الرئيس الأمريكي "نيكسون" يشارك الشعب التونسي الإحتفال بذكري الإستقلال الأوّل في 20 مارس 1957. المصدر : http://shr.tn/sA6q |
أصدر آخر بايات الدولة الحُسينيّة بتونس، يوم 29 ديسمبر 1955، أمرا يتعلّقُ
بإحداث المجلس القومي التأسيسي، جاء فيه ما يلي:
" ...
وحيث أنّ الوقت قد حان لمنح مملكتنا دُستُورا يحدد نظام السّلط وسير مختلف دواليب
الدولة وحُقوق المُواطنين وواجباتهم.
وحيث
أنّه يتجّه تمكين شعبنا من المشاركة مُشاركة فعليّة وبواسطة مُمثّليه المنتخبين في
إعداد القوانين الأساسيّة للبلاد ... أصدرنا أمرنا هذا ..."
افتتح
المجلس أعمالهُ يوم 8 أفريل 1956، وألقى الحبيب بورقيبة بالمُناسبة خطابا جاء فيه
ما يلي:
"...
فلا يُمكن أن ننسى أننا عرب ننتسبُ إلى الحضارة الإسلاميّة، وأننا أيضا نعيشُ في
النصف الثاني من القرن العشرين، نُريد أن نُساهم في ركب الحضارة، وأن نكون في صميم
عصرنا الحاضر، ولذا نمقُت الفوضى والاستبداد ونرفُض الجُمُود
والرجعيّة..."
جُملة
بسيطة في ظاهرها، لكنّها تنطوي على معاني عميقة المغزى، تعكسُ رُؤية الطبقة
السياسيّة لحُكومة الاستقلال، المُقامة على عمليّة تأليفيّة رائعة بين الأصالة
والحداثة، وهُما البعدان المُكوّنان للشخصيّة القاعديّة للتونُسي، الذي انتقل من
مرتبة الرعيّة إلى مرتبة المُواطنة، بكُلّ ما يتطلّبُ وضعُه الجديد من واجبات ومن
حُقوق.
والحقيقة
أن هذين البعدين قد بدآ البُروز مُنذ إصلاحات خير الدين باشا التونسي في المجالات
الاجتماعية والاقتصادية والعسكريّة والإداريّة والدينيّة ومجال التعليم
تحديدا، وذلك بوضع منظومة تعليميّة عصريّة قامت فيها المدرسة الصّادقيّة بدور
الجسر الذي يصلُ البلاد بالغرب المُتحضّر، وهو ما
تعكسهُ
مُعالجته لأسباب التخلّف التي وردت في مُؤلّفه، "أقوم المسالك في معرفة أحوال
الممالك" الذي نُشر سنة 1869. وسرعان ما تخرّج من الصادقيّة أجيال
من الشباب التونسي المُتجذرين في الحضارة العربيّة الإسلاميّة والمُنفتحين في ذات
الآن على الغرب، يُواكبون ما بلغهُ من درجات الرقيّ على درب الحضارة
الماديّة واللاّماديّة ، ويُساهمون جنبا إلى جنب، مع إخوان لهم تخرّجوا من الجامع
الأعظم بعاصمة تونس المحروسة، جامع الزّيتونة المعمور ، مُكوّنين نُخبة من
المُفكّرين الحداثيين، انخرطت في مشروع تأسيس حركة وطنيّة لتخليص
البلاد من براثن استعمار مُتغطرس، وإرساء أسُس دولة عصريّة ونشر ثقافة عقلانيّة واقعيّة
ووسطيّة، تقف سدّا منيعا في وجه الغلوّ والتطرّف والتعصّب، تُقاوم سياسة التكفير
ورفض الآخر، وتُقاوم نشر الخُرافات والبدع والمُمارسات التي لا تمتّ إلى الإسلام
بصلة، على غرار ما يتأتّى من أولئك الذين لا يرون في المرأة غير عورة يتحتّمُ
إخفاؤها حتّى لا تُلحق ب "الرجُل" العار، أي "وأدُها"
بإخفائها عن أعيُن الفضوليّين بالنقاب، فإن لم نستطع فبالحجاب وذلك أضعفُ الإيمان،
فتفقد بذلك هويّتها ككائن بشري من حقّه التمتّعُ بحُقوقه
كاملة.
تلك بعض
من المعاني التي أراد الحبيب بورقيبة، من خلال تلك الجملة البسيطة، إيصالها إلى
مُختلف فئات المُجتمع التونسي
آنذاك.
فهل كان
الحبيب بورقيبة يتمتّع بقدر من العقلانيّة والتبصّر أرفع من الذي تتمتّعُ به زُمرة
من يحكُمنا
اليوم؟
ألم
يُدرك هؤلاء الكيفيّة التي تجنّب بها بورقيبة السُقوط في فخّ تديين السياسة وتسييس
الدين؟
ألم
ينتبهوا إلى تأسيسه فكرا يدعمُ الوحدة الوطنيّة ويُغلّبُ مصلحة الوطن على كلّ
المصالح الطبقيّة والفئويّة والحزبيّة، ولم يُؤسّس فكرا تفريقيّا، تقسيميّا،
إقصائيّا،
تكفيريّا؟
لقد
أدرك بورقيبة أن المطلوب آنذاك إنّما هو التعامُلُ بالعقل وبالحُجّة والبُرهان، من
غير تخوين أو تكفير للآخر، وأنّ الوطن للجميع والدين للواحد الأحد، وأن الإسلام
الإيديولوجي هو عدو الإسلام، لما يفرضُه من غُلوّ وتكفير، وأنّ "أفضل
المُسلمين من سلم النّاسُ من يده ولسانه"، وأنّ "خير النّاس أنفعهم
للنّاس"، بحسب ما رُوي عن خير الأنام، عليه الصلاة والسّلام، وبحسب ما جاء في
مُحكم تنزيله:
-"
ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كُلّهُم جميعا أفأنت تُكره النّاس حتّى يكونوا
مُؤمنين"، سورة يونس ، الآية
99.
-
" قل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفُر"، سورة الكهف،
الآية 29.
هل من
العسير على من أدخلنا في متاهات الهُويّة وتطبيق الشريعة، وإقامة الحُدود وتأسيس
الخلافة الراشدة السادسة، إدراك أنّ مصلحة الوطن قبل كل اعتبار وأنّ الوكن فوق كلّ
الخلافات وأنّ حبّه والذود عن حُرمته والفناء في سبيل حمايته إنّما هو أسمى ضروب
الإيمان؟ أسألُ وأحبّ أن أفهم على حد تعبير المربّي الأستاذ الحبيب
السلاّمي.
العوينة،
فيفري 2013.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire