dimanche 4 mars 2012

دعوة الصّادق شورو إلى التقتيل والصّلب والتّقطيع والنّفي - الجزء الأخير


 III قضية الحسبة

في بداية الثمانينات أنجزت بحثا جامعيا لنيل شهادة الكفاءة في البحث تعرضت فيه إلى مسألة الحسبة في أسواق القيروان في القرن الثالث للهجرة / التاسع للميلاد، جاء فيه ما يلي:
" اعتمدت- أسواق القيروان- في تنظيماتها على أحكام السوق التي كانت تخضع لأصول الفقه الإسلامي. وقد كلف المحتسب بالسهر على إحترام هذه الأحكام وكانت مهمته على غاية من الدقة وهي توازي في التشريع الإسلامي كلمة" المصلحة العامة" في التشريع العصري، ذلك أن مفهوم الحسبة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإصلاح بين الناس"،  

كما يقول عبد الرحمان بن نصر الشيزري في كتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة، القاهرة 1946،صفحة 6،" أي أنه يشترط في المحتسب أن يكون فقيها، عالما بأحكام الشريعة ، ليعلم ما يأمر به وينهى عنه، كما يشترط فيه أن يكون عفيفا عن أموال الناس، متورعا عن قبول الهدية من المتعيشين وأرباب الصناعات، فإن ذلك رشوة ... لأن التعفف عن ذلك أصونُ لعرضه وأقومُ لهببته".

وكان سحنون قاضيا محتسبا بالقيروان، وباشر بنفسه الكثير مما تتطلبه وظيفة المحتسب، فأدب على الغش ونفى مرتكبيه، كما عين أمناء في البادية يكتب إليهم فيما يتعلق بشؤون جهاتهم.
أما المفكر محمد الطالبي فقد كتب في "عيال الله"، تونس 1992، صفحة 75- 76 ما يلي:

"إنّ الحسبة ككل الوظائف قد استُغلّت بصُور شتّى، تارة للخير وتارة للشرّ وتارة أخرى كوسيلة للارتقاء إلى الحكم وممارسة النّفوذ... فهي (الحسبة) قد وقع إذا تصنيفها واستغلالُها وتوظيفُها في التاريخ بطرُق شتّى تجعلها تارة عامل خير، وأطوارا وسيلة من وسائل القهر والضغط أو الارتقاء إلى السلطة... وعندما انتهت الوظيفة لا أعتقد أنّه وقع شغور في الفضاء السياسي، أو أنّه ليس هناك من يهتمّ بالأخلاق، فكلّ القوانين في الكون تهتم بالمحافظة على قدر أدنى من صلات مستقيمة بين المواطنين بإسناد الصلاحيّات إلى المصالح  المختصّة، مثل الشرطة والعدالة ... إذا الحسبة إنّما هي دولاب من دواليب الدّولة قد يأخذ أشكالا وأساليب مختلفة حسب الزمان والمكان والضّرورة."

إنّ القلق الذي يساورني نابع من دعوة الشقّ المتشدد من حزب حركة النهضة إلى إعادة إحياء منظومات استغلت في غير ما وُضعت له، من قبل الأنظمة الإسلاميّة المتعاقبة التي راكمت السلبيّات أكثر من مراكمتها الإيجابيّات ممّا دفع القيادات السياسيّة في بلادنا إلى التخلّي عن التنظيمات القديمة، وذلك منذ الاستقلال، وتبنّي تنظيمات أثبت التعامل بمُقتضاها نجاعتها الوظيفيّة، وهي تقريبا التنظيمات التي دعا إلى اعتمادها مصلحو القرن التاسع عشر في تونس، في مقدمتهم خير الدين باشا التونسي، الذي وضع شرط عدم تضارب تلك التنظيمات مع الشريعة الإسلاميّة شرطا لايمكن تجاوزه وأكّد على ذلك في كتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك.

إن دعوة القيادي النهضوي الصادق شورو إلى تطبيق الشريعة، وتركيز أجهزة موازية لأجهزة الدولة الرسميّة، تكون هيئة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من أهمّ مكوّناتها، وهي الهيئة التي يسعى النّهضويّون اليوم إلى بعثها للوجود، والتي بدأ نشاطها يلفت الانتباه، بتصدّيها لقرار تعيين المدير الجديدة لإذاعة الزيتونة،الدكتورة إقبال الغربي، إنّما هي دعوة لإعادة إنتاج ممارسات تاريخيّة خلنا أنّ الزمن قد تجاوزها.



وما يثيرني أن الصادق شورو استشهد في المجلس الوطني التّأسيسي بآيات قرآنيّة أُخرجت من سياقها، تدعو إلى التقتيل والصّلب والتقطيع والنّفي، كما أشار إلى ذلك الشاعر منصف الوهايبي في مقال بيوميّة "المغرب"، حول السياق الذي نزلت فيه الآية وهو التالي:
جاء في صحيح مسلم في باب حكم المحاربين المرتدّين :

حدثنا يحي بن يحي التميمي وأبو بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن هشيم، واللّفظ ليحي،قال أخبرنا هشيم عن عبد العزيز بن صهيب وحميد عن أنس بن مالك أنّ أناسا من عرينة (قبيلة) قد مرّا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم المدينة فاجتووها (لم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم، وهو مشتق من الجوى: داء في الجوف) فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم : إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها .ففعلوا فصحّوا ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام وساقوا ذود (إبل) رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلّم فبعث في أثرهم.فأُوتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمّل أعيُنهُم فقأها وأذهب ما فيها° وتركهم في الحُرّة حتّى ماتوا.

وتحدث القرطبي عن ذات السياق، وكذلك الشيخ الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير وقدّم تفسيرا للسياق نزلت فيه الآية الخامسة من سورة المائدة يوافق تفسير البخاري الذي ورد في صحيحه، طبعة دار الجيل، بيروت2005، صفحة 908، فيما يتعلّق بالحديث عدد 4610، من كتاب التفسير، سورة المائدة.

إنّ الآية التي استدل بها الصادق شورو هي نموذج لخروج الآيات في أحيان كثيرة عن سياقها الذي أُنزلت فيه، وبترها عن من بقيّة الآيات المُتّصلة بها والمُتمّمة للمقاصد التي أراد اللّه تبليغها للأمّة، فتتحوّلُ بذلك من كلام أوحى به اللّه إلى رسوله الأكرم في سياق معيّن ولأسباب نزول معلومة، لتُصبح أداة توظّفُ لغايات شخصيّة. وهل يوجد من بيننا من لا يعرف مثال " ويل للمصلّين "؟
إنّ أغلب الذين يستنجدون في أحاديثهم مع الآخرين بآيات قرآنيّة يدعمون بها مواقفهم، إنّما يعبّرون في الحقيقة ، من خلال كلام اللّه، عن مواقفهم هم، وعن آرائهم، وعن مبادئهم التي يؤمنون بها، وما كلام اللّه الذي يستشهدون به إلاّ آلة وُظّفت لإكساء مواقفهم غطاء إيمانيّا للتأثير على من يخاطبون.
هنا يستحضرني حوار دار بين شخصين، أحدهما لا يتوقّف عن مقارعة الخمر سرّا وعلانيّة، والآخر ملتزم بتعاليم الدّين، لا يدخّن ولا يتناول المسكرات قناعة منه بأنّها " رجس من أعمال الشيطان "، نهاه ربّه عن الاقتراب منها.
خاطب الثاني صاحبه يوما فقال له:
- ألم يحن الوقت بعدُ لتُقلع عن هذا الصنيع المُشين الذي لازمك سنينا طويلة؟
أجاب الأوّل:
- وما الضّرر في ذلك؟
- فأردف الثاني :
- ألا تخشى عقاب اللّه؟
فأجابه الأوّل بقوله:
- إنّ اللّه غفور رحيم.
فأتم الثاني الآية وقال:
- شديد العقاب، ولم يتمكّن من إتمام الآية لأنّ الأوّل أسرع قائلا:
- إنّه شديد العقاب، هذا صحيح، لكن على الكافرين، وأنا لم أكفر يوما باللّه، ولا برسله ولا بكتبه وملائكته وقضائه وقدره واليوم الآخر، فأنا يا أخي مسلم وابن مسلم وأشهد أن لا إلاه إلاّ اللّه وأن محمدا عبده ورسوله وهو خاتم الأنبياء والرّسل، وهذه الشهادة لا تفارق شفتيّ في صحوتي. واعلم أنيّ لم أحتس يوما " المعصية " قبل أن أكون قد بسملتُ!!!
بقى الثاني مشدوها متعجّبا من هذا الذي يجد تبريرا لصنيعه اعتمادا على مقتطفات من آيات قرآنيّة أخرجها من سياقها الذي فيه أنزلت.

كذلك الشّأن بالنسبة للآية التي استشهد بها الصادق شورو، والتي نزلت فيمن إرتد عن الإسلام ، بينما الذين يعنيهم هم أولئك الذين قطعوا الطرق ونظّموا الإعنصامات وعطّلوا جهاز الإنتاج الاقتصادي. إنّهم ليسوا من المرتدّين في شيء، بل غاية ما في الأمر أنّهم طالبوا بالتشغيل الذي وعدهم به حزب حركة النهضة في برنامجه ذي النقاط ال 365 !!!
إنهم يعارضون جماعة النهضة ويختلفون معهم في  مقاربتهم لمعالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتي لم يشرعوا فيها ، وقد تولوا  حكم البلاد منذ حوالي شهرين!!!
إن هذا الاختلاف لا يمكن أن يفضي إلى خلاف يحتم التقتيل والصّلب والتّقطيع والنّفي. بل لا بد أن يكون الاختلاف في رأيي حافزا على مزيد تعميق وتوضيح الرؤية والاجتهاد أكثر للبحث عن الحلول الناجعة للإشكالات المطروحة. إنّ الاختلاف يضعنا في موقع المُستفزّ لغاية لإرباكنا، لذا علينا أن نكون أكثر تركيزا وأكثر عقلانيّة وتبصّرا، لا أن نسبح في ظلمات حدودها مسلّمات وأفكار منغلقة ترفض النّقد والجدال والحوار، ولا ترى كحقيقة غير الحقيقة المتشبّثة بها .

علينا كمؤمنين، قبلنا أن نحمل رسالة اللّه، أن نكون متيقّظي الفكر لنتحسّس كل التيارات الخفيّة، ولنستوعب بفكرنا الكون بكلّ تشعّباته وبكلّ التيّارات التي تحرّكه، فكريّة واقتصادية ونفسية وثقافيّة ونفسانيّة، وبكلّ تحوّلاته.
ليس على المسلم أن يتكلّم باسم الإسلام، أو أن ينسب لنفسه ضمنيّا العصمة، ويعتبر نفسه القادر الوحيد على الفهم الحقّ، وأنّ غيره مهما كان فهو على خطأ.

لقد روي عن الإمام مالك قوله وهو يشير إلى قبر سيّد الأنام:" كلّكم على خطأ إلاّ صاحب هذا القبر"! يا له من قول بليغ يرمز إلى التواضع وإلى احتمال أن يكون المؤمن مجانبا للصواب، لذا عليه ألاّ يدعي امتلاك الحقيقة، إنّه قول يعكس تماما  قول الّه:" ما أوتيت من العلم إلاّ قليلا".
إنّه لا متكلّم باسم اللّه غير اللّه تعالى الذي بلّغ كلامه لمحمد وحيا بواسطة الملائكة جبرائيل، لذا ليس لأيّ مخلوق أن ينصّب نفسه مكان اللّه، و أن يصادر الإسلام فيسقط بذلك في الشرك باللّه، والشرك أكبر الكبائر.
وليس من المنطق ولا من الموضوعيّة في شيء أن يتعامل المرء مع النصّ القرآني بانغلاق، وأن يرى نفسه امتدادا لمنظومة فكريّة موروثة وُلدت من رحم رؤية خاصّة بين القرنين الثالث والرابع للهجرة، وبقيت متحجّرة ومتكلّسة رافضة للحراك التاريخي.
ولئن يرى من تمسّك بتلك المنظومة أنّهم على حقّ، فإنّه ليس من حقّهم أن يرفضوا طريقة تعامل غيرهم مع النصّ القرآني وأن يكفّروهم ويجرّمُوهم ويطالبوا بإقامة الحد في شأنهم، قتلا وصلبا وقطعا ونفيا. بل عليهم أن يسلّموا بحريّة الآخر وبحقّه في التمسّك بالديمقراطيّة، التي إذا نظرنا لها بفكر منفتح لوجدنا أنها ليست سوى الشورى التي ينادي بها السلفيّون، لكن شورى متأقلمة مع مقتضيات الزمان والمكان كما يقول الأستاذ محمد الطالبي.

إنّ الإنسان الذي قبل ما لم تقبله السماوات والأرض والجبال، و" أشفقن منه "، وهو حمل الأمانة، وتقبّل الوظيفة التي كلّفه بها اللّه، قبلها عن طواعية، برغبة نابعة من اختيار حرّ، هو تكريس للحريّة الذاتية، وكان باستطاعته الرّفض، والرفض أيضا اختيار حرّ، لعلّه أراد أن يعطي لحياته معنى وأن يجعلها جديرة بأن تحيى، وذلك  بأن حدد لها هدفا نبيلا. وهل للحياة لذة ومعنى بدون هدف نبيل؟؟؟
ولعلّ هنا تكمن في رأيي الإجابة على ذلك السؤال الحارق،  والذي سيبقى مطروحا إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وهو هل أنّ الإنسان مسيّر أو مخيّر؟
إنّ الإنسان جدير بان يمارس حريّته في شتّى المجالات، و أن تحترم ممارسته تلك، وألاّ تُملى عليه اختيارات لا تفصل بين الديني والزمني، لأنّه ثبت تاريخيّا أنّه كلّما اقترن الدّين بالسياسة إلاّ وأصبح الخطر يطرق الأبواب ويهدد الأمن والطمأنينة بانتصاب " محاكم التفتيش ".
هذا ما نستنتجه من تصفّحنا لدفاتر تاريخ الإنسانيّة، منذ العهد الفرعوني وصولا إلى حرب الاسترجاع والحروب التي من بعدها. وليست حرب " التحالف الديمقراطي " ضد العراق، والتي قادتها الولايات المتحدة الأمريكيّة، آخر تلك الحروب، تلك الحرب التي سمّاها  الرئيس الأمريكي بوش الصغير، " حربا صليبيّة " قبل أن يعلن البيت ألبيض أنه أُسيء فهم العبارة!!!
إنّ الملفت أن المخاض الذي تعيشه بلادنا اليوم، أعسر ممّا كنّا نتوقّع، وأكثر تشعّبا ممّا كان يجول بخاطر أكثرنا تشاؤما بسبب ما عرفته الأحداث من إنزلاقات وما ميّز مردود الحكومة من عجز عن اتخاذ المبادرات الحاسمة لافتقاد أعضائها للخبرة والكفاءة السياسيّة، ممّا ولّد تخوّف الكثيرين على مصير الثورة. وتبقى أكثر الإنزلاقات خطورة إلى حد الآن التدخّل المفاجئ الذي ورد على لسان أحد قيادي حركة النّهضة، الصادق شورو!!!