samedi 26 septembre 2020

بين الحاكميّة للّه وتطبيق الشريعة - الجزء الثالث

 

الجزء الأول من هذه الدراسة يمكن الإطلاع عليه هنا :

http://abouataw2amayn.blogspot.com/2020/07/blog-post.html

http://abouataw2amayn.blogspot.com/2020/08/blog-post.html
الجزء الثاني من هذه الدراسة يمكن الإطلاع عليه هنا :

هل يعني فساد السياسة فسادَ الدّين وإلحاقُ الضرر بالإسلام؟

قطعا لا ، لكن المؤكّد أن إختلاط الدين بالسياسة أفسدَ شُؤون الأمة الإسلاميّة.

كانت الفتنة الكبرى ثاني المحن التي واجهها المسلمون، بعد "حروب الردّة" في مطلع عهد أبي بكر الصدّيق، اقتتل خلالها المسلمون بكل شراسة.تقاتل من كانوا بالأمس القريب جيرانا وأصهارا وإخوة في الدين وتقاسموا الأفراح والأتراح.

أسال الإقتتالُ أنهارا دافقة من دماء أبرياء جُنّدُوا لخوض معركة لا علاقة لأهدافها بمضمونِ الدين الحنيف.

عشرات الآلاف من المسلمين الأوائل أزهقت أرواحهم في معارك انتهت بخديعة"رفع المصاحف على أسنّة الرماحِ".فكان أول تلاعب بالدينِ وأوّلُ افساد له بإدغام السياسة فيه، واتخاذه مطيّة ومقفزة لتحقيق أهداف دنيويّة أدخلت تغييرا شاملا وجذريّا على مفهوم "الحكم الإسلامي الذي بُنِيَ على التشاوُرِ كصيغة مُنزّلة(12) فتحوّل إلى حكم وراثي عضوض تقاسمه أبناء الأسرتين الأمويّة والعبّاسيّة، الذين كانوا يعتقدون أن الله وضع بين أيديهم مفاتيح خزائنه.

حُكم كان أغلبُ من تربّع على عرشه شخصيّات تفتقد للكفاءة إذا ما استثنينا "خامس الخلفاء الراشدين" عمر بن عبد العزيز الذي كانت نهايته درامية و لا تختلف عن نهاية عمر الأول وعثمان وعلي.

ان التاريخ الإسلامي وفي ظل مزج الدين بالسياسة تاريخ دموي و جد عنيف ، تدفّقت خلاله دماء المسلمين إلى حد يعجز معه القلم عن احصاء أعمال العنف التي لازمت ممارسة الحكم الإسلامي، ويعجز العقل عن تعداد المؤامراتِ التي حيكت من العهد الأموي إلى نهاية الخلافة العثمانية.



كل ذلك كان نتيجة حتميّة لتسييس الدين ولإضفاء صِفَتَي العصمة والقداسة على الحكام الذين تحوّلوا من خلفاء للمسلمين إلى خُلفَاء لله، لا بل أصبحوا"ظلال الله في الأرض" والورثة الوحيدين لملكوته، يتصرفون حصريّا في خيراته فيمنحوها لمن يشاؤوا ويمنعوها عمن يشاؤوا كما صرّح بذلك المنصور العبّاسي. لا يُسألون عن أفعالهم حتّى لو كانت أبعد ما يكون عن الفعل الحلال، لأنّ أئمّة البلاط وفقهاؤه جاهزون لإحلال المحرّم وتحريم المحلّل.قلّة قليلة من الفقهاء والقضاة رفضوا القيام بدور شهداء زور والإنسياق في ركب النظام لأنهم كانوا يخشون يوما لا ظل فيه غير ظل الله، يوم الحساب، حتى انتشرت تلك المقولة الشهيرة"قاضيان في النار وقاضي في الجنّة".

لقد تحوّل "نظام الخلافة" مع الأمويين ثم مع العباسيّين إلى نظام وراثي، جاء على رأس السلطة بمسؤولين لهم ميل فطري للفساد وللعبث وللمُجون والعربدة، لهم جهل صارخ بواقع الأمّة.لا يشجّعون على العلومِ والمعارف، يبدّدون الأموال العموميّة فتبدّدت بذلك الثروات عوضا عن استثمارها في بناء مستقبل مشرق للأمّة.لا يتوانون عن إخماد كل نفس حرّ توّاق إلى الإنعتاق وإلى حريّة التعبير ويسعى إلى تبنّي قضايا الأمة، أو حتى مجرّد راغب في التعبير عن رأي مُخالف للموقف الرسمي من بعض القضايا.كم من عالم ومفكّر كان مصيره الموت البشع لمجرّد أنه أصدع بما لا يوافق هوى السلطان.

مسؤولون شجّعوا على التواكُلِ وأوهموا الناس بأنّ مجرد ممارستهم لواجباتهم الدينيّة، من صلاة وصيام وزكاة وحج، تنحلّ العُقَد وتنفرجُ الكُرَب وتتحوّل الأوضاع نحو الأفضل وتمرّ الأزمات ...

لم يشجّعوا في أغلبيّتهم على الإقبال على العلوم باعتباره فرض عين على كل مسلم، وله الأوّلية حتى على الجهادِ كما رُوِيَ عن عمر بن الخطّاب قوله"لإن أموتُ بين شُعبتَي رحل أسعى في الأرض أبتغي من فضل الله كفاف وجهي أحبّ إليّ من أن أموت غازِيا"، أي انّ السعي في طلب الرزق أو طلب العلم وطلب كل ما يفيد الإنسان في الحياة الدنيا يرتقي في نظر عمر إلى مرتبة أرقى من مرتبة الجهاد.

الشريعة وعلماء الدين

الشريعة لُغَة تعني المنهج أو الطريق حسب مصادر المعجميّة العربية.أما دينيّا فهي تعني الفقه الإسلامي، أي كل ما شرّع "العلماء" المسلمون منذ القرن الثاني للهجرة إلى يومنا هذا، في مجالات عديدة: الأحوال الشخصيّة، المعاملات التجاريّة، الأحكام الجنائيّة، انطلاقا من عموميّات وردت في النص القرآني.

إذا الشريعة ليست إلاّ "تأسيس الناس للنّاس"، وهي إجتهادات بشريّة بمعنى أنها تحتمل الصواب مع امكانيّة مُجانبَتِهَا له، مثلها مثل أيّ عمل بشري.لذا من الواجب نزع صبغة القدسيّة التي أضفاها البعضُ عليها إلى حد تحوّلها إلى "قرآن ثان".

لنقدّم بعض الأمثلة على ذلك



المثال الأوّل

ورد في النص القرآني كله حكم موضوعي واحد يتعلّق بالبيع والشراء، وحُكم إجرائيّ واحد عن الديون.(13) امّا بقية الأحكام من بيع وإيجار وانتفاع واستغلال ورفع للأسعار واحتكار للبضائع وتخزينها ضمانا لرفع أسعارها في الأسواق

لا حقا،ورهن وقسمة وعمل وتجارة ... ليست إلا تشريع الناسِ للنّاسِ.

المثال الثاني

يتعلّق بقضية شارب الخمر.

علينا بادئ ذي بدء الإشارة إلى أنّ الخمر لم تُحرّم في النص القرآني تحريما صريحا، كتحريم الدم والميسر ولحم الخنزير.وأبعدُ معنى ورد في شأنها هو تجنّبُهَا لإعتبارها "رجس من أعمال الشيطان"(14).

وبالتوازي ذُكرت محاسنها في الآية 219 من سورة البقرة(15)، مما دفع المُتدبّرَ إلى طرح السؤال التالي والذي كثيرا ما يطرحه جانب من المفسّرين: ما الذي "منع" الله من أن يُقرِنَ لفظ الحرام بلفظ الخمر؟

لنترك الإجابة عن هذا السؤال لأنها ليست من مرتكزات موضوع البحث، ولنعُد إلى الحكم على شارب الخمر وما ينجر عنه من عقوبة.لم يتجاوز علي بن أبي طالب حد التعزير كما فعل عمر بن الخطاب قبل ذلك وهو الذي عُرِفَ عنه حرصه الشديد واجتهاده البليغ، إلا أنه اقتصر على تعزير أبي جندل الذي ضبطه يتناول الخمر وقد تمسّك بحقّه في تناولها، مُستدلاّ في ذلك ببعض آيات القرآن(16)، فوجد عمر حرجا في تكفيره واقتصر على الحد الأدنى من العقاب.





أما الفقهاء فقد اتسعوا في هذا الشأن وفي غيره من شؤون الأمة اتساعا لا حدود له، واختلفوا اختلافا كبيرا جدا بسبب اجتهاداتهم وتشريعاتهم، فاحتكروا بذلك الدين، وفرضوا وصايتهم على المسلمينَ، وحوّلوا الإسلام السمح والرحيم إلى سيف ديموقليس يهددون به الرقاب.

جعلوا من الإسلام سلاحا في قبضة الطُغاة، حوّلوه إلى دين الوعيد يهدد المؤمنين بعذاب القبر بمجرد مواراتهم الثرى.أضفوا عليه صبغة الإرهاب وسفك الدماء وقدّموه في صورة كريهة لأبنائه ولأبناء الديانات الأخرى حتّى أضحى مبعث فوبيا عند غير المسلمين لكل ما له علاقة بالإسلام.

هؤلاء "العلماء" تمنطقوا بالدينِ وتمسّحوا على أعتاب شريعة هي من انتاج البشر.جعلوا أنفسهم وكلاء عن الذات الإلهيّة، ونسبوا لأنفسهم وظائف وواجبات لم يُكَلّف بها الرسول ذاته(صلعم).

نصّبوا أنفُسهم وصايا على عُقُولِ النّاسِ وحصروا القرآن في قراءة وحيدة وفي رُؤيا وحيدة.يُراقبون تصرّفات المسلمين ويفرضون عليهم بروتوكولات سلوك من نسج أوهامهم فيما يتعلّق بملبسهم ومشربهم ومأكلهم، ويقنّنون حتى أوقات مضاجعاتهم لزوجاتهم.

وفي المقابل يُخوّنُون كل مُعارِض لرُوياهم، يتهموه بالنفاق وبالزندقة، يُكفّروه ويهدرون دمه عبر وسائل الإعلام وعبر وسائل التواصل الإجتماعي.يهددون كل من لا يتّبعُ منهجهم بالسّحل في شوارعِ المدنِ.

لقد عشنا حالات من هذا القبيل في تونس ما بعد الثورة.هذا يدعو إلى بتر الأعضاء من خلاف تحت قبّة المجلس التّاسيسي، وذاك يعتبِر السلفيّين التكفيريّين أبناءه ويذكّروه بشبابه، وثالث يهدد بسحل معارضيه ورابع يبشّر الشعب بأن حركته تتحكم في مائة ألف انتحاري ...

كل هذا ليس إلاّ نتيجة لتسييس الدينِ ورفع شعارات"الإسلام السياسي" المُلوّنِ بالعنفِ والإرهابِ، ما أدّى إلى اغتيال قامات فكر وزعامات سياسيّة، وذبح أمنيّين والتمثيل بجثثهم ذات شهر رمضان من سنة 2012 من قبل غُلاة لا يدركون مقاصد الدين الحنيف، ولا يدركون-بحكم محدودية ثقافتهم ودمغجتهم- صيرورة التاريخ وحركته، فروّجوا عن جهل صورة مُشوّهة للإسلام داخليّا وخارجيّا.

يجدر الإشارة إلى أن هذا "النوع من الإسلام" برز في بداية القرن العشرين في شبه القارة الهنديّة، حيثُ تتعدد الأجناسُ والألوانُ واللغات والعادات والتقاليدُ والمعتقدات والأديان السماويّة والوضعيّة إلى حد التناقُضِ، وذلك على يد أبي الأعلى المودودي(17) الذي قدّم في كتابه"الحكومة الإسلاميّة" طرحا لا يصمُدُ أمام النقاش المنطقي والفهم العقلاني، وطرحَ منهجا اتبعه مُريدوه وتميّزَ برفض كل تحليل منطقي لا يتماشى ومنطقهم، ورفض كل حجة ما لم تكن حجّتهُم.أسلوبهم في ذلك ترويج الإشاعات وعدم المُجادلة بالحُسنى ورفع عصا التهديد واشهار سلاح الإغتيالات.لا يُواجهون منافسيهم بالتسامُحِ بل بالعنفِ والعدوان.يَكذِّبون ويتّهمون غيرهم بالكذب، يُحرّفون ويتّهمون غيرهم بالتحريفِ، يُزيّفونَ ويتّهمون غيرهم بالتزييفِ.لسانُ حالهم العاثر يقول من ليس معنا فهو علينا، ومن لم يتبع منطقنا فلا منطق له، ومن لا يُؤمِنُ بأهدافِنَا فهو آثم وباغي، ومن يقفُ في طريقنا فهو كافر مُرتدّ.يُقدّمون أنفُسهم على أنهم هم وحدهم الأمل والخلاصُ والنجاة(18)، يرفضونَ الإنفتاح على الآخر لمعرفة أفكاره حتى وإن كانت غير سويّة ولا يعملون بالقول المأثور والمنسوب إلى عمر بن الخطّابَ" من لا يعرفُ البَاطِلَ أحرى به أن يقعَ فيه".

إن هؤلاء المُدّعين العلمَ، حصروا وظائف الإسلامي في المقصد التشريعي واعتبروهُ مُدوّنة قانونيّة تحتوي على أحكام أبديّة، ثم أسندوا إلى السنّة سُلطة تشريعيّة مُهملين البعد القِيمِي والأخلاقي الذي هو مبدئيّا جوهر الشريعة.(19)

وكذلك شأن المطالبينَ بتطبيق الشريعة الفاقدين للوعي التاريخي وللصيرورة التاريخيّة، فنزعوا الحريّة عن المرأة وفرضوا عليها وصاية.أكرهوها على التحجّبِ واعتبروها كائنا ناقصا وفي أحسن الحالات مكمّلا للرجل.طالبوا بإقامة الحدود على مخالفات وسلوكات وجرائمَ ليست كلّها ذات أصل قرآني.تشدّدوا في تأويلهم لآيات لا تتلاءمُ مع روح النص المقدّسِ ولا تتطابقُ مع قراءته قراءة سهميّة ، ولا تنسجمُ مع منظومة حقوق الإنسان الكونيّة، وفي طليعتها الحريّة والمُساواة.كما انها لا تعكِسُ بالمرّة القيم والمُثُلَ والمبادىء التي جاءت بها الحداثةُ من عصر النهضة الفنيّة والفكريّة في أوروبا في القرن الخامس عشر والتي عُرِفت باسم الحركة الإنسانيّة.




وهكذا يتراءى لنا ان رافعي شعار "تطبيق الشريعة" لا يتوانون وباسم الإسلام- كما كان الشأن منذ صراع الكوفة-دمشق-عن القضاء عن الحريّات الفرديّة وعن محاصرة المرأة، ذلك الكائن الذي يعتبره كثير من الأصوليين مجرّد "وعاء للإنجاب"(20). لايتأخّرون عن تصفية منافسيهم السياسيّين بعد محاصرتهم في زاوية التخوين والتكفيرِ، وعن وتطبيق أحكام فقهيّة تُشيع قيمة الطاعة للأمير، تلك الطاعة التي سُنّت منذ قرون لتنظبم المجتمعات القبليّة، حتى وان كان ذلك بالدوس على قيمتي الحريّة والمسؤوليّة الذين هما رُكنا عمليّة الخلق.

لقد برزت قضية التيّارات الدينيّة بأكثر وضوح خلال النصف الثاني من القرن العشرين، في الفضاء الجغراسياسي الذي تُؤثّثُه الكيانات السياسيّة العربيّة، والتيارات السياسو-دينيّة المُنغَمِسةِ في التطرّف الفكري و المُديرة ظهرها للمستقبل، مُلتَفِتة إلى الماضي السحيق. وهي في الحقيقة انعكاس صريح لعجز المُجتمعات العربية الإسلاميّة عن الإهتداء إلى طريق التحديثِ والإنخراط فيه، و فشلها في تجاوُز ماضي لم يعُد ملائما لا شكلا ولا مضمونا للزمن الراهن، وعدمِ تخلّصِهَا من قرون الجُمودِ والإنحطاط لعدم ارتفاع منسوب وعيها التاريخي الذي يقف حجر عثرة في سبيل إكتسابها لوسائل القوّة والمناعة الحديثة .

لم تستفد هذه الكيانات من تجارُبِ الأمم التي حققت نهضتها التقنية والفنية والعلمية والمعلوماتية، ولم تسع إلى تذليل الفجوة الحقيقية الفاصلة بين الأمم المتقدمة والأمم السائرة في طريق التخلف المُتراكمِ، واقتصرت على بعض المساحيق التجميلية لتُضفي على وجهها صيغة مُزيّفة وكاذبة للحداثة.

الفشلُ والعجزُ أضحيا عنوانينِ للأنظمة السياسية السائدة في الأقطار العربية الإسلاميّة، من السعودية الوهابيّة إلى سودان الإخوان، النميري والمهدي والترابي، إلى إيران الملالي، إلى طالبان أفغانستان المزهوّين بتدمير التماثيل(21)، وصولا إلى تونس منذ 2011.كل هذه الأنظمة فشلت في عصرنة مجتمعاتها والإرٍتقاء بها علميا وتقنيّا وسياسيّا واقتصاديّا وأمنيّا، وعجزت عن تحطيم أغلال التبعيّة المقيتة تُجاه العالم المتقدّم.

هذا الفشل نابع من العجز عن فهم المقاصد الحقيقية للدين الإسلامي من ناحية وعن مزج الدين بالسياسة من ناحية أخرى، وعن الجهل-أو التجاهل- من ناحية ثالثة بأنّ النظام بمختلف أوجهه السياسية والإقتصاديّة انما هو نتيجة إرادة الإنسان، ونتيجة سعيه لتحقيق سعادته(22)و ما للدين في كل ذلك سوى دور القادح والإلهام والدافع في اتجاه التغيير والتحديث والثورة على السّائد.

ألم يكن الإسلام احدى اكبر الثورات وأنجحها في تاريخ البشريّة؟

ألم يكن محمد(صلعم) ثوريّا بامتياز، وربّما أكثر وأشمل ثوريّة من ماركس وأنجلس و لينين وغيفارا وكاسترو؟

لقد تمكّن محمد من تغيير المفاهيم وأسلوب الحياة، وأرسى قواعد الأخوة والتضامن والتسامح بين عناصر مجتمعية متنافرة.وحّدها وجعل منها أمّة على اساس ديني لا جهوي ولا قبلي ولا إقليمي ...

انّ دور الدين يجب أن يقتصر في رأيي على الوظيفة الروحيّة والأخلاقيّة ومن الأفضل النأيُ به عن اكراهات السياسة وتقلّبِ أوضاعها، وهذا لا يُنقِصُ من قيمته قيد أنملة.

لقد أصبح الأمر أكثر من جليّ منذ حادثة السقيفة، وتحديدا منذُ عُمِدَ إلى مزج الدين بالسياسة، إذ اتّضحَ أن هذا المزج لم يكن بالمرّة في صالحِ الدينِ، ولم يقم بدور القادح لتحديث الفكر الإسلامي وعقلنته رغم المحاولات الجريئة التي برزت في القرنين الثالث والرابع للهجرة/التاسع والعاشر للميلاد.

ما هو السبيل إلى تجنيب الدين المهاترات السياسيّة؟

ما هو السبيل إلى عقلنة الفكر الديني وتكييفه مع مُقتضيات الحاضر والمستقبل؟

بمعنى آخر ما هي الطرق التي تسمحُ بنقل الدين إلى الحداثة وبأي وسائل يمكن تحقيق ذلك؟

وهل من امكانيّة لدفع"الإسلام السياسي" ومن يمثّله إلى ورشات النقاش الهادىء والعقلاني و الرصين وعدم الإكتفاء بترديد ببغائيّ لشعار"الإسلام هو الحل"؟

كيف ندفع معتنقي"الإسلام السياسي" نحو الوعي التام بالتحديات المطروحة على الساحة العلميّة والفكريّة والسياسيّة، ذلك الوعيُ الذي قدّرته حركة النهضة في القرن التاسع عشر حقّ قدره، من رفاعة رافع الطهطاوي إلى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وصولا إلى احمد بن أبي الضياف والجنرال خير الدين باشا التونسي صاحب كتاب أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك؟

كيف نغيّرُ "الإسلام السياسي" من حركة إنعاش أو انتعاش ديني، توظّفُ خطابا سلفيّا، يختزل العقيدة في ممارسات طُقوسيّة تعود به إلى عصور الإنحطاط، إلى حركة فكريّة مُحفّزة تنظر إلى المستقبل القريب والمتوسط وحتى البعيد، وتتأقلمُ مع واقع مُتغيّر على نسق سريع جدا.

أم هل أن أولي أمرنا يفضّلون السكون ودعة العيشِ على الحركيّة ويُروّجون للجمود وللتواكل على حساب الإجتهاد؟
يفضّلُون هدوء المياه الراكدة حتى وان كانت آسنة على تلك المُتحرّكة والهادرة .

ان السكون والجمود يحولان دون التغيير ودون التقدّمِ، وهما عبث بلا معنى عشّش في أذهانِ من يسعى جاهدا وبكل طاقاته إلى المُحافظةِ على الأوضاع كما كانت عليه منذ قرون، يرفُض التغيير ويكفر بكل جديد لعجز ذهنيّ ولرغبة في المحافظة على "مربّع الرفاهيّة" الذي فيع يعيشُ ومنه يتمعّشُ، ولإيمانه إيمانا راسخا بأن "لاجديد تحت الشمس" وانه من المستحيل"الإتيان بأفضل مما أتى به الأوائل"، ولأقتناعه بأن"كل جديد بدعة وكل بدعة فتنة وكل فتنة ضلالة وكل ضلالة في النّار".

يكاد يجمع كل المفكرين على أنّ أي مجتمع مهما كان محافظا فإن لا ضمان لمحافظته على هويّته بغير السعيِ إلى التغيير المُستمرّ بالتوازي مع المحافظة على المُكوّنات الأساسية لهويّته ولشخصيّته القاعديّة.

إن المسألة في رأيي انما هي في العُمقِ مسألة أن نكون أو ألا نكون. وهما تُطرح قضيّة البُعد الزّمني عند المُحافظين من السلفيين بمختلف تفرّعاتهم .البعدُ الزمني غائب لديهم غيابا ولّد عدم وعي بامكانيّة الخطأ لتمسّكهم بأحكام ومبادئ يرونها أزليّة وغير قابلة للتغيير مهما كانت الظروف.

هذا يعني ببساطة رفضُهم الأخذ بعين الإعتبار المُتحوّلات التي تطرأ على الزمن إذ لا شيء ساكن وجامد جُموُدا أبديّا.

ان كل عناصر الكون انما هي في تحوّل مستمر ولا نهائي إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

الكون بكل عناصره متحرّك تحرّكا لا يهدأ بالمرّة، ولا يتوقّف إذ كل يتحرك إلى مستقر له، ونحو منتهى معلوم بالحجة أو بالحدسِ.

الفكر الثقافي للأصولين يرفض رفضا قطعيّا كل تغيير، يعجز عن التخلّصِ من الحنين إلى فترة صدر الإسلام وزمن النبوّة والصحابة والفتوحات.يراها أفضل الأزمان ويعتبرها المرجع الأساسي والأصلي والنموذج الواجب اتباعه والمكيّف لسلوكه، ويراه المنظم لكل مكوّنات حياته، في حين أن الزمن غير الزمن، وله بعد مُتحوّل، وانّ النمط الذي ميّز عيشّ الأولين لم يعد سوى ذكرى بعيدة، وأن سلوك الإنسان ومعاملاته وتفاعلاته تغيّرت،كما تغيّرت وسائل الإعلام والإقناع والتواصُلِ.اصبحت معاملات الإنسان الماليّة تُنحَزُ "قبل أن يرتد اليه طرفه" عبر جهاز عجيب وذلك بمجرد الضغط على زر من ازرار لوحة المفاتيح.واصبح الإنسان يُلقي في الفضاء الرحب بأجهزة تستكشف أسرار خلق الكون.(23)

ان الفكر الإسلامي المحافظي وقف بلا حراك لأكثر من عشرة قرون، يعيش عبرها زمنا ثقافيّا واحدا، راكدا، ساكنا، مشكّلا جزءا أساسيّا وجوهريّا من هويّته الثقافيّة وشخصيّته الحضاريّة، كما يشير إلى ذلك المفكر محمد عابد الجابري(24) "ان السمة البارزة في هذا الزمن الثقافي العربي الواحد هو حضور القديم لا في جوف الجديد، يغنيه ويوصلُه، بل حضوره جنبا إلى جنب يُنافسُه ويُكَبّله".

يتولّد عن هذا الوجود المُوازي للقديم مع الجديد، يكبّله وينافسهُ، قناعة الفكر الثقافي المحافظي بعدم الخطأ وهذا ما يشير إليه المفكر عبد المجيد الشرفي حين كتب "قابليّة الخطأ إنما تعني قبول النقد والإعتراض والبحث المُتضامن عن الحقيقة، وهو ما تحتاجُ إليه كل سُنّة ثقافيّة بما فيها السنّة الدينيّة لتُحافِظَ على قدرتها على الإقناعِ، وعلى مصداقيّتها، أي ليُمكِنُهَا البقاء."(25)

فكيف لنا ان نقرأ موروثنا الثقافي والديني تحديدا قراءة جديدة حداثيّة تُراجع وتُثري قراءة السلف الصالح -الذي بذل اجتهادات جبّارة في التفسير والتأويل لا نُنكرها- وتتأقلم مع مستجدّات الراهنِ والمُستقبل القريب؟

الهوامش

12) القرآن الكريم، سورة آل عمران الآية 159.

13) محمد سعيد العشماوي، س، ذ، ص46.

14) ذكرت الخمر في النص المقدس في أربع سور:محمد الآية 15، البقرة الآية 219، المائدة الآيتان 90 و 91، يوسف الآيتان 36 و 41.انظر كذلك محمد فؤاد عبد الباقي، س،ذ، ص 245.

15) " يسألونك عن الخمر والميسرِ قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما".

16) استدلّ أبو جندل بالآية التالية: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا إذا ما اتقوا و آمنوا وعملوا صالحا ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا والله يُحب المُحسنين"، سورة المائدة الآية 93.

17) أبو الأعلى المودودي: مفكر هندي ولد سنة 1903 وتوفي سنة 1975.أسّس الجماعة الإسلاميّة في مدينة لاهور.من مؤلفاته:الجهاد في الإسلام، المسألة القاديانيّة، دين الحق، الجهاد في سبيل الله، النشاطات التبشيريّة في تركيا ...

18) العشماوي، س.ذ، ص34-35

19) عبد المجيد الشرفي، لبنات، دار الجنوب التونسي، تونس 2011، ص86.