vendredi 2 décembre 2011

حفريّات في افرازات الانتخابات التونسيّة


محاولة تأليفيّة لما ينشر في الصحف التونسيّة بتصرف.
جريدة المغرب ليوم 1 ديسمبر 2011 نموذجا.

يقول الأستاذ بكليّة الآداب بالقيروان، محمد الهادي لفرحاني:" إنّ ثورة 14 جانفي أنتجت نوعان  من "الأجساد السياسيّة"، الأولى أجساد موجوعة ومسكونة بهموم الثورة، والثانية أجساد متلهّفة على مغانم الثورة، وتنعت الأولى بالفعّالة والثانية بالإرتكاسيّة".


جاءت نتائج الانتخابات لاختيار أعضاء المجلس الوطني التأسيسي عاكسة لرغبة ما يزيد عن نصف المسجّلين في القائمات الانتخابية، باعتبار أن من تبقى منهم لم يتحوّلوا إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، إما لعدم إيمانهم بجدوى العمليّة الانتخابية، أو لأميّتهم السياسيّة، أو لما لحقهم من إحباطات سابقة نتيجة العمليّات الانتخابية للعهدين المنقضيين، والتي طغى عليها التزييف، فكانت نتائجها المعروفة مسبقا أقرب إلى العمل التراجيدي- كوميدي منه إلى إلى العمليّة الانتخابية الحق، النزيهة والشفّافة والحرّة والديمقراطيّة، خاصة وأنّها كانت تنظّم من قبل مصالح وزارة الداخليّة التي كانت تكيّفها بحسب ما تتلقّاه من "تعليمات" صادرة عن مراكز النفوذ الفاعلة في الحياة السياسيّة.

ظهرت إذا النتائج إلاّ أنّها لم تكن تعبيرا للصورة الحقيقيّة لوضع البلاد، بل كانت تعبيرا عن رغبة من توجّه يومها إلى مراكز الاقتراع، وأفرزت صنفين من الناشطين السياسيين، صنف نجح في تجنيد أتباعه بكلّ الوسائل، من بينها الماديّة، وتمكّن من التّأثير في اختيارات النّاخبين، من أشباه الأميين سياسيّا، بمعسول الكلام وبالوعود برضا الربّ عنهم إذا ما صوّتوا لغير " المؤمنين باللّه"، فلاقت هذه الوعود هوى في أنفس من قضوا حياته يحلمون بمجانيّة خدمات المرافق العامّة التي أرهقتهم تكاليفها المرتفعة، وأفرغت جيوبهم الفارغة أصلا، فاستجابوا لنداء أشباح تطلّ عليهم برؤوسها المتآمرة من خلال شاشات قنوات "مستقلّة"، و نداء ممثلين لهم في الأقاليم النّائية التي أتعبتها معاناة التّهميش والتّمييز وضعف التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها، فراكمت البؤس والبطالة والرّوح الثوريّة منذ ما قبل القرن المنصرم، أقاليم إندفع فيها الدعاة الجدد يبسطون شباكهم في الجوامع والمساجد ووسائل الإعلام المسموعة والمرئيّة والإلكترونيّة، ينصّبون أنفسهم قيادات عليا وحكّاما باسم اللّه، وسلاطين وأمراء يفتون داخل الخيام المنصوبة على التخوم الجنوبي الشرقي للبلاد، قادمين من غياهب دهاليز التاريخ الوسيط ومن متاهات مختلفة ومفاسد شتّى، شوهوا تطلّعات وآمال الثورة ...

وبعد أن كنّا نحلم بالأفضل، والأنقى، والأعدل، والأبهى، والأقرب إلى إنسانيّة الإنسان، ونعدّ العدّة لكي نحلّق ونطير في أفق أرحب وسماء أصفى حسب تعبير النّاشط الحقوقي الصادق بن مهنّي، ها أننا غدونا نجرّ هلعنا وسيّء توقّعاتنا، ونحسب حساب الخسارة، ونهيئ أنفسنا للأسوأ والأعتم والأقصى تطرّفا ...

وبعد أن كنّا نعدو نحو آت رأيناه ورديّ اللون جميلا ، فيه مساواة وتآخ وأنغام عذبة وقدر روّضناه وإرادة إثبات للذات فعّلناها ... ها أنّنا نبحث عن بصيص نور ...

وبعد أن كنّا نتآخى شيبا وشبابا، ونتضامن دفاعا عن الثورة في أيّامها الأولى، ونتفيلق لنحمي حمى أحيائنا وقرانا ومدننا من فلول نظام لا يعرف للحياء سبيلا ...

وبعد أن كنّا تغني للعرب ولغير العرب أناشيد الثورة المضمخة بدماء الشهداء، ونردّد أهازيج لم تسمعها البشريّة من قبل، ولم تعشها الثورات بكلّ ألوان قوس قزح، الحمراء منها والبنفسجيّة والبرتقاليّة... ها أنّنا وقعنا في جبّ لا قاع له إلاّ القرون الخوالي كما يحلم بها مفتو هذا الزمان وفتوّاته الملتحين ذكورا والمنقبات إناثا ...

كيف لا وقد استأسد هؤلاء الذين أسكرهم فوزهم بأغلبيّة نسبيّة في الانتخابات، وأغراهم الجاه، وأغواهم حبّ النفوذ والسيطرة فتدافعوا يقتسمون المناصب السياديّة ويبشرون بإنتاج دكتاتوريّة تيوقراطيّة... وحوّلتهم المفاجأة بالنجاح إلى كابوس لكلّ متمسّك بالحريّة في أسمى معانيها الإنسانيّة، وإلى فاجعة لأمّهاتنا وبناتنا ونسائنا ولمستقبلنا، وفتحت لهم الثورة أبواب الأمل على مصراعيها، فاندفعوا يوصدون دوننا أبواب الأمل، ويفتعلون لشوارعنا المديدة، ولساحاتنا الفسيحة، ولدروبنا اللاّمتناهية، جدران عزل وحواجز مانعة لاختلاط الذكور والإناث من بنينا في محاريب العلم، وينادون بتدريس الأساتذة الرجال للطلبة الذكور، والأستاذات النساء للطالبات ....
وبعد أن أغرقونا بمعسول كلام عن الديمقراطيّة، وحق الاختلاف، والمحافظة على نمط العيش الذي تعوّدنا، والمجتمع المدني، وعدم المسّ من مكتسبات المرأة بل وعدوا بتعزيزها... ها هم يتحوّلون اليوم إلى من لا يؤمن بالاختلاف ، ويعدون من يؤجّج الكراهيّة والبغضاء بالحصول على تأشيرة لتأسيس حزب سياسيّ يشرعن سعيه إلى فصل القوى الفعّالة ولمَا لا سحبها نحوَها ...

ها هم أولئك الذين اختارهم أكثر من مليون ونصف المليون من الناخبين يزدادون صلفا وعنجهيّة وينفضحون كلّ يوم أزيد ...

ها هم يتنكّرون لما نادى به الشباب من شغل وحريّة وكرامة وطنيّة، وعدل وتنمية متوازنة بين الجهات...

إعتصام باردو 


ها هم يسعون إلى طرح مشاريع تنظّم أيّامنا الآتية، يتخلّون فيها عن إنسانيّة الإنسان، وينغمسون في هويّة ضيّقة مغلوط فهمها، وينقلبون على توقنا للحريّات كاملة، وميلنا لحبّنا لبعضنا، واحترامنا للآخر المختلف عنّا...

ها هم يصرّون على تشييد عرش خلافة سادسة بعد أن منّ اللّه عليهم بفتح كانوا يرونه بعيدا ويراه سبحانه قريبا، خلافة فيها من التسلّط والهيمنة والتفرّد المطلق الكثير ...

 فهل أنّ هدف الثورة التي لم يشارك فيها ملتح أو منقّبة أو صاحب فثاوي وقمصان، ولم يرفع من شارك فيها لواء تكفير أصحاب فكر نيّر حداثي، هل أنّ هذه الثورة تهدف إلى العودة القهقرى، العودة إلى عصر خلافة الغثّ فيها غالب على السمين، ولم تعمّر أكثر من بضع سنين، فضلا على أنّه لم يرد تنصيص لها لا في النصّ القرآني ولا في السنّة المحمّديّة؟.

إنّ من قام بالثورة شباب اضطهدوا فقرّروا في لحظة حسم الموقف لصالحهم، وقبلوا بشروط اللعبة عند التعرّض للغاز المسيل للدموع والضرب وحتّى"الكرطوش الحيّ "الذي أسقط مئات الشهداء...

أمّا الصنف الثاني الذي لم يغنم ما كان يحلم به من أصوات ناخبين تخوّل له قيادة المجتمع المدني الذي يتمنّى، فقد بقي يندب حظّه ويجلد ذاته لعجزه عن فهم " ما يريد الشعب "، بسبب تشتّت قائمات الديمقراطيين والتعدّد غير المفهوم والاعتباطي للقائمات المستقلّة، ممّا ساهم في خسائر مقاعد عديدة ...

واليوم يبدو أن اختيار توحّد القوى الديمقراطيّة الوسطيّة على أرضيّة جديدة أمر حتمي لبناء قوّة فعّالة، بديلة، جاهزة لقادم الأيّام، ولطمأنة قطاعات واسعة من الرّأي العام على مستقبل الحريّات والديمقراطيّة والتداول الفعلي على الحكم، ذلك الرأي العام الذي بات مشدودا إلى وسائل الإعلام، يتابع أداء الحكومة المرتقبة قبل أن تتشكّل، بعد أن تجاوز الدهشة التي انتابت جانبا منه من صعود طبقة سياسية جديدة، كانت بالأمس القريب مكتومة الأفواه، مقيّدة الأيدي، يقبع جانبا منها وراء قضبان الزنزانات الانفرادية الرطبة، بينما تخطى البعض الآخر الحدود لينعم بهجرة مريحة جدّا في عاصمة الضباب وعاصمة الأنوار وعواصم أخري ...

لا يوجد اليوم ما يبرّر تواصل تشتّت جهود الديمقراطيين من تيّارات إصلاحيّة وأخرى تنويريّة وثالثة تقدّميّة، بل أنّ الراهن يحتّم وجود قوّة موحّدة، حاضرة في كلّ أقاليم البلاد، في مدنها وأحيائها وقراها، وفي أوساط المهاجرين، منغرسة في الواقع، تخاطب المجتمع خطابا يتفاعل مع الفئات الشعبيّة من غير تخلّ عن فاعليّتها بدعوى النزول بالخطاب إلى مستوى العامة، و متجنّبة السقوط في فخاخ الإرتكاسيّة، حاملة دوما لحلم جديد متجدّد، ينخرط فيه النساء والرجال لزرع ثقافة جديدة، ثقافة الانتماء التنظيمي البديل الذي هو روح ما يسمّى "المجتمع المدني". 




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire