد.

    ويزيد اعتراضي أكثر بعلمي بالحجم المالي للجوائز المرصودة للمُتفوّقين في حفظ القرآن والتجويد والذي بلغ 41 ألف دولار للمُتفوّقين الثلاثة الأوائل والذين سيتحصّلون على جوائزهم في احتفال ضخم يُنظّم يوم 4 سبتمبر 2012 بقصر قرطاج!!!

  وللعلم فإن تكاليف المسابقة أكثر من ذلك بكثير لأنّها ستشمل استقدام 20 مشاركا في مسابقة حفظ القرآن الكريم و 16 مسابقا في التّجويد، زيادة عن إقامتهم ونقلهم ومأكلهم والجوائز التشجيعيّة لمن لم ينل الجوائز الأولى وربّما تكاليف الميداليّات التي ستُضرب بالمناسبة وستُمنح للمُشاركين تخليدا للذكرى المجيدة، إذ لا يُعقل أن يعودوا إلى بلدانهم خاليي الوفاض.

    هذا يعني أنّ المُسابقة ستُكلّف الوزارة حسابيّا مئات الملايين من الأموال العموميّة المُتأتّية مما يدفعه المواطنون من الضرائب.

    هكذا يكون حقّا حُسن التصرف في الأموال العموميّة، خاصّة وأنّ طرُقاتنا لم تعد في حاجة إلى صيانة ، وإنتاجنا للكهرباء يزيد عن حاجاتنا، والماء الصالح للشراب يغمُر كلّ قرانا وتمتد شبكة أنابيبه على كامل مجال البلاد فلم يعُد من يشكو بيننا من الضمأ في شهر رمضان وفي عزّ الصيف، وأصبحت منتجاتنا الفلاحيّة رخيصة الثمن وأصبح يُضرب المثل برُخصها في العالم، ومُؤسّساتنا التعليميّة تُسجّل أرقاما قياسيّة في حُسن التّجهيز، وكذلك الشّأن بالنسبة لمطاعمنا الجامعيّة ، وأصبح أصحاب المقاهي في بلادنا يشكون الكساد لانعدام البطّالين عندنا إلى حد أصبحنا نستجدي البلدان الصديقة والشقيقة لمدّنا بما لديها من فائض لليد العاملة نُؤثّث به مصانعنا ومعاملنا وحقولنا وحضائر البناء...

    هكذا يكون فعلا حسن التصرّف في الأموال العموميّة ، ونحمد اللّه على ذلك بعد أن أُبتُلينا من قبل بمن ينهب المال العام، ونستزيده من الحمد لابتلائنا بحكومة تحرص على مصالح الشعب، لا بل تحرص على عدم مخالفتنا منهج السلف الصالح، ويسعى وزيرها للشّؤون الدينيّة إلى "حفظ" القرآن الكريم  وكأنّ عقله الباطن يعكس عدم اقتناعه بقوله تعالى:
"إنّا نحن نزّلنا  الذكر وإنّا له لحافظون"، الحجر، الآية9.
إنّ للّه  في خلقه شؤون!!!

   سؤال إلى معالي وزير الشّؤون الدينيّة :

   قد تكون عارفا عن ظهر قلب عدد كلمات القرآن الكريم، وعدد سُوره وعدد آياته، وكم من مرّة ورد فيه اسم محمد عليه صلوات اللّه وسلامه، أو كلمة القلب ... لكن هل تعرف ما هي العناصر التي يتكوّن منها الماء؟

 وهل تعرف متى نزلت الآلة الحاسوب على سطح المريخ وما هي المُهمّة المكلّفة بها من قبل أهل الأرض في النازا؟
  وهل لديك حلّ للمُعادلة الربيعية في الرياضيّات؟؟؟


ملاحظة قبل الأخيرة:
قال وزير الشؤون الدينية بمناسبة افتتاح جائزة تونس العالمية الثانية لحفظ القرآن ما يلي :

"الذي لا يتدبّر القرآن ويكتفي بحُرُوفه وكلماته إنّما هو يُخالف منهج السلف الصّالح كما أنّ قلبه يُغلقُ عن كلّ المعاني النّفسيّة والآداب الإسلاميّة والمقاصد الشّرعيّة التي حواها القرآن الكريم".

 ملاحظة أخيرة :

 من يقول بوُجود علاقة بين السلفيين وحُكومة حزب حركة النّهضة فهو كـــــــــــافـــــــــــر ويضع العصا في العجلة ويُعادي الإسلام!!!

من أروع ما سمعت اليوم:

إذا الشعب يوما أراد الحياة...  أُحبّك يا شعبُ فأنت الحيــــــاة.