samedi 26 novembre 2011

ماذا بعد انعقاد المجلس التأسيسي؟


  عاشت البلاد التونسية يوم 22 نوفمبر 2011 يوما تاريخيّا بانعقاد أوّل جلسة للمجلس الوطني التأسيسي الذي انتخب الشعب أعضاءه في 23 أكتوبر من نفس السنة، وأوكل إليهم مهمّة وضع دستور جديد للجمهوريّة التونسيّة الثانية، يكرس المبادئ التي من أجلها ثار كل التونسيين بداية من 17 ديسمبر من العام السابق، وحتّى قبل ذلك التاريخ إذا ما اعتبرنا أحداث الحوض المنجمي بالمتلوي سنة 2008، والتي أغرقها النظام القديم في بحر العنف والقتل بتواطىء لا إراديّ من قبل إعلام مكتومة أصواته ومغلولة أيديه ومكره على إنتاج ما لم يكن عليه راضيا من أجل ألاّ يجوع صغار المشتغلين فيه، والتي كانت القادح لثورة شعبيّة انتهت بالإطاحة برمز إمبراطوريّة الاستبداد يوم 14 جانفي 2011.



  واليوم وقد زال من الطريق نظام دكتاتوري أُسّسَ على الجهل وعلى السير خارج تيَّار التاريخ، متحدّيا الراهنَ ومستوجباته، وخطونا الخطوات الأولى على درب بناء نظام ديمقراطي نابع من إرادة جماعيّة منبثقة من موجة الغضب العارم الذي انخرطت فيه مختلف الفئات الشعبيّة، التي ضاقت ضرعا بتسلّط واستبداديّة الجهلة، وفتحت بابا تسرّبت منه أشعّة ما إتُفق على تسميته ب"الربيع العربي"، الذي وُلد هلاله في ربوعنا، وخطا خطواته الأولى في أرض الكنانة، وانتصب على رجليه في ليبيا، ويتوثّب للقفز في اليمن وسوريا، فإنّ مشاريع الديمقراطيّات العربيّة الفتيّة تواجه في اعتقادي تحديين خارجيين يستوجب الوضع الراهن الوقوف في سبيليهما وهما:

  • تحدي أوّل مأتاه الغرب اللّيبيبرالي الرافع ظاهريّا رايات "حقوق الإنسان" والمنتشي بأهازيج الديمقراطيّة والسّاعي إلى ترويجها في كل الربوع التي تنعدم فيها، علما وأنّه هو من نسج منذ القرن الثامن عشر منظومة استغلال الشعوب المستضعفة والتآمر على أمنها، وهو المصاب بداء عمى الألوان فلا يرى غير ديمومة مصالح لا يضمنها غير إغراق الشعوب "النامية" في المزيد من الجهل والتخلّف والجوع والتبعيّة، ومساندة الدكتاتوريّات التي تحكمها بقدر ما تبديه من استعداد للدفاع عن تلك المصالح.

  • أمّا التحدي الثاني فهو مشرقيّ الهوى، موغل في "القدم" وفي الماضويّة، يعيش على وقع اللاّتاريخ، و لا زال يتوارث فيه حكم الرقاب بعض البطون القبليّة، منذ ثلاثينات القرن الماضي بالنسبة للبعض، أفرزها تحالف السياسي مع الديني وتقاسمهما الوظائف القياديّة، و يسعى إلى تطويع الديمقراطيّات الفتيّة بسلطان أموال النفط الطائلة التي لم يُحسن استثمارها بعقلانيّة، تطويعها على ضوء قراءاتها الخاصّة لمسار التاريخ، رغم أن المسار والحتميّة التاريخيّة الحق إنّما هي الحتميّة الحداثيّة التي لا تدير ظهرها للماضي وتتنكّر له، بل تستفيد من إيجابيّاته لتنطلق فاتحة دروبا جديدة تخلّصها من البقاء سجينة الماضي.

مشرق لا يزال يعتبر نصف مجتمعه عورة كلّه، ولا سبيل إلى أن يسير الرجل الفحل في دروبه جنبا إلى جنب مع زوجه لأنّ في ذلك انتهاك للرجولة واستنقاص للمكانة الاجتماعية.

مشرق لا يزال تدريس العلوم العقليّة فيه كالفلسفة والتاريخ تحتل مراتب ثانويّة ضمن المقرّرات التعليميّة الرسميّة!

مشرق تُحوَّرَ فيه بنود الدساتير(إن وُجدَت) لتتطابق مع مواصفات وليّ العهد في نظام لم يكن غير العرب قادرا على ابتكاره وهو نظام "الجمهوريّة الوراثيّة"!!!

مشرق لا بالمعنى الجغرافي هذه المرة، يلثم فيه ظاهر يد "أمير المؤمنين" فيتظاهر بسحبها (اليد) في تواضع متصنّع، مقرف، يؤذي إنسانيّة الإنسان، ويلحق بها إهانة الاستعباد الذي صدرت الأوامر بمنعه في بلادنا منذ سنة 1846، في عهد المشير الأوّل أحمد باشا باي.

مشرق دمج الديني في السياسي ويسعى إلى فرض رؤيته على الديمقراطيّات الفتيّة بتواطىء وموافقة من تيّارات سياسيّة محليّة، قبل الانتخابات وبعدها، وهنا مكمن الخطر.

  إن بلدا نجح في وضع حد لتسانامي الجشع الجارف، وجفّف منابع التعطّش إلى ممارسة السلطة والالتذاذ بتملّك رقاب النّاس، وأزاح نظاما تموقع خارج المجال العقلي، ليس مسموحا لأبنائه اليوم الانسياق وراء خطاب عاطفي من خارج حدود ثنائيّة العقل والمنطق،  وهما مفهومان متلازمين لا ينفصمان.

ليس متاحا لنا اليوم في ظلّ خلط السياسي بالديني، وتغليف الديني بعباءة سياسيّة، دمج المبحثين، لأنّ لكلّ منهما مستوجباته الهيكليّة والظرفيّة المانعة لتلازمهما.
  لذا وجب علينا اليوم عدم الانسياق وراء الخطابات العواطفيّة، بل علينا توظيف أداة العقل لاعتماد تمشي عقلاني نواجه به تحديات عويصة التناول، في مقدمتها التشغيل وتحريك دواليب الاقتصاد لتشتغل على نسق ما قبل الثورة في مرحلة أولى ثم تقوية ذلك النسق بما يضمن خلق المزيد من مراكز العمل لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لمواطنين ملّوا ما يعانونه يوميّا من ضغوطات الارتفاع المجنون للأسعار ارتفاعا لا حول ولا قوّة لهم عليه.

  ثم إنّ التموقع اليوم خارج المجال العقلاني والانشغال بما هو عواطفيّ واعتماد نمط تفكير رجعيّ، لا يأخذ في الاعتبار متغيّرات الرّاهن، إنّما هو خطأ جسيم لا يقدمنا بل يتركنا نراوح ذات المكان. وأماّ الانصهار في تقدّميّة قاطعة مع المميزات القاعديّة لشخصيّتنا الرّوحيّة، قد تسقطنا في التكلّس العاطفي والغلظة الرّوحيّة.

  ومهما يكن فإنّ مشغلنا الأساسي اليوم وأمّهات القضايا التي يجب أن ننكبّ على معالجتها إنّما هي قضيّة التشغيل والتنمية العادلة بين أقاليم البلاد وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون وبين الفئات الاجتماعية بقدر الممكن، لتحقيق أهداف ثورة ائتمننا الشهداء عليها. أمّا السجالات بين من أصاب ومن أخطأ ومن ناشد النظام القديم ومن عارضه، ومن كان الضحيّة ومن كان الجلاّد وهل تحوّل ضحيّة الأمس إلى جلاّد اليوم، ومن اليساري ومن هواه مع اليمين، ومن هو الرجعيّ السلفي ومن هو الكافر ... كلّ هذه السجالات ثانوية اليوم ...

  وما المطلوب وقد أنجزنا ثورة، وأزحنا نمط حكم لا أخاله سينتج مثيلا له في القريب المنظور على الأقلَّ، وأرسينا أوائل الهياكل لدواليب حكم مغايرا لما كان سائدا لأكثر من نصف قرن، واخترنا نمطا ديمقراطيّا قطع مع مفهوم الواحد والأوحد ووحيد زمانه، المطلوب هو العمل أوّلا والعمل ثانيا والعمل أخيرا انطلاقا من شعور وطنيّ عميق تجسّم مرّة أولى عندما هبّ التونسيّون غداة 14 جانفي لحماية أحيائهم السكنيّة من مرتزقة النظام المحتضر، وتجسم مرة أخرى يوم 23 أكتوبر ليعبّر عن رغبة شعب عزم على صنع مصيره فهبّ لانتخاب نوّابه في المجلس الوطني التّأسيسي.
هل أنّ المطلوب هذا عزيز علينا ؟؟؟

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire