lundi 14 janvier 2013

حزب حركة النّهضة بين شتاءين أو ... سُبحان من غيّر الأحوال !




 غمر الانتشاء مُنخرطي حزب حركة النّهضة إثر فوزهم في انتخابات أكتوبر 2011 بأغلبيّة أصوات من تحوّل إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، في أوّل انتخابات تلت ثورة 14 جانفي، فطفقوا يرسمون خريطة طريق مُستقبل لم يتهيّؤوا للعب الأدوار الأولى فيه، يُراودهم حُلمُ  المسك بمقاليد البلاد لعُقود مُتتالية، حُلم أيقظ تلهّف قيادتهم للسّلطة وجُمُوحها اللاّمحدود للوُصول إلى الحُكم، وأغشى بصيرتها عن قلّة خبرتها وهُزال تجربتها السياسيّة في إقامة نظام حُكم خلافي على أساس الشّريعة، بشّر به رئيس الحُكومة المُؤقّتة في اجتماع مشهُود في مدينة سوسة مسقط رأسه، ويُؤمنُ به رئيس الحركة إيمانا راسخا،  وعبّر عنهُ في كتاباته العديدة، وهو الذي عُرف عنه ازدواجية الخطاب بامتياز، إذ كثيرا ما قدّم  خطابا ظاهرُه ديمُقراطي تعددي وباطنُهُ سلفي تيوقراطي ولا يرى في الديمُقراطيّة سوى ضرورة تفرضُها الظروفُ ومقفزة منها تنطلقُ الأمّة لإرساء قواعد النّظام الإسلامي.

   إلاّ أنّ الوُصول إلى مُستوى المسؤوليّات الأولى،  والنجاح في إدارة شؤون البلاد،  يتطلّبان بُلوغ درجة مُتقدمة من الوعي بأوجاعها والتفاعُل مع مشاغل شعبها والتملّص من التحزبية الضيّقة واكتساب للحسّ الوطني،  والارتقاء الفكري لمُلامسة المصلحة العامة،  وإيثارُها على المصالح الأنانيّة الضيّقة.

   لكن يبدو من خلال ما اعترض الحُكومة المُؤقّتة أن وُزراء النهضة لم يكتسبوا بعدُ الخصائص الضروريّة لمُمارسة السّلطة ممّا أدى إلى تآكُل " رأس مال الثقة " الذي منحهُ لها ناخبُون غرّهم تديّنُ السياسة الذي مارسه النهضويّون خلال حملتهم الانتخابية، فاندفعوا يصوّتون لفائدة من " يخافُ اللّه " من بين المُرشّحين للمجلس التّأسيسي.

   أهم هذه الخصائص في رأيي هي:

·    القدرة على القراءة الدقيقة والمُعمّقة لواقع البلاد وتشخيص مُختلف الأمراض التي تُعانيها ليتسنّى التوصّل إلى الحُلول النّاجعة في أسرع وقت ممكن.

·    التصرّف من قبل المسؤُولين على أنّهُم رجالُ دولة لا رجالُ حزب مُعيّن.

·    المُحافظة على ثقة النّاخبين، والسّعي إلى كسب ثقة من لم يُصوّت من النّاخبين لحزب حركة النّهضة، وتدعيم تلك الثقة تمهيدا للانتخابات المُقبلة.

فما الذي حدث بين شتاء 2012 وشتاء 2013 ؟
وهل وُفّق مُمثّلو حزب حركة النّهضة المُمثّلين للعمود الفقري للحكومة المُؤقّتة في اكتساب تلك الخصائص ؟

1 ) الانزلاق إلى هامشي المشاغل أضاع وقتا ثمينا

   كان من المفروض، بعد الانتخابات، انطلاق أعضاء المجلس التأسيسي في إنجاز دستور جديد للبلاد يعكس مطامح الشعب المُتعلّقة بتحقيق الديمُقراطيّة والتنمية والشّغل والكرامة والعدل. إلاّ أنّ أعضاء المجلس ال 217 انطلقوا انطلاقة خاطئة، وأضاعوا وقتا ثمينا قارب الشّهرين في إعداد الدستور الصغير والمُصادقة عليه لتنظيم وتقنين أعمال المجلس، تلاها ضياع آخرُ لوقت أثمن في مُناقشة قضايا خلناها محسومة منذ عُقود مثل الهُويّة، ووضعُ المرأة في المُجتمع، وتطبيقُ الشريعة، وتعريف البلاد التونسيّة التي عرّفها الفصل الأوّلُ من دُستور 1959، تعريفا فصيحا وواضحا يختزلُ تونس اختزالا عبقريا،  ويقدم وصفة دقيقة للأمن الثقافي والاجتماعي والديني ضد التهديدات القاتلة،  كما عبّرت عن ذلك الدكتورة آمال موسى في كتابها " بورقيبة والمسألة الدينيّة ".

 وكان من المُنتظر التفاف النوّاب حول هذا الفصل والتفرغ لكتابة بقيّة فًصول الدستور لا إضاعة الوقت،  ممّا أدى إلى الانزلاق إلى مُناقشة تفرّعات عديدة لقضايا ثانويّة، عوضا عن مُناقشة تأسيس الهيئات المُنظّمة للعدالة،  والإعلام،  والانتخابات،  والتي ستُنقلُ البلاد من الوضع المُؤقّت إلى وضع الاستقرار لمُباشرة القضايا الكُبرى والبحث لها عن حُلول جذريّة.

   وما يحزّ في أنفُس  المُواطنين، تصرّفُ نوّاب الشعب فيما يتعلّقُ بمُستحقّاتهم من المنح، تصرّفا غلبت عليه الأنانيّة المُفرطة في وقت تعيشُ البلاد تدهوُرا غير مسبُوق للقدرة الشّرائيّة، وارتفاعا مُشطّا لأسعار المواد الغذائيّة التي أصبحت نادرة الحُضُور في الأسواق، ممّا يدلّ على قلّة الوعي بمٌعاناة أغلبيّة الشعب التونسي، الذي أصبح يُكابد ليصمُد أمام ضنك العيش، فيما يعمد النوّابُ في المُقابل إلى المُصادقة على منح أنفُسهم زيادة ب 50% في منحهم، وتفعيلها تفعيلا رجعيّا!!!

أمّا سعيُهُم إلى جعل منحهم سارية المفعول مدى الحياة فتلك قصّة عجيبة أخرى.

إنّ هكذا سعي يذكّرُني بقانون 88 لسنة 2005 الذي مرّرهُ الرئيس الفار في فصل الصيف وصادق عليه نوّاب مجلس الشعب والقاضي بتمتّعه ( الرئيس ) بأكثر ما يُمكن من امتيازات ماليّة له ولذويه حتّى بعد وفاته.لكن " الّي يحسب وحدو يُفضلّو " كما يقول المثل الشعبي.

   وعليه فإنّه بالإمكان الجزمُ بأنّ الحُكُومة،  وأعضاء المجلس الوطني التأسيسي، لم يقرؤوا واقع البلاد قراءة مُعمّقة، ولم يُدركوا عُمق الرسائل التي وجّهها المُتظاهرون والمُضربون والمُعتصمُون الإدراك الجيّد، ولم يُحسنُوا تشخيص علل البلاد،  لذلك فإنّهم عجزوا عن توفير الدواء الشّافي لتلك العلل، وهذا وجه من أوجُه فشل حكومة المرحلة الانتقالية الثانية، بين شتاء 2012 و شتاء 2013.

2 ) تصرّف المسؤولين كرجال دولة لا كرجال حزب

   شُكّلت إثر الانتخابات حكومة ثلاثيّة الأثافي: حزب حركة النهضة والتكتّل والمُؤتمر وتمحورت مطالبُ الشّعب بأكثر وُضوح وتمحور حول:

·    تحقيق المطالب الاقتصادية والاجتماعية التي صدعت بها حناجر الشباب في مُختلف جهات البلاد بين ديسمبر 2010 وجانفي 2011، إن لم نقُل منذ أحداث الحوض المنجمي سنة 2008 التي أخمد نظام ابن علي نيرانها لكنه لم ينجح في إطفاء  جذوتها .

·    التقدم على درب التنمية الجهويّة الحقيقيّة في المناطق التي طويلا ما هُمّشت، وذلك بحُسن استغلال ما تزخر به من موارد طبيعيّة وبشرية وجلب الاستثمارات الوطنيّة والأجنبيّة إليها.

·    تحقيق الانتقال الديمُقراطي.

·    إصلاح ما فسد من مُؤسّسات تسرّبت إليها الأمراض الاجتماعية من رشوة ومحسوبيّة واعتماد على مسؤولين غير أكفّاء يُدافعون عن مصالح الطغمة الحاكمة أكثر من حرصهم على المصلحة الوطنيّة العُليا.

   لكن شيئا فشيئا وجد الشعبُ نفسه في وضع من يُشاهد مسرحيّة مُزجت فيها التراجيديا بالكوميديا تقاسمت الأدوار فيها مُختلفُ الأحزاب السياسيّة وأهمّ فُصولها:

·    الانفلات الأمني.

·    إيقافُ موجة التكافُل والتضامُن الاجتماعيين التي عمّت الشّعب في الأيّام الأولى التي عقبت سُقُوط النظام البنعليلي، وخلال الأيّام التي عرفت فيها البلادُ كوارث طبيعيّة: أمطار وثلوج غمرت عديد المناطق بالشمال الغربي وعزلتها عن بقيّة تراب البلاد.

·    تتالي أعمال العُنف اللفظي والمادي من  قبل مجموعات نصّبت نفسها ناطقة حصريّا باسم الدين الإسلامي ومُقسّمة المُجتمع إلى مُسلمين وكُفّار.

·    تتالي الهجمات ضد المراكز السياديّة من قبل من اعتبروا أنّ حُقوقهُم قد هُضمت وأنّ أصواتهُم لم تصل إلى ما يجبُ أن تصل إليه.

·    الاعتداء الموصوف على المقر المركزي للإتّحاد العام التونسي للشغل بعد أن سبق أن تعرّضت مقراته الجهويّة إلى اعتداءات من قبل فرق تُطلقُ على نفسها اسم روابط الدفاع عن الثورة ولم يُشاهد أعضاؤها عندما كانت الأرض ترتج تحت أرجُل النظام المُنهار.

·    سُقوط أوّلُ قتيل بسبب العُنف السياسي  بمدينة تطاوين، وهي عمليّة كادت أن تتكرّر  في مدينة جربة عندما عقد حزب نداء تونس اجتماعا عاما بأحد النزل.

·    استعمال العُنف المُبالغُ فيه من قبل الأجهزة الأمنيّة تُجاه التحركات الشعبيّة بمدينة سليانة، ورشّها السكّان رشّا ألحق التلف بأعيُن الكثير من شُبّان المنطقة.

   كلّ هذه الأحداث أحلّت الاختلاف محلّ التوافُق في صُلب الترويكا ذاتها،  وبين رئاسات ثلاثة تشتّت جُهدها بين الفعل وردّ الفعل.

     لكن كيف كان تصرّف المسؤولين النّهضويين منهم تحديدا ، والذين يُشكّلون أغلبيّة التفت على كلّ مفاصل الدولة وتحكّمت في وزارات السيادة، إزاء ما كان يدك البلاد ويُهدد بإسقاطها في ظُلُمات الفتنة؟

   أشكال ثلاثة ميّزت تصرّف حزب حركة النهضة ووُزراءه في الحكومة المُؤقّتة، يتمثّلُ الشّكل الأوّلُ في تكذيب الأطراف " العدوّة " واتّهامها ب " الاصطياد في المياه العكرة "، وب "تعطيل سير الحُكومة بوضع العصا في العجلة "، وهذه العبارة الأخيرة أصبحت من كثرة استعمالها ممجوجة ومُثيرة للسّخرية، لأنّ كثيرا من التونسيّين لا يرون للعجلة أثرا حتّى توضع فيها عصا تُعطّلُ تقدمها.
أمّا الشكل الثاني فيتمثّلُ في التّهوين من خُطُورة ما يحدُث، واعتباره حركات ارتدادية طبيعيّة ومُنتظرة بعد ثورة أسقطت نظاما تحكّم في البلاد والعباد لأكثر من عقدين.
ويتمثّلُ الشكلُ الثالث في الإقرار بأنّ ما حصل خطير ويستوجب بعث لجنة تُحقّق في الأحداث، ويترأسها عضو من حزب حركة النّهضة( سعيا إلى ضمان الموضوعيّة !).

   غير أنّنا لم نلمُس نتائج تُذكر لعديد اللجان  التي تأسّست،  مثل لجنة البحث في اعتداءات 9 أفريل 2012 ضد من أراد يومها تكريم شهداء الوطن الذين طالبوا ببرلمان تونسي سنة 1938.

   المُلفت حقّا أنّ  كلّما جدت أعمال عُنف من قبل السلفيّين المُتشددين والمُتماهين مع أطروحات حزب حركة النّهضة، إلاّ ورأيت زعيم الحركة يُسرعُ إلى تقديم تبريرات قليلا ما أقنعت المُلاحظين مثل :
 " مُمارسة الحقّ في حريّة التعبير الذي وهبتهُ الثورة للتّونسيّين " من قبل من " يُذكرونه بشبابه "، وأنّهم " ضمير الثورة الحيّ " و " لا سبيل إلى التخلّي عنهم بحل روابط الدفاع عن الثورة "... إلى أن انتهى الأمر بالعبث بالمصالح العليا للدولة بمُهاجمة سفارة الولايات المُتحدة الأمريكيّة عشيّة 14 سبتمبر 2012، والاعتداء على المقر المركزي للإتّحاد العام التونسي للشّغل عشيّة 4 ديسمبر وتعنيف الشغالين ببطحاء محمد علي في سابقة لم يشهدها الإتحاد منذ تأسيسه حتّى عندما توتّرت علاقته بالنظام البورقيبي في مُناسبتين، 1978 و 1984.

   هذا يعني أن حزب حركة النّهضة قد تغوّل بعد السيطرة على دواليب الدولة، وأصبح يُهدد تماسُك حُكومة ثلاثيّة الركائز، هي قليلة التماسُك أصلا مُنذ تأسيسها، لأسباب موضوعيّة تتعلّقُ بالتبايُنات الفكريّة بين مُكوّناتها، وأنّ باروناته  أصبحُوا لا  ينتصرون لغير حزبهم ومُنخرطيهم، مهما كانت أخطاؤُهم، رغم تحمّلهم لمسؤوليّات وطنيّة، ممّا يُفسّر فشلهم في مُعالجة ما يجدّ من أحداث، وتصرّفهُم تصرّفا مُنحازا إزاء قضايا ذات بُعد وطنيّ، كانت آخرتُها شُبهة الاتهام بالفساد المالي التي وجّهتها المُدوّنة ألفة الرياحي ضد وزير خارجيّة الترويكا، والذي انتصب زعيمُ الحركة ذاتُه،  في خُطبة الجُمُعة ليُكيل لها الاتهام بالقذف، ويحكُمُ عليها بالجلد قبل أن تنظُر العدالة في القضيّة، فيكون بذلك قد انتصر لصهره ولوزير من حزبه، وأوغل في التعصّب لهُ، تعصّبا يُغشي الأبصار والبصائر عن رُؤية الحق، ويُقحمُ ثوابت الدين في مُعترك السياسة الحزبيّة، إقحاما يُؤذنُ بالفُرقة والتشرذم، ويُخفي تكالُبا على المناصب الزعامتيّة، وتدافُعا للتمسّك بكراسي البُروز الأجوف، وإتيان كلّ وسيلة للوُصول إلى الهدف، كما عبّر عن ذلك الأستاذ بدري المداني.

3 ) تآكُلُ رأسُ ما الثقة بين الحُكُومة والشّعب

   لم تعش حركة النّهضة منذ مسكها بزمام الحُكم،  وضعا أسوأ من الوضع الذي تعيشُهُ هذه الأيّام، ونحنُ نحتفل بالذكرى الثانية لثورة ديسمبر- جانفي، والذي يبدُو أنّهُ بلغ ذروة السّوء بعد أحداث مدينة سليانة وإطلاق قوات الأمن الرشّ  على المُتظاهرين  بكلّ حزم وّبتفاني،  تنفيذا لأوامر أتت بسُرعة، فيما تعجز ذات القوات على التصدّي للمتعجرفين وللجاهلين الذين أعمى بصائرهم التمسّك بأطروحات وبقراءات لا يكمن  إلاّ أن تؤدي بنا إلى الخروج من سياق التاريخ الذي نعيشُ، قبل أن يهاجموا  في جُنح الظلام و بشراسة الجُبناء، مقامات و مزارات  أولياء اللّه،  الذين  وبغضّ النظر عن تعلّق العوام بها وتمسّحهم على عتباتها وعلى  ما تحويه من أضرحة، وهو ما لا يمكنني قبولُه، إلاّ أنّها تُمثّل جانبا من التراث الروحي، وجُزءا من موروثنا الثقافي، الذي يُعتبر المسُّ به اعتداء سافر على مُكوّن قاعديّ من مُكوّنات الشخصيّة التّونُسيّة بكلّ أبعادها، هذا من ناحية.

   ومن ناحية أخرى فإنّ العلاقة بين أهمّ مُكوّن سياسي للترويكا وبقيّة مُكوّنات المشهد السياسي في البلاد اليوم، ما انفكّت تتدهور، ممّا أوجد خُصوم النهضة في حالة صُعود مُستمر خاصّة حزب نداء تونس الذي تأسّس منذ جوان 2012، والذي بات مُنافسا جديّا للنهضة حسب أخر عمليّات سبر للآراء، وها هو اليوم يُؤسّس بمعيّة أربعة أحزاب أخرى " الإتحاد العام من أجل تونس"، بعد أن كان حزب حركة النّهضة في شتاء 2012 يُهيمن على المشهد السياسي بمُشاركة خفيفة الوزن من حزبي التكتّل والمُؤتمر، ويتغنّى بمُساندة أغلب الشعب لهُ. إلاّ أنّ هذا التغنّي بدأ يخفُتُ صوتُه، ويأفلُ بريقُهُ، تحت وطأة المطبّات التي أدخل فيها البلاد، بسبب نّقص الكفاءة  الفاضح لوُزرائه عند  التعاطي مع قضايا الشّأن العام، والذي أكّدتهُ أحداثُ مدينة سليانة والعُمران ومنزل بوزيّان وقفصة وتطاوين وقابس ودوار هيشر والكاف والقصرين وسيدي بوزيد من قبل، إلى حد بدأ معه التحالف الترويكي قابلا للتفكك الذي يعكسُه موقفُ التكتّل من غزوة مقر الإتحاد العام التونسي للشغل فيما كان يُحي  الشغّالون الذكرى الستّين لاغتيال الشهيد فرحات حشّاد.

   وفي الحقيقة لئن استفاد شركاء حزب حركة النهضة من المُشاركة في الحُكم اعتمادا على سياسة المُحاصصة فيما يتعلّق بالمناصب الحكوميّة، أو ما يسمّيه المُعارضُون " اقتسام الغنائم "، فإنّه لا يبدُو أنّهم على استعداد لتقاسُم المخاطر مع النّهضة لرفضهم  المُغامرة بمُستقبلهم السياسي فيما يتعلّق بالصدام مع المُنظّمة الشغّيلة، مما أضفى على المشهد السياسي ضبابيّة جعلت قراءتهُ مُستعصية شيئا ما مُنذ مُطالبةُ رئيس الدولة بحُكومة محدودة الأطراف من ذوي الكفاءات العُليا، مُطالبة ليست سوى مُرادف لفشل حُكومة الترويكا في قيادة البلاد، في ظلّ تغيّر جليّ لميزان القُوى السياسيّة لفائدة " أعداء النّهضة "، رغم الحرص الشديد وغير المسبُوق بتمرير مشروع قانون تحصين الثورة الذي يرى الكثير أنّهُ لا يهدف إلاّ  لكسر شوكة الجبهة الأقوى في صفوف المُعارضين، جبهة حركة تونس التي أسّست
" الإتُحاد من أجل تونس ".

  الخاتمة

   يتبيّنُ إذا، وبعد مُرور سنتين من اندلاع الثورة التونسيّة، وسنة واحدة على تسلُم حزب حركة النهضة شؤون أغلب الوزارات،  أنّ مناخ الثقة والالتفاف حول هذا الحزب، الذي عقب انتخابات أكتوبر 2011، قد حلّ محلّه مناخ من الريبة والتوجّس من قُدرة النّهضويين على الوُصول بالبلاد إلى شاطئ السلامة،  ما لم تُرسم سياسة واضحة المعالم، ويتمّ التخلّي عن" النفاق و التلوّن السياسي"الذي يمارسُه زعيمهُ ، وعن ازدواجية الخطاب والمواقف تُجاه ما يجد من أحداث، وأن يُعالج الحزب من انفصام الشخصيّة و من البرانويا الذين لازماه، ويمُد أيديهُ إلى كلّ الشّركاء في هذا الوطن،  بحثا عن أيسر السّبُل وأقصرها للخُروج من حالة التأزّم والإحباط ، الذي وجد الكثير من التونسيين أنفُسهم غارقين فيه ، تملؤُهُم  قناعة بأنّهم  رُبّما لم يُحسنوا الاختيار يوم 23 أكتوبر من السنة قبل الماضية.


jeudi 3 janvier 2013

ماذا أضاف للحياة السّياسية توالُد الأحزاب في تونس ما بعد الثّورة؟



إحدى ابداعات "زاد" Z الفنان الكاريكاتوري التونسي  


   ثورة الياسمين، هكذا سمّاها البعض رغم اعتراض  الكثيرين  على هذه التّسمية، ألقت في ظلُمات التّاريخ، وفي  فترة زمنيّة وجيزة جدا،  لا تزيد عن الشّهر الواحد، نظاما طغى على البلاد والعباد، وفتحت للحُريّة بابا اجتهد النظامان السّابقين في إحكام إغلاقه، وأطلقت العنان لألسُن ألجمت عقودا طويلة فانبرت تتلذذ نسمات تحرر الحياة السياسيّة من الحواجز التي أعاقت سيرها الطّبيعي، وهو لعمري مكسب غنمهُ الشعب و لا يُقدرُه حقّ قدره إلاّ من حُرم منهُ، في انتظار مغانم أخرى قد تأتي وقد ... لا تأتي !!!
   ومن البديهي أن يهيئ التحرر إيّاهُ مناخا مُلائما لظُهور عشرات الأحزاب السياسيّة والمُنظّمات المدنيّة.

 وبالفعل فقد بلغ أو ربّما تجاوز عدد الأحزاب السياسيّة في البلاد اليوم مائة وخمسون حزبا، أي بمُعدّل حزب واحد بالنسبة لكلّ 700 مُواطن، هذا دون اعتبار غير المُتحزّبين من المُواطنين، ممّا قد يُرفّعُ من عدد المُواطنين لكلّ حزب سياسي بغضّ النظر عن اختلاف أحجامها واختلاف عدد المُنضوين تحت لواء كلّ واحد منها، وهو لعمري مُعدّل قل أن وُجد نظير له في العالم بشقّيه النّامي حديث العهد نسبيّا  بتحرر الحياة السياسيّة، والمُتقدم الذي راكم تجربة الممارسة السياسيّة التي زادها دفعا عصر الأنوار واندلاع الثورة الفرنسيّة في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، والتي قضت أو كادت على الأنظمة السياسيّة في شكلها التّقليدي، لتفسح المجال لظهور النظام الجمهوري الحديث.

   ولئن  يرى جانب من المُلاحظين أن ما رافق عمليّة تحرير السياسة في تونس،  ونزع عنها عقال الكبت والخوف، من توالُد لعشرات الأحزاب السياسيّة أمرا سلبيّا، لما قد يترتّب عنهُ من تشعّب للحياة السياسيّة، قد  يؤدّي إلى عُزُوف جانب هام من المُواطنين عن الإقبال على الانخراط فيها،  خاصة وأن المناخ السياسي قد غلب عليه التوتّرُ، والتراشُق بالتّهم،  والميلُ إلى العُنف اللّفظي وحتّى الفعلي، فإنّ الجانب المُقابل يرى في ذلك علامة صحّة جيّدة،  ودليل على نجاح الثورة في إحياء الإدراك والوعي السياسي للمُواطن،  وترغيبه في المُساهمة في الحراك السياسي،  وإبداء الرّأي فيه على أساس أنّه شأن عام.

   يبدو أن لكلّ من الطرفين في ذلك مُبرّراته التي يراها منطقيّة ومُقنعة ومُتضمّنة لقدر ليس بالهيّن من " الحقيقة ". إلاّ أن الرّأي عندي أنّهُ لا سبيل إلى الحدّ من الحريّة التي أنتجتها الثورة، لأنّنا سنكونُ بذلك من دُعاة الاعتماد على الأساليب القمعيّة،  التي لطالما ركبتها الأنظمة الغاصبة لحُقوق شُعوبها،  وفي مُقدمتها حُريّة التعبير عن الرأي المُخالف، وهو ما لا سبيل إليه بعد أن لفظ الشعب المنظومة القديمة لفظا لا رجعة فيه. إلاّ أن هذا الموقف المبدئي لدعم الحريّات بمُختلف أشكالها لا يعني ضرورة النظر بعين الرضا لتوالُد التّشكيلات الحزبيّة،  توالدا لا محدودا حتّى يُصبح من العسير على المُواطن أحيانا التفريق بين حزب وآخر،  لا على مُستوى الاسم فحسب بل كذلك على مُستوى البرامج وطُرُق العمل والمُخططات،  متوسّطة وطويلة المدى والأهداف العاجلة والآجلة. إنّنا نُلاحظ اليوم على الساحة السياسيّة تواجُد عدد من الأحزاب استنسخت برامجها و أسماءها من أسماء وبرامج بعض الأحزاب الأخرى، ولا أدلّ على ذلك من أنّ أسماء البعض منها مُشتقّ من ألفاظ العدل والتنمية والعدالة والنماء والنموّ...

   ولئن ساهمت هذه الأحزاب في وقت ما في تنشيط الحياة السياسيّة،  إلاّ أنّها ساهمت من جانب آخر في تشتيت المجهود السياسي،  وأدخلت على إدراك المُواطن ارتباكا دفع به أحيانا إلى مُقاطعة العمليّة الإنتخابيّة كليّا، وبالإضافة إلى ذلك فإنّها  تعيش أوضاعا مُضحكة – مُبكية لعجز بعض أمنائها العامين عن دفع معاليم كراء مقرّاتهم التي تفتقر إلى أبسط التّجهيزات، فضلا عن عجزهم عن تركيز هياكل تنظيميّة لأحزابهم تتضمّن لجانا منها لجنة الدعاية،  ولجنة الإعلام والاتصال،  ولجنة الدراسات الإستراتيجيّة التي تعنى برسم السياسة الإستشرافيّة والسّهر على تنفيذها،  ولجنة تعنى بتركيز المقرّات الفرعيّة في مختلف جهات البلاد، ولجنة النشر التي تُدير جريدة ناطقة باسم الحزب،  يعبّر فيها عن مواقفه من القضايا الأساسيّة والهامشيّة منها،  خاصة تلك التي استنفذت من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي وقتا ثمينا مثل قضايا الهويّة الوطنيّة، وتطبيق الشريعة من عدمه، ومكانة المرأة في المُجتمع، وختان البنات الذي روّجه بعض دُعاة السلفيّة الموغلة في الجهل بمقاصد الدين، وإلزاميّة ارتداء الحجاب أو النّقاب، والاختلاط في المُؤسّسات التربويّة وفي مراكز العمل وفي وسائل النقل وحتّى في مناطق الاصطياف، وإعادة الحياة للتعليم الزيتوني، والجدال الذي قام حول استقدام دعاة سلفيين مشارقة بثّوا أفكارا غريبة عن مُجتمعنا، وثقافتنا وتقاليد هذه البلاد، بالإضافة إلى القضايا الأساسيّة مثل البطالة، والفقر،  وتهميش الأقاليم الداخليّة ، وظاهرة الانحراف، وارتفاع نسبة الإجرام ونسبة الانتحار، بالارتماء في أحضان البحر أملا في الوُصول إلى ضفّة الأحلام،  أو بالدخول في إضراب جوع مُتوحّش أدّى إلى حد اليوم إلى وفاة شابين في مُقتبل العمُر .

   لقد أصبحت ظاهرة أو موضة تعدد الأحزاب،  تثير قرف المُواطن من السّياسة وتوشك أن تدفعه إلى اللاّمُبالاة التي رافقته زمن النظام المُنهار، لأنّه أصبح يعتبرها سببا من أسباب بلائه لما يصدرُ عن البعض من السياسويين من تكفير،  وسباب وتراشُق إعلامي،  لا يُمكن بأيّ حال من الأحوال أن يرتقي بدرجة الوعي لدى المُواطن، بل يُسقطنا في الابتذال السياسي ويبعدنا عن تحقيق أهداف الثّورة.

   إنّ السّؤال المطروح اليوم هو التالي: لماذا لا تتحّد الأحزاب التي تشترك في نفس المرجعيّات الفكريّة ولها نفسُ  البرامج وتتقاربُ في الأهداف  في جبهة مُوحّدة،  كما يحدث في صفوف الديمقراطيين والمُساندين لمطامح الطبقات الشعبيّة، و ما قد يُسفر عنه في  قادمُ الأيّام من اتحادات وتجمّعات وجبهات أخرى، فتنقسم الأنشطة السياسيّة بذلك إلى أربع تيارات أو عائلات سياسيّة كبرى وهي تيّار الإسلام السياسي ويضم النهضة والسلفيين بشقّيهم الدعوي والجهادي، ومن لفّ لفّهم،  والتيار الليبرالي الذين يّطلق عليهم أنصار الإسلام السياسي اسم " أزلام النظام السابق" والتيار اليساري، والتيار القومي.

   وهكذا تُصبحُ الحياة السياسيّة أكثر توازنا ممّا أسفرت عنه انتخابات 23 أكتوبر 2011، التي أفرزت  استئثار حزب حركة النّهضة بنسبة مُرتفعة من الأصوات،  لكن غير كافية لتحقيق الأغلبيّة،  فاضطرّت إلى التحالُف مع أحزاب ضعيفة تضمن لها  الحُصول على الأغلبيّة،  لكن  في المُقابل تفرض عليها اختياراتها إن كان الأمر يتعلّق بإصدار القوانين المُنظّمة للحياة العامّة،  أو بوضع دستور على مقاسها، نخشى أن يُتراجع فيه يوم تتغيّرُ موازين القوى السّياسيّة في البلاد.

   وهكذا تُخلّصُ الحياة السياسيّة من التشعّب،  ويُصبح المُواطن على إدراك أعمق بمُكوّنات المشهد السّياسي، وتتّضح الرّؤية لديه،  ولا نشهدُ تشتّت أصوات النّاخبين كما حدث خلال آخر انتخابات، أو ربّما عُزوف جانب منهم عن الإقبال على صناديق الاقتراع والتصويت لفائدة من يستأنسون بكلّ حريّة واقتناع،  وهو حقّ آخر إلى جانب حريّة التعبير، ضمنته لهم الثورة.