samedi 16 février 2013

تداعيات اغتيال شكري بلعيد





     فتحت مراسمُ جنازة شهيد النضال في سبيل الحريّة والإنعتاق من الاستبداد والخنوع، يوم 8 فيفري 2013، يوم جرت العادة أن نُحيي فيه ذكرى الساقية التي ترمُزُ إلى وحدة المصير بعد وحدة النضال المُشترك بين الشعبين الجزائري والتّونسي ضد المُستعمر، فتحت أعيُن التونسيين على حقيقتين كلّ منهما صادمة في ذاتها، الأولى إيجابيّة البُعد والثّانية سلبيّةُ الأبعاد.

   أمّا الحقيقة الأولى فتتمثّلُ في ذلك الإجماع الرّهيب والمُهيب لمئات الآلاف من التونسييّن، يُوحّدُهُم إحساس بأنّ اغتيال شكري بلعيد إنّما هو اغتيال للكلمة الصّادقة في الدفاع عن القضايا النّبيلة، قضايا العدل والمُساواة والكرامة، ومد اليد للمُستضعفين من أبناء أمّتنا، وهو لعمري سعي إنسانيّ بكلّ المقاييس القيميّة للإنسانيّة، فهبّوا تلقائيّا ليُعبّروا عن لوعتهم وعن عُمق وجعهم،  وعن تمسّكهم الشديد بتلك القضايا، و عزمهم وإصرارهم على  مُواصلة الدفاع عنها، تحقيقا للشعارات التي رُفعت أيّام ثورة 14 جانفي 2011: شُغل، حُريّة، كرامة وطنيّة، دون تردد ودون وجل، لم تثنيهم لا مُحاولات بثّ الرّعب والفزع في صُفُوفهم من قبل مجموعات شاذة، ولا رداءة الظّروف المناخيّة يومئذ، عن إتمام مراسم دفن شهيد توقّف الزّمن تحيّة وإجلالا لنضاله.

   لقد شكّلت تلك الحقيقة رسالة رائعة عكست مدى تماسُك وتضامُن ووحدة جانب هام من هذا الشعب النبيل، الذي يعرف كيف يُكرم الشّرفاء من موتاهُ، وكيف يتمسّكُ بمبادئ ناضل من أجل تحقيقها الكثيرون إلى حد الاستشهاد، الذي أعطى لحياتهم معنى، ورفع من منزلتهم عند ذويهم بعد مُواراتهم التراب.

   أمّا الحقيقة الثّانية والصّادمة فهي مُحاولات التقسيم التي نُظّمت غداة دفن الشهيد، والتي رُفعت خلالها شعارات، تُدافع في ظاهرها عن الشرعيّة لكن تهدفُ في الحقيقة إلى تقسيم المُجتمع التّونسي إلى تونسيّين مؤمنين وتونسيّين مُلحدين أو كفرة،  ونشر قيم التمييز والإقصاء ضد فصيل من فصائل الأمّة الواحدة، والانسياق والانصياع وراء تيّار سياسيّ – دينيّ مُعيّن، ما انفكّ باروناته يُديّنون السياسة ويُسيّسون الدّين، مُنذ نشأتهم سياسيّا، ويُضفون على رئيسهم قُدسيّة وعصمة تُحتّمُ طاعة مُريديه،  وتُذكّرُ بما كان يحظى به بعض الزعماء الكليانيّين في ثلاثينات و أربعينات القرن الماضي،  من طاعة شعوبهم لهم طاعة عمياء.
     إنّ السّؤال الذي يتبادر إلى ذهن المرء في مثل هذه الظّروف المُتشعّبة والمُركّبة والمُربكة والتي تمرُ بها البلاد هذه الأيّام، هو التّالي:

من الأجدرُ بالطّاعة والانصياع وراءهُ؟

هل هو زعيمُ حركة سياسيّة – دينيّة ماضويّة المرجعيّة، يدعو إلى التقسيم والتّكفير، وإصلاح ما يبدو له اعوجاجا وخُروجا عن سياق التديُن الذي يرتئيه على النمط الوهابي المُتشدد،  والمُتشبّع بمبادئ ابن حنبل ونظريّات ابن قيم الجوزيّة وابن تيميّة، والذي واصل الدعوة إليه مُؤسّس الإخوان حسن البنّا، وذلك بحُجّة القوّة لا بقوّة الحُجّة، ولا يتوانى عن مُساندة فئات ضالّة يراهُم ضمير الثورة، ويُذكّرونه بشبابه. فئات لا تعي أهميّة الرّاهن، ولا تُدركُ خُطُورة المرحلة  التي تعيشُ، ولا تُقدّر أهميّة الفرصة التّاريخيّة التي منحها إيّاها القدر بدفع من إصرار تراكم عبر الأجيال، مُقاوما بلا هوادة الظّلم والإقصاء والتّهميش والتمييز واحتكار الحياة السياسيّة، لا بل بكلّ بساطة مُقاوما احتكار الحياة واحتكار كلّ ما ينبض فيها ... فئات لم تنخرط في تيّار التغيير الجارف نحو التنوير والانفتاح على راهن عالم اليوم، دون التفريط في الخُصوصيّات الثقافيّة والحضاريّة لشعبنا، خُصوصيّات نُحتت عبر آلاف السنين لتجعل من هذا الشعب أمّة بكلّ ما في تعريف عالم الإجتماع إرنست رونان لمفهوم الأمّة من مُتطلّبات، أُمّة لها ذاتيّة تُميّزها عن سائر الأمم ومُندمجة في ذات الآن في " الأمّة الكبرى "، الأمّة العربيّة إسلاميّة والتي لا نرى سبيلا إلى قطع الحبل السرّي الذي يربطُنا بها. أُمّة، قال أحدهم،  لها قيمها الكبرى ورُموزها وأعلامُها ومواقعُها وأزمنتُها، وعاشت أحداثا مصيريّة على مرّ التاريخ حسمت مصيرها، أي أمّة لها كلّ ما يستلهمُ منهُ وجدانُها الجماعي ليُؤسّس توازُنه، ويستصفي سُلّم قيمه وأمزجة خواطره، وليُوفّر أسباب التماسُك التي يقتضيها فنّ العيش المُشترك.



   هل هذا هُو الزعيم الجدير بالطاعة والانصياع؟ أم هي جملة رُموز تجمعُ المُتساكنين وتُوحّدُهم وتُسمّى المُشترك ، الذي تبقى أهمّ ركائزه في نظرنا:

* حوزةُ الوطن والاستعداد للذود عنها كلّما داهمها خطر من أيّ نوع كان، ليُربكها ويُزلزل أركان استقرارها بنشر أفكار غريبة لا تنصهر في  الإرث الثقافي المُشترك، ونشر قيم التفرقة والتطاحُن والتباغُض بين أفراد الأمّة .

* الرّاية الوطنيّة، العلمُ المُفدى الذي كم قضى من مُجاهد في سبيل أن يُرفرف عاليا في سماء المجد والكرامة. رايةُ البلاد ورمزُها المُقدسُ الأوحدُ والذي رُفعت إلى جانبه رايات من مُختلف الألوان، وبلغ الغباء والحمق الذي لا دواء لهُ أن عوّض بعضهُم النّجمة والهلال والسّطح الأحمر المُخضّب بدماء الشهداء، براية سوداء في لون أوهامهم، في مُناسبات عدة كانت أوّلُها بمعقل الفكر النيّر، بالمُركّب الجامعي بمنّوبة، و التي كشفت عن المعدن الأصيل الصّافي للفتاة التونسيّة الأصيلة المُتمسّكة براية البلاد ، لا ترضى لها بديلا.




* النّشيد الوطني الذي تسلّل بيتان منهُ أبدعتهما عبقريّة شاعر الخضراء أبو القاسم الشابّي، إلى حناجر شباب الأمّة العربيّة الثائر، يتلذذون ترديدها لزحزحة أنظمة استبداديّة طاغية وباغية، فقدت شرعيّتها التي اكتسبتها بالغصب وهرّأتها  بتجديد البيعات لها مرّات ومرّات بكلّ ما يُعرف و ما لم يُعرف بعدُ من أساليب التزييف والضحك على الذقون.

* التنمية الاقتصادية والاجتماعية العادلة، بإقامة اقتصاد مُترابط ومُتكامل الأنشطة، لهُ طاقةُ استيعاب أغلب طالبي الشغل، وتذليل الفوارق الجهويّة والتفاوُت بين الفئات ، انطلاقا من توافُق حول رسم الخُطوط العريضة لعمليّة تنمية عاجلة، وأخرى آجلة، يكُونُ للجهات النّصيب الأوفرُ في رسمها وفي السّهر على تنفيذها وفق احتياجات كلّ جهة، وبتجنيد كلّ القادرين على المُساهمة في التنفيذ، وبمُشاركة التلاميذ والطلاّب خلال العُطل المدرسيّة، لتتحوّل كلّ جهات البلاد بذلك إلى خلايا نحل لا تهدأ الحركة فيها.  

* مُراجعةُ المنظومة التربويّة، بفتح الآفاق أكثر أمام تدريس العلوم والتقنيّات الحديثة والتطبيقيّة، وجعل المُتلقّين أطرافا فاعلة ومُتفاعلة ومُشاركة في العمليّة برُمّتها لا مُستهلكة استهلاكا سلبيّا، ويقتصر تكوينُها على تلقينها حجما معرفيّا يُهيّئها إلى اجتياز الامتحانات لا غير .

* نشرُ ثقافة المُواطنة وثقافة الالتزام بقضايا الوطن الكُبرى والمصيريّة، ثقافة البناء والتعمير والإنتاج الفنّي والإبداع، ثقافة أساسُها الفكر النّاقد نقدا بنّاءا، لا ثقافة المهرجانات الصيفيّة التي تكاد تكون مهرجانات للأغاني وللرقص المجاني غير الهادف، أي مهرجانات لا تستفزّ الفكر ولا تُحفّز الإبداع، ولا تُشرّك المُتلقي في الفعل الثقافي، ولا تبعثُ فيه الوعي بمشاغله.

هذه في نظري بعض ركائز المُشترك العُمومي الذي يتطلّبُ منّا الأمرُ التمسّك به والانصياع إلى ندائه بروح إيجابيّة مُبدعة خلاّقة، روح وطنيّة فيّاضة.

وفوق كلّ هذا تبقى الركيزة الأساسيّة لهذا المُشترك، والمفهُوم الأسمى الذي يُوحّد كلّ التونسيّين، مفهوم الوطنيّة. أليس حبُ الوطن من الإيمان؟

هذا هو الشعار الأساسي الذي يجبُ أن يُشكّل أهمّ دافع لكلّ ما نقومُ به لنسمُو بوطننا إلى أرفع الدرجات.
وما لم يتغلغل هذا المفهوم في وعينا، فإنّنا لن نقدر على رفع التحديات، وعلى تجاوُز ما يُفرّقُنا.
إنّ حبّ الوطن وحده الضامن لجمع شملنا وتحصين مناعتنا ضد التفرقة.
فلنجعل من "حبّ الوطن" ديدننا، لنجعله معركتنا المُقبلة، نخوضُها بكلّ عزيمة وبكل تفاني.
إذا نجحنا في هذه المعركة فإنّ مُستقبلنا سيكون لا محالة أفضلُ من ماضينا القريب ومن حاضرنا البائس.
إنّها معركة حياة أو موت، معركة أن نكون أو أن لا نكون.

                                                      
العوينة، فيفري 2013.


                      

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire