تسعى القوى الإمبرياليّة التي لم يضع استقلال
الشعوب المستعمرة منذُ القرن السابع عشر ، بالنسبة للبعض منها ، حدّا لأنانيّتها
وأطماعها في استغلال الشعوب المستضعفة ، وامتصاص دمائها، إلى تحقيق مشروع"
الشرق الأوسط الكبير"، الذي يمثّل
شمال إفريقيا أحد مكوّناته، وتجتهد أيما اجتهاد لدفع الحركات الإسلاميّة التي استقرت
رموزها بعواصمها منذ تسعينات القرن الماضي ، وتحديدا في مدن لندن وباريس، إلى
العودة إلى بلدانها وذلك لتحقيق ثلاث غايات على الأقلّ وهي:
- نشر مفهوم الإسلام السياسي المعتدل
الذي لديه استعداد للمحافظة على مصالح الغرب الّيبيرالي.
- التخلّص من الجماعات الإسلاميّة
المستقرّة بأوروبا والمتمتّعة بحقّ الّلجوء السياسي، خاصّة بعد أن أضحت مفاهيمها
للإسلام تخرج للشّارع الأوروبي وذلك بالصلاة في الطريق العام، وارتداء الحجاب في
المعاهد والمدارس، والنّقاب في الفضاءات العامّة ممّا دفع السلطة القضائيّة إلى استصدار
قانون يقضي بمنعه وفرض غرامات ماليّة على من يخالف ذلك القانون.
- إيقاف زحف الحركات الإسلاميّة المتطرّفة في البلدان الإسلاميّة المهددة للمصالح الاقتصادية الأوروبية بالأساس.
لكن يبرز
معطى جديد على المستوى العالمي كنتيجة للمكاسب التي حقّقها الجيش الأمريكي في
أفغانستان وباكستان على حساب "القاعدة"، والتي انتهت بقتل زعيم طالبان
أسامة بن لادن، عدوّ أمريكا رقم واحد، معطى يتمثّل في التّمهيد لعودة العديد من "العرب الأفغان"، ومن
رموز التيّارات السلفيّة إلى أوطانهم ومن بينها البلاد التونسيّة.
وإذا
ما تزامن ذلك مع معطى آخر يتمثّل في إفراغ السجون التونسيّة من "المتطرّفين"،
نتيجة إعلان العفو التشريعي العام كإحدى تداعيات ثورة 14 جانفي 2011، ذلك العفو
الذي استفاد منه من جملة المستفيدين، عناصر شاركت في عمليّة سليمان، تيسّر لنا فهم
هذا الإحتقان الذي أضحى يميّز الشارع التونسي، وتمكّننا من فكّ رموز هذا المسلسل
السّلفي الذي انطلقت أولى حلقاته بالاعتداء على رموز الثقافة في البلاد، أمثال
المخرجين السينمائيين النّوري بوزيد ونادية الفاني، مرورا بعمليّة الرّوحيّة
المسلّحة، ووصولا إلى عمليّة بئر على بن خليفة، التي كشفت نوايا السّلفيين في
إقامة إمارة إسلاميّة بالبلاد والتي أكّدها وزير الخارجيّة في الندوة الصحفيّة
التي عقدها يوم الاثنين 13 فيفري 2012، بعد أن أشارت الصحف إلى ذلك في الإبّان لكن
وقع تكذيب الخبر!!!
في هذا السياق المشحون توتّرا وتوجّسا، تتنزّل
زيارة الدّاعي إلى ختان البنات إلى الديار التونسيّة، ولعلّه قام بختان بناته
وأخواته وزوجته في بلده قبل أن يأتي إلينا ، أسوة بباستور الذي جرّب التلقيح ضد
داء الكلب على ابنه. أليس الأقربون أولى بالمعروف؟
هذا الفقيه الذي لم يجد الزمان بمثله، وهذا
الآتي بما لم تستطعه الأوائل، صاحب الآراء الثّاقبة و الفكر المنير في قضايا
الدنيا والدّين، النابغة والمصلح لأحوال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها،
المحاضر الفذ، المصري عضو جماعة الإخوان المسلمين، المسمّى وجدي غنيم، جاءنا
ليفقّهنا في الدّين، وهو الذي سبق أن حذّر المسلمين من التثاؤب لأنّ الشياطين
تتبوّل في أفواه المتثائبين!!! موتوا بغيضكم أيّتها الشياطين، إنّ المسلمين لن يتثاءبوا بعد
اليوم أبدا ليحرموكم لذّة التبوّل، هذا إن ثبت أنّ الشّياطين تتبوّل أصلا!!!
هذه الزيارة أثارت في داخلي
تساؤلات عدّة لم أجد لها بعد أجوبة تشفي غليلي منها:
- من سمح لهذا الداعية بالقدوم إلى تونس؟
- ما هي هذه
الجمعيّة التي يقال أنّها استقدمته ليلقّننا دروسا في الدعوة إلى الإسلام والأمر
بالمعروف؟ وما هي نوعيّة النشاط الذي تقوم به، وهل أن السلطات التي كانت قادرة على
أن تعدّ أنفاس التونسيين، على علم بذلك أم لا؟
- من سمح لهذا
الداعية باكتساح الفضاءات العموميّة والاجتماع بآلاف الشبان وإلقاء خطبه الجيّاشة؟
- من تكفّل بدفع
تكاليف زيارته وإقامته وتنقّلاته عبر المدن، من اقتطع تذاكر رحلته في وقت يشكو فيه
ربع الشعب التونسي من الفاقة حسب وزارة الشؤون الإجتماعيّة؟
- هل أنّ وزارة
الدّاخليّة استقالت عن منح التراخيص لهكذا اجتماعات؟ إن نعم فما هي المصالح التي
عوّضتها؟
- من سهر على
تنظيم الدعاية والإشهار للاجتماعات التي حضرها آلاف المتحجّبات المتجلببات في
عباءاتهنّ، وآلاف الملتحين المختومة
جباههم بطوابع ثلاثة سوداء اللّون تضفي على وجوههم كآبة قاتمة خرساء؟
- ما هو موقف
مفتي الديار التونسيّة أمام تحدّيات الرجل بأن يناظره العلماء إن كان في تونس رجال
علماء!؟
- أين هم
علماؤنا المعتدلون، وما هو موقفهم من هذه الظواهر الغريبة التي أصبحت تميّز
شوارعنا وتلوّن أنهجنا؟
- ثمّ كيف لهذا
الداعية أن يعلن بأعلى صوته، من أعلى منبر الجامع الكبير بعاصمة العبيديين،
المهديّة، بأنّه آن الأوان لتطبيق الشريعة في تونس، ولرفع راية "ربيع
الإسلام" في الديار التونسيّة؟
- ألا يعلم هذا
الرجل أن التونسيين أسسوا عاصمة بلاده؟
- ألم يعلم بعد
أن التونسيين أسسوا أزهر بلاده، وأنّ جامع عقبة كان يدرّس الفقه قبل أن تدرّس
العلوم الشرعيّة فيه ؟
- ألا يعلم هذا
الداعية، فريد زمانه أنّ الإسلام منغرس في هذه الربوع منذ 1383 سنة قمريّة و1262
سنة شمسيّة، وأنّ 90% من الأحكام التي تنظّم الحياة في بلادنا مستمدّة من الشريعة
الإسلاميّة؟
- ألم يسمع أو
يقرأ من قبل عن الأئمة سحنون والبهلول بن راشد والقاضي عياض، وهم من أبناء هذه
البلاد؟
- ألم يدرس كتب
عبد الرّحمان بن خلدون أصيل هذه الديار ومؤسّس علم العمران البشري الذي أصبح يسمّى
في الغرب علم الاجتماع؟
- ألم يرجع مرّة
واحدة على الأقلّ في حياته العلميّة إلى لسان العرب لابن منظور ليتحقّق من معنى
لفظ ما؟
- ألم يبلغ إلى
مسامعه أن صاحب لسان العرب من أقحاح التونسيين؟
- ألم يسمع
بالخضر حسين الذي ترأس جامع الأزهر، المنارة الدينيّة لوطنه الذي أطرد منه، والذي
أسس عاصمته القائد جوهر الصقلّي موفدا من قبل حاكم تونس الفاطميّة المعزّ لدين
اللّه ؟
- ألم يطّلع على
كتاب التحرير والتنوير للمفسّر الشيخ الطاهر بن عاشور؟
- ثمّ هل يجوز
لمن يجهل كلّ هذا أن يأتي إلى بلدي ليفقّه أهلي في دين آبائهم وأجدادهم، وأن يقسم
لنا بأغلظ الأيمان وبأعلى صوته بأنّ الإسلام قادم لا محالة؟
- هل له من الشّرعيّة العلميّة والفقهيّة ما يخوّل له إعطاءنا دروسا في الدّين، وبحضور من؟ أحد قادة حزب حركة النّهضة التي سلّمها الشعب مقاليد الحكم وأمنها على البلاد، وهو القيادي الحبيب اللّوز؟
إنّ من يجهل إسهامات
رجال من بيننا في إثراء المكتبة الدينيّة والاقتصادية والاجتماعية والعلميّة
العربيّة والعالميّة، لا يحقّ له تلقيننا دروسا فيما نحن سابقون فيه غيرنا من
أولئك الذين يدعون في العلم فلسفة.
إن هذا الخطيب
البارع والمتلاعب الماهر بالألفاظ والسّاعي إلى استعراض عضلاته الخطابيّة للتّأثير
على الحضور، ليس بوسعه التأثير في غير محدودي الثقافة الدينيّة والتّاريخيّة.
إنّ أغلب هؤلاء
الذين غصّت بهم قبّة المنزه ليسوا سوى ثمرة من ثمرات السياسة
"التبهيميّة" التي انتهجها النظام البائد، وسياسة التصحر الثقافي
والفكري والسياسي، وتمييع ذائقة التونسيين، تلك السياسة التي لا يمكن أن تولد
غيـــر
"الجهلوت و
البهموت" على حد تعبير الشيخ عبد الفتّاح مورو، وغير المتطرّفين من أنصاف
الأميين، النّاعقين مع كلّ ناعق والمائلين مع كلّ ريح، والفاقدين للفكر النقدي
الذي بدونه لا يتسنّي فصل الغثّ من السّمين.
خُيّل لي بعد استماعي مكرها
إلى مقتطف من خطبة هذا الدّاعية في مدينة المهديّة، أنّ بلادنا لم تعرف الإسلام
قبل قدومه إلينا، لذلك جاء ليبشّرنا بقدوم الإسلام لا محالة، ودفعني إلى التساؤل
عمّا كنت أومن به منذ ولادتي، وإلى من كنت أصلّي، ومن كنت أعبُد، وإلى أين كنت
أولّي وجهي؟
لا بل دفعني إلى
التّساؤل عن معتقدات آبائي وأجدادي وآباء وأجداد كلّ التونسيين؟ .فهل نحن في حاجة
إلى هذا الخطاب التّجييشي والشّعبوي في وقت يمسك بالحكم فيه رجال ينحدر أغلبهم من
صلب حركة دينيّة ذات خلفيّة ومرجعيّة إسلاميّة؟
ما هذا الخور؟ وإلى
متى سيتواصل هذا التسيّب والإنحلال؟
لقد تعمّق يقيني
بأنّ هذه الحكومة عاجزة تماما عن إتّخاذ أبسط المبادرات لإيقاف هذا الرّكض نحو
المجهول، لأنّها تخشى فقدان جزء من أنصارها ممثّلين في هؤلاء السلفيين. وأنّها
أعجز من أن تُقدم على ترشيد الخطاب الديني في بلد يرفض التطرّف والغلوّ، لكن أصبح
فيه الفضاء المسجدي حكرا على المتشددين، بعد أن كُنّا نمنّي النفس بأنّ الثورة
ستساهم في في خلق مناخ من الحريّة، وفي التخفيف من حدّة الغلوّ، وإبراز الإسلام في
أنصع صورة، صورة تعكس التحابب والتسامح والتآزر والتكافل الاجتماعي في زمن أصبح
يموت فيه مواطنون من جلدتنا من البرد القاسي لفقدانهم أبسط وسائل التدفئة.
إنّ الحقيقة
التي لا سبيل إلى نكرانها اليوم هو أن المد السلفي قد غزا الفضاء الديني بفضل ما أكتسبه
من إمكانيّات ماديّة وبشريّة، وما ركّزه في المساجد من مشايخ يتعاظم نفوذهم في
البلاد يوما بعد يوم، ويتطرّف خطابهم كلّ جمعة أكثر حتى أضحت أيّام الجمعة مناسبة
لغسل الأدمغة وحشوها بمفاهيم جديدة تجيّش الشباب وتهيجه، وتتنزّل في صلب الإيديولوجية
السلفيّة الوهابية القائمة على فهم عودويّ للإسلام، فهم لا يرتقي حتّى إلى مستوى
ما بلغته الحضارة العربيّة الإسلاميّة في القرنين الثاني والثالث للهجرة!!!
واليوم وأمام
عجز الماسكين بالحكم في البلاد عن اتخاذ الإجراءات الصّارمة التي تفرضها خطورة
الوضع فإنّنا في حاجة إلى:
- إستعادت أماكن العبادة من مغتصبيها في أقرب
الأوقات وإعادة النظر في تعيين أئمّة المساجد.
- بعث جهاز يهتم بتكوين أئمّة متشبّعين بقيم"
الإسلام التونسي" الموحّد للصفوف والخالي من كلّ أشكال المغالاة وبذور
الفئويّة الدينيّة، في ظلّ أخبار تفيد بانتشار المذهب الشيعي في مدن قابس
والقيروان؟؟؟
- تشجيع أعلام الإسلام المعتدل على التواصل من
الفئات الشعبيّة عبر القنوات التلفزيّة والإذاعات لتثقيف الشعب دينيّا
والتصدّي لخطر التطرّف المهدد للبلاد والعباد.
- تنظيم ندوات وملتقيات يشارك فيها الحداثيّون
والمختصّون في الدراسات الإسلاميّة وعلماء الدّين من المعتدلين من شيوخ جامعة
الزيتونة لتطارح التعاليم السمحة للدين الإسلامي حتّى نوقف هذا السّيل الجارف
من الخطابات المعادية لكل نفس حداثي والتي تبثها ليلا نهارا الفضائيّات الوهابيّة
المموّلة بمداخيل الثروة النفطيّة المُستغلّة في غير ما يجب أن تُستثمر فيه.
كلّ هذه
الإجراءات وغيرها لا بد أن تنصهر ضمن سياسة تساهم في رسم خطوطها العريضة كلّ الأطراف
الفكريّة والدينيّة والسياسيّة لوضع خريطة طريق دينيّة واضحة المعالم، تنبثق من
خصوصيّات مجتمع وحضارة هذه البلاد، ومن تاريخها الثريّ الذي راكم عديد الحضارات،
لتأطير وتوعية الشباب الذي فجّر الثورة وأطاح بدولة الفساد، ولحمايته من "
الدعاة المسعورين".
Tout ce que vous dites est bien joli mais ce qui est fait est fait ... ne somme entrain d'entrer dans un nouveau cycle comme a dit "Jebali", il finira dans 100 ou 200 ans, et il sera aussi voir plus obscur que le dernier. Finalement la parenthèse Bourguiba aura été un espoir ephémère...
RépondreSupprimerRien n'est définitivement fait. L'histoire nous a appris qu'il n'y a jamais de vérité "définitive". Il nous appartient de changer notre quotidien dans le sens des principes auxquels nous croyons. Tout changement n'est désormais que la résultante de ce que nous voulons être.
RépondreSupprimer