تواجدت صبيحة الثالث والعشرين من شهر أكتوبر منذ السّاعة السادسة بمركز الانتخابات
مصحوبا برؤساء وأعضاء المكاتب الانتخابية بإحدى المدارس الابتدائية بضاحية
العوينة. وبعد معاينة المكاتب والتعرّف على الأعضاء والاطمئنان على سير الأعمال
التمهيديّة في مناخ من التوافق بين الأعضاء المكلّفين بتوفير أفضل الظروف لسير
العمليّة الانتخابية على أحسن وجه، حلّت الساعة السابعة صباحا فتوجّهت بمعيّة
ملازم من الجيش الوطني نحو باب المدرسة آمرا بفتحه و معانا عن بداية عملية الانتخاب.
في نفس الوقت ألقيت نظرة سريعة على على الشارع فلم أصدّق ما رأيت! طابور
طويل من المواطنين ، واقفين بكل ما في كلمة النّظام والإنظباط من معاني ، ينتظرون
الإذن لهم بالدخول إلى باحة المدرسة كأنّهم تلاميذ صغار في السنة الأولى يتلهّفون لاكتشاف
فضاء المدرسة وانطلاق السنة الدراسيّة. يا له من مشهد رائع قد لا يدرك معانيه غير
المربّين!!!
انتظمت الصفوف أمام القاعات تلقائيّا. فكنت ترى الشيخ والعجوز ومن تبدو
عليه ملامح التعب، والمرأة الحامل والمعوّق ، كلّ هؤلاء يقفون على رأس الطابور
بتوافق بين الجميع.
إنّه مشهد ينمّ عن تضامن التونسييّن وعن إيثارهم لذوي الحاجات منهم...
حبّهم لبعضهم البعض، ذلك الشعور النبيل الذي خلنا أنفسنا قد افتقدناه إلى الأبد.
كنت بين الفينة والأخرى أسترق النظر من خلال نافذة القاعة إلى الساحة
لأعاين ما يجري بها، فأرى جموعا من البشر يتزايد عددها بمرور السّاعات.
إنّه يوم عظيم في تاريخ تونس . الكلّ يأتي عن طواعيّة ... الكلّ ينتظر دوره للاقتراع بكلّ هدوء وبكلّ سلوك حضاريّ.
لم ألاحظ من السابعة صباحا إلى السابعة مساء ما من شأنه أن عكّر صفو
العمليّة الانتخابية. أقول هذا للتّاريخ، واللّه على ما أقول شهيد. لا أحد حاول
السطو على مكان غيره في الطابور، لا تدافع ولا تسابق... أنتفت اليوم أنانيّة
التونسي ... أختفي تضخّم الأنا فيه والذي كنّا نشاهده حتّى عند الصعود إلى حافلات
النقل العمومي... الصّفراء.
ما لفت انتباهي وجود وزيرين في الحكومة الانتقالية (لا أحبّ كلمة المؤقّتة) في
مركز الانتخابات، وزير الشباب والرياضة والطفولة ووزير الشؤون الدّينيّة، يقفان في
الطابور ينتظر كلّ منهما دوره مثل بقيّة الناخبين.
مشهد عاد بي إلى نهاية الستّينات، يوم كان وزير الخارجيّة وابن أوّل رئيس
لتونس المستقلّة ، رحمهما اللّه يقف في الطابور لاقتناء تذكرة الدخول لحفل موسيقيّ
في رحاب مسرح قرطاج الأثري... كنّا وقتها في سنوات الشباب الأولى نرقب العمليّة
بانبهار ونحاول إدراك ما كانت تبعث به إلينا من رسائل مشفرة مضمونها أن احترامك
للآخر يعكس احترامك لذاتك وأن لا خير في بلد لا يكون فيه النظام سائدا.
إنّها ذكريات جميلة وإن كانت بعيدة
في الزّمن . ذكريات الزمن الجميل كما يقول الفرنسيّون!!!
هكذا نريد أن تكون تونس...أكثر روعة وأكثر جمالا.
تواصلت عمليّة الاقتراع من السابعة صباحا إلى السّابعة مساء بدون انقطاع،
مع انخفاض طفيف لنسق الناخبين بداية من الساعة السادسة بعد الزّوال.
اتجهت صوب باب المدرسة يصحبني ذات الملازم من الجيش الوطني ، شاب يتّقد
حماسا وإنظباطا وعلى غاية من اللّطف، وضع نفسه وفرقة الضباط التي يقودها على ذمّة
رئيس المركز لتيسير عمله ولتأمين مستلزمات العمليّة الانتخابية، وأعلنت عن انتهاء
الوقت المخصص للانتخابات وأمرت بإغلاق باب المدرسة. وبذلك انتهت العمليّة بسلام.
لكن السّؤال الذي على كل ذي عقل أن يطرحه بعد كلّ عمليّة لتقويمها، هو ما
هي الاستنتاجات التي نخرج بها من العمليّة الانتخابية؟
- ظمأ التّونسييّن
للمشاركة في الشّأن السياسي ، تلك المشاركة التي صودرت منهم عقودا طويلة لتقتصر على
المطبّلين والمهلّلين ولحّاسي أحذية أسيادهم والمسبّحين باسم رئيس لم نفهم
إلى يوم النّاس هذا كيف ساقته " الأقدار" إلى أعلى المناصب
السياسيّة في الدّولة . عقود طويلة قامت فيها فئات من محترفي التزوير وسلب
الحريّات والضحك على الذقون بأدوار البطولة في أردئ مسرحيّة دراميّة عرفها
التاريخ السياسي التونسي منذ عهد الأمان في 1857، لا بل منذ دستور قرطاج
قرونا طويلة قبل ميلاد السيد المسيح، ذلك الدستور الذي أشاد به الفيلسوف
الإغريقي أرسطو.
- التجييش الذاتي
للمواطن L'auto-mobilisation du citoyen ، دليل على حرص ذلك المواطن على تبليغ رسالة يؤكّد من
خلالها على أنّه حاضر هنا ومن الآن فصاعدا لاختيار ممثّليه في مختلف المجالس ومراقبتهم ومتابعة مردودهم.
- خشية المواطن من الالتفاف
على ثورة أضرم نيرانها أبناؤه وقدّموا أجسادهم وقودا لها، خشيته من إفتكاكها
من قبل محترفي السياسة وبائعي الأوهام للشعب والساعين بكلّ ما أوتوا من جهد
ومن مساعدات محليّة و... أجنبيّة إلى
تحويل الثورة عن مسارها وعن مطالبها الأساسيّة :
الحريّة، الكرامة، العدالة، المساواة ...
- رغبة المواطن في
التمسّك بحقّه في المعارضة والإحنجاج الذين أطاحا بنظام متجبّر، وتمسّكه بما
يمليه عليه واجب المواطنة التي تحوّلت إلى سلطة خامسة!
هذه بعض الاستنتاجات التي أمكنني الخروج بها من العمليّة الانتخابية، وهي
لعمري استنتاجات تطمئنني على مستقبل بلد يصرّ مواطنوه، شبّانا وكهولا وشيوخا على
الإسهام في اختيار من سيتولّى شؤونهم السياسيّة ويسيّرها تحت رقابتهم، وفي كلمة
يصرّون على كتابة تاريخهم وتقرير مصيرهم وعدم تركه بين أيدي العابثين وأيدي ...
القدر الذي يراه البعض محتوما... ولا نراه كذلك.
ومهما كانت نتائج الانتخابات، ومهما كانت الأحزاب و التكتّلات أو القائمات
المستقلّة التي ستتقدم فيها عن غيرها،
فإنّ المؤكّد أنّ تونس الغد لن تشبه أبدا تونس الأمس في شيء!.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire