dimanche 24 février 2013

النّهضة تُحوّلُ وجهة الثّورة



                                                            " أحبّ النّاس إليّ من أهدى إليّ عُيوبي"
                                                                                           حديث نبوي شريف


   فاجأت الثورة التونسيّة الجميع، ومخطئ من يدّعي عكس ذلك. لكن فكرة الثورة كانت كامنة ومُتوثّبة في لا وعي جانب هام من النّخبة المُثقّفة، وفي صفُوف أغلبيّة الشباب الطلاّبي ، منذ نهاية ستّينات القرن المُنصرم تحديدا، يوم كان التيار اليساري يطرحُ نفسهُ بديلا للنّظام القائم. إلاّ أنّ حكومات النّظام البورقيبي المُتعاقبة أحكمت إغلاق كلّ المعابر وسدّت كلّ المسالك بتوخّي سياسة القمع والزجّ بآلاف المُعارضين في السّجون المُنتشرة من رجيم معتوق جنُوبا إلى بُرج الرّومي شمالا، وبالسّعي مُنذ بداية الثمانينات إلى تشجيع بُروز التيّار الإسلامي كأداة لضرب جماعة "آفاق" وجماعة "العامل" التونسي، ونجحت بفضل هذه السياسة في إخماد الأصوات التي كانت تنادي بتغيير النّظام والتي باتت حبيسة صُدور أصحابها، ولم تبرُز إلاّ باحتشام عبر حركة الاشتراكيين الديمُقراطيّين، التي أسّسها أحمد المستيري، بعد مُغادرته  قلعة الحزب الحر الدستوري التونسي، بمعيّة بعض "المُنشقّين" أمثال حسيب بن عمّار وراضية الحدّاد والدّالي الجازي ومحمد مواعدة وإسماعيل بولحية والباجي قائد السبسي، الذين اتّخذوا من جريدة الرّأي الأسبوعيّة منبرا للإصداع بآرائهم.                               
أمّا جماعةُ  "آفاق" التي كان الأستاذ محمد الشرفي  والحُقوقي خميّس الشمّاري من أبرز قادتها ، فقد غلبت السريّة على نشاطها  قبل أن يُنقل إلى رابطة حُقوق الإنسان، التي ناور النظام لتجاوُزها ببعث رابطة مُوالية له تراّسها الدكتور الضاوي حنّابليّة.                                                         

   في الأثناء، ومُنذ بداية الثمانينات لم  يتوقّف تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بعد تبنّي الدولة برنامج إعادة الهيكلة،  وانصياعها لتعليمات صندوق النقد الدولي المُتعلّقة بتطبيق "حقيقة الأسعار" والتخلّي عن الصّندوق الوطني للدعم، على خلفيّة تداعيات الصّدمة النّفطيّة الثانية، مما أدى إلى أحداثجانفي 1984،أومااتّفق 
على تسميتها ب"ثورةالخبز".

وبعد فترة "الإمهال"و"الإنتظار" التي عقبت انقلاب 7 نوفمبر 1987، عادت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية
 إلى التردّي،  في ظلّ نظام بدأ يُكشّرُ عن أنيابه،  باعتماد سياسة الابتزاز واستغلال مقدرات الدولة،  والتعدي على المال والملك العُموميّين،  من قبل أفراد الأسرة الحاكمة ومن كان يدورُ في فلكها، فاستفحل الشّعور بالغُبن والغضب، واستيقظت فكرة الثورة شيئا فشيئا من سُباتها في لا وعي التّونسيّين، لتتّخذ من الفضاءات الرّياضيّة التي يؤمّها الشبان مجالا مُلائما للبُروز وبدأت الاحتجاجات تتضخّمُ إلى أن وصلت إلى أحدث الحوض المنجمي، أين حاصر البوليس النظامي مدينة الرديف لمدة ستة أشهر، يقتل و يعذب و يسجن و ينتهك الحرمات في ظل تعتيم إعلامي مقرف (شاهدوا وثائقي "يلعن بو الفسفاط") . إلى أن كان يوم 17 ديسمبر 2010، لما أضرم الشّاب محمد (طارق) البوعزيزي النار في جسده ، احتجاجا  على سُلُوك أحد أعوان التراتيب البلديّة في مدينة سيدي بو زيد تجاهه، وتعبيرا منهُ عن عجزه لتوفير الرزق لعائلته و ضمان حياة مُحترمة يحلُم بها كلّ آدمي على سطح الأرض. فكان القادح الذي سُرعان ما ألهب الاحتجاجات الشعبيّة في أغلب المُدن التونسيّة لتصل يوم 14 جانفي 2011 إلى مدينة تونس حيث احتشد الشباب والكُهول أمام مقرّ وزارة الداخليّة مُنادين بسُقوط النّظام ورافعين شعارات مضمُونها  اقتصادي واجتماعي لا غير.  


                                                    
في المُقابل ميّز التبعثُر والتردد، والحيرة وعدم الإجماع على موقف واحد، أغلب قوى المُجتمع المدنيّة منها والسياسيّة، دون أن يعني ذلك أنّها لم تكُن ترفعُ سرّا أو علنا، الشعارات التي هتفت بها حناجرُ المُتظاهرين من أمام مقرّ اتحاد الشّغل، وفي  شوارع العاصمة، من غير زعامات أو تـأطير من أيّ كان.  
                                                                                                            
وفيما كانت أغلبُ القوى التقدميّة  -التي التحق بصُفوفها  كلّ القوى التي كانت ترى في الثورة الوسيلة الأنجع لتغيير أوضاع لم يعُد ممكنا استمرارها أكثر- تتحرّكُ في كلّ الاتجاهات، في الأيّام الأولى التي تلت سُقُوط النظام، لتُؤمّن السّير الطبيعي للبلاد، وتُوفّر الأمن وتسهرُ بمعييه المُتطوّعين من مُواطنين على حماية المُمتلكات والمُؤسّسات العُمُوميّة، وتُنظّمُ التزوّد بالمؤونة، بمساعدة من تجنّد طوعا وتلقائيّا ليملأ الفراغ الذي خلّفهُ انسحابُ جانب هام من قوات الأمن من الشوارع، ممّا فسح المجال لقوى الردّة لبثّ الفوضى وترعيب النّاس، وإحراق المُؤسّسات والاعتداء المقصود على مقرّات السّيادة للمسّ من رمزيّتها... حدث ما لم يكُن يتوقّعُه أحد، وهو بداية عمليّة اختطاف الثّورة، وسرقتها وتحويل وجهتها من قبل أطراف يبدو عليها التنظيم والجُهوزيّة للانقضاض 
على الحُكم



أطراف تمزج بين الدين والسّياسة، ولها برامج ورؤى تُزلزلُ تنظيم المُجتمع، وتهدد نمط عيشه، وتُنادي بإعادة
 تركيز نظام "الخلافة"، بكلّ ما تعنيه هذه المؤسّسة القديمة من توريث للحُكم وما يترتّبُ عنهُ من عسف وطُغيان وأمراض اجتماعية وسياسيّة لازمت كلّ الأنظمة الوراثيّة المُستبدة عبر تاريخ الإنسانيّة و تاريخ الأمّة العربيّة-الإسلاميّة بشكل خاص، ورفعت شعارات تنادي بتطبيق الشريعة. وبدأت تتّضح ملامحُ مُخطّط يعتمد العُنف مسلكا والكليانيّة تصوّرا، والازدواجية خطابا بين طرح مدنيّ لا يرفضُ ظاهريّا نمط عيش المُجتمع، ويُبدي عزما على تطوير مجلّة الأحوال الشخصيّة نحو الأفضل(؟)، واغتراف من فكر إسلامويّ، إخوانيّ مُتشدد، برنامج لا يفصلُ بين الدّين والسياسة، ويرى أنّ الدين يعتمد النّقل أكثر من العقل، ومُعرضا عن البحث في المقاصد الحقيقيّة للدين ناكرا مُستجدّات العالم الذي نعيش، فارضا مواقفهُ عبر ميليشيات عنيفة مدّت مجاسها في مناطق عديدة من البلاد، تُرهّبُ السكّان، وتحرّكُ  خلاياها التي أيقظتها الثورة، ووفّرت لها فُرصة لم تكُن تأملُها للانقضاض على البلاد بمُساعدة مال سياسي كثير، وتدعيم من قواعدها المُنضبطة انضباطا يذكّرُ بانضباط تلك الميليشيا شبه عسكريّة التي خيّمت على أوروبا، وعاثت فيها فسادا في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي.                                                                                                          
   وأفرزت انتخابات المجلس الوطني التّأسيسي في  23 أكتوبر2012 ، انتصار حزب حركة النّهضة، وفوزه بنحو ثلث مقاعد المجلس، قبل أن يؤسّس تحالُفا ثلاثي الأضلاع على أساس "المُحاصصة وتقاسم الغنيمة"، يُمسك بمقاليد البلاد، ويشرعُ في السيطرة على القضاء وتعطيل إصلاح هياكله، ويتحرّشُ بالإعلام وينعته ب"إعلام العار"، ويجنّدُ أنصاره لمُحاصرة مبنى التلفزة الوطنيّة مُدة تُقارب الشهرين، لإركاع الإعلام السمعي البصري  وإدخاله "بيت الطّاع"، وجعله في خدمة النظام، ويبثّ مناصريه في هياكل الإدارة يُمسكون بمخانقها،  دون اعتبار لمقاييس الكفاءة والجدارة. فكانت النتيجة أن تعمّقت أزمة البلاد، وانتشرت الفوضى بكلّ أوجُهها، وانحسر الأمنُ، وتقلّص النشاط التجاري المُنظّم وأربكت الاضطرابات جهاز الإنتاج الصناعي، وتضرّرت السياحة، والتهبت الأسعار، وندُرت المواد الغذائيّة الأساسيّة، وتضخّمت عمليّات التّهريب عبر الحُدود الغربيّة والشرقيّة، وتعطّلت شبكات التّزويد بالمياه الصالحة للشراب في عزّ فصل الصّيف وفي شهر رمضان المُبارك، وقُطعت الكهرباء في عديد المُناسبات ... وفي الأثناء كان نوّاب حزب حركة النّهضة في المجلس الوطني التّأسيسي يُصادقون على القوانين التي تقضي بالزيادة في أجورهم وبتمتيعهم بمنح خياليّة وبمفعول رجعيّ، ويُحاولون إدراج تطبيق  الشّريعة في الدستور، ويُماطلون في كتابته بإثارة قضايا لم ينتخبهم الشعب لمُناقشتها 
مُدعين أنّ " المجلس سيّد نفسه"...                                                               



  وفيما كانت البلاد مفتوحة على مصراعيها على أيديولوجيّة رجعيّة مُنقطعة عن الواقع، لا تتردد في استقدام دُعاة مُغالين ليتنقّلوا عبر مُختلف أقاليم البلاد، ومن على منابر المساجد، ومن  معاقل الفكر النير والعُلوم العقليّة الصّحيحة، يُلقون خطابا يُقسّمُ التّونسيّين إلى مُسلمين وإلى كُفّار، ويُروّجون لفقه النّكاح وفقه العورة، ويدعون الفتيات في سنّ ما قبل الدراسة إلى الانخراط في برنامج "تحجيب البنات"، زارعين فيهم البُغض والكراهيّة والدعاء على من يُخالفهم الرأي بالموت غيضا، ويُروّجون عادة بالية استقدموها من العصر الجاهلي، أدانتها أغلب الشرائع الوضعيّة، ونددت بها منظمات الدفاع عن حُقوق الإنسان، ولم تكن في يوم ما من مُمارسات التّونسيّين، وهي عادة ختان البنات لكبح جماحهنّ الجنسي، وينشُرون فتاوى غبيّة كفتوى إرضاع الكبير ونكاح الزّوج زوجتهُ المُتوفاة نكاح وداع ...  تحوّلت الجوامعُ التي سيطر عليها المُتشددون من دعاة العُنف في ظلّ عجز وزارة الشّؤون الدينيّة عن مُراقبتها ، إلى منصّات تبُثّ سُمُوم التكفير والدعوة إلى الإقصاء والقتل، إلى أن تجاوزنا المحظور وقُتل في مدينة تطاوين المُناضل لطفي نقض، وحصُلت الفاجعة الكبرى يوم 6 أفريل 2013، يوم قُتل الزعيم السياسي شُكري بلعيد، فخلّف ذلك في أعماق التونسيّين  طوفانا  من الحُزن واللوعة والألم والخوف،  عبّروا عنه بعد يومين بالمُشاركة تلقائيّا وبأعداد غفيرة، لم يسبق أن شاهدناها في تاريخ تونس مُنذ الاستقلال، في موكب دفن قتيل الكلمة الحُرّة وشهيد الرّأي المُخالف ولسانُ دفاع العامل الذي سحقته الأسعار المُتعالية وتفتّتُ قدرته الشرائيّة فبات مقهورا لا حول ولا قوّة له، وقد عاف النقاشات المُطوّلة والمُجادلات 
القانونيّة، وتقيّأ السياسة والسياسيّين، والشرعيّة والشرعيّين....


  
    وهكذا، أظهرت  سنة ونيّف من حُكم حزب حركة النّهضة وحُلفائه من الحُزيبات، انعدام الكفاءة والخبرة السياسيّة لدى المُمسكين بزمام الأمور وبمقاليد النّظام، وعدم انسياق أغلب الشعب وراء مقُولات تطبيق الشريعة، و مُحاولات تعريف الهوية التونسيّة وإقصاء المُنافسين السياسيّين بدعوى إنتمائهم إلى النظام المُنهار، ولم تنطلق البرامجُ التنمويّة ، فتضخّمت الفجوة الفاصلة بين الفئات الحاكمة وهموم الشعب الذي لم يرفع البتّة إبّان ثورته شعارات تتعلّقُ بالهُويّة والشّريعة وختان البنات وفرض الحجاب وارتداء النقاب وتعدد الزوجات وقطع أطراف السّارق... بل كلّ ما نادى به  هو الحريّة والشّغل والكرامة الوطنيّة ومُحاسبة اللّصوص وإقامةُ عدالة انتقالية تُحاسب كلّ آثم في حقّ الشّعب وكلّ معتد على أمواله، بعيدا عن عقليّة الغنيمة والتدافُع، والتمكّن واستغلال الفُرص، والإلحاح في المُطالبة بالتعويضات الماليّة للمُتضرّرين من النّهضويّين، سواء منهم أولئك الذين كانوا ينعمون بهجرة ذهبيّة ، ويرتعون بين مطارات لندن وباريس وقطر، وأغلبهم من حاملي الجنسيّات المُزدوجة، يغرفون من المال السياسي "الحلال" ومن صُندوق الزكاة ما لذ وطاب لهم، يُؤسّسون الشركات بأسمائهم وأسماء زوجاتهم وأبنائهم، ويُلحقون منظوريهم بأرقى الجامعات الأوروبيّة، مُنقطعين عن واقع البلاد إلى حد أنّ أحدهم أصبح جاهلا جغرافيّتها ولم يعد قادرا على معرفة طول سواحلها، أو أولئك الذين أُلزموا بالمُكوث في منازلهم والخُضوع للمراقبة الإداريّة بعد أن سُرّحُوا من سُجون ابن علي، ولم يُعثر لهم على أثر بين جُموع المُحتجّين يوم 14 جانفي، ممّا يُؤكّد القول بأنّ حزب حركة النّهضة سرق الثّورة وقام بعمليّة تحويل وجهتها. فهل من سبيل إلى إعادة الثّورة إلى مسارها الصّحيح؟                                                                                                          
العوينة، فيفري 2013.             

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire