شابان في مُقتبل العمر، في بداية العقد الثالث
... هما أقرب إلى مرحلة المُراهقة المُتأخّرة منهما إلى سنّ الكهولة ... يغلي حماس
الشّباب في شرايينهما ممزُوجا ببقايا دم البراءة وبقدر كبير من المثاليّة
المُميّزتين لمرحلة الشباب ... يتوقان إلى غد أفضل ، أحلى وأزهى وأكثر إشراقا من
راهنيهما ... يدفعهم الإيمان بمبادئ تشبّثوا بها ... عضّا عليها بالنواجد مُعتقدين
أنّه الأفضل والأرقى والأسمى ...
هذا
فقط ما كانا يعتقدان... هذا إيمانهما ... تمسّكا به إلى آخر رمق في حياتيهما ...
ومن
أجل هذا فقط لهُما منّا أجلّ الاحترام وأعمق الإكبار...
كم هو جميل تمسّك الفرد بأفكاره ومبادئه التي
لا ينفصم عنها حتّى تغدُو جزءا متمّما لكينونته... لكن أليس فضيعا الموت من أجلها
مهما كانت قسوة الحياة؟ أليس الحياة أثمن ما في الوُجود؟ أليس جديرا بأن نحياها
مهما كانت العقبات؟
أليس
في العتمة أحيانا بعضا من النّور؟ أليس في السّواد الداكن بعض بياض؟
أسئلة حارقة تبقى مطروحة وقد لا نجد الأجوبة
الشافية لها، لكنّها تبقى ولزمن طويل مُقضّة لمضاجعنا:
ماذا
فعلنا لاحتواء الشّابين؟ هل حاورناهما؟ هل ناصحناهما؟هل تعاملنا معهما بالمنهج
القويم وبالقدر الكافي من الحكمة؟هل أقنعناهما بأنّ الحفاظ على النفس التي حرّم
اللّه قتلها إلاّ بالحق إنّما هو أحد أهمّ مُرتكزات الإيمان؟هل حاولنا الاقتراب
منهما، لنسمع منهما أم أعرضنا عن أطروحتيهما وعاديناهما كما لو كانا يحملان فيروس
الجُذام؟
هل
حاول زُعماء التيّار السّلفي الجهادي الذي ينتسبان إليه، إقناعهما بألاّ يُلقيا
بنفسيهما إلى التهلُكة أم فضّلا استعمالهما وقودا لفرض آراءهم؟
إن الاعتقاد السائد اليوم أنّ أطرافا ما لم
تقُم بدورها ، إن لم نقل خذلت الشابين فتكون بذلك مُتورّطة في عمليّة قتل نفس
بشريّة .
هذه الأطراف هي : المسؤولون المُباشرون الهالكين
في السجن ومن ورائهم وزارة العدل والوزارة المُكلّفة بحُقوق الإنسان وكذلك
الإعلاميّون الذين انشغلوا بتغطية حادثة وفاة تونسيّ آخر في مدينة تطاوين ذهب
بدوره ضحيّة العُنف السياسي وهو محمد نقض ، وكذلك جمعيّات ومنظّمات المُجتمع
المدني ورابطة حُقوق الإنسان ...
ثلاث حالات وفاة كان بالإمكان تفاديها بقليل
من الحكمة والتبصّر وحسن التصرّف.
أليس
من العار والقصور غير المُحتمل الآ يهتدي أيّ طرف إلى الحلّ الصحيح وانساق الكل في
ضلال يعمهُون؟
ثلاث تُونُسيّين أعزّاء على قُلوبنا كبقيّة
أفراد شعبنا، لهُم عائلاتهم وزوجات وأبناء وأمّهات وأقارب وجيران سيفتقدونهم... ثلاث
تونُسيّين راحوا هباء منثورا... لم يتركوا لنا غير الألم يعصف بنا والنّدم على عدم
تدارك الأمر والحسرة و... الشّعور بالذنب ...
إنّ
الشعور الفظيع بالذنب يعصرُني... يتسرّبُ إلى داخل كياني... يكاد يُفجّرُني...
يغمُرُني
إحساس بعجزنا عن نزع الغشاوة التي تعمي أبصارنا وتُغطّي بصائرنا وتُحيل بيننا وبين
أن نصبر على بعضنا البعض... أن نتحمّل بعضنا البعض... أن نُحاول فهم بعضنا البعض
قبل أن يُسرع أحدُنا إلى إدانة الآخر دون البحث
عن قد يساعده على فهمه.
بوسع بلدنا احتواؤنا مهما باعدت بيننا الأفكار
ومها تباينت مبادئنا وتضاربت، ومهما
تنوّعت ثوابتنا، بشرط أن نبحث جميعنا عن
المُشترك بيننا ونسعى إلى تنميته والبناء على أساسه، لأنّه لم يحدُث أيّ إجماع
بشريّ حول قضيّة ما.ألم يختلف المُسلمون في السّقيفة اختلافا " وقى اللّه
المُسلمين شرّه". إنّ الاختلاف بين البشر يشمل حتّى وُجود الذات الإلهية فما
بالُك بالقضايا المعيشيّة.
إن
التناقُضات والاختلافات من أهم مّكوّنات منظومة الحياة... إنّها تُعطيها أجمل ما
فيها من معاني وتُوفّر أحد أهمّ الأسباب التي تجعلُها جديرة بأن تحيى...
إنّ في تعايُش وتجاوُر المُتناقضات تعبير بليغ
عن تلك السيمفونية العجيبة والغريبة المُسمّاة" فلسفة الوُجود ". فلننظر
كيف يتجاورُ الموتُ والحياة، الجمالُ والقُبح، النّور والظّلام... ولننظر إلى
النّبتة وهي تتحفّزُ لا تنمو براعمُها الجديدة حتّي يسقُط الميّت من أوراقها
ليتحوّل إلى سماد طبيعيّ يُغذيها.
هكذا يتداخل الموتُ في الحياة، فكيف والحال
هذه لا يكون الكونُ في الذهنيّة العامة مُتسامحا مفتوحا مشتركا كما كتب ذات مرة
الطيب لبيب في مقال له بجريدة " المغرب " بتاريخ 20 نوفمبر 2012، الصفحة
17.
أليس من العيب أن يُفضي الإخلاف بيننا إلى أن
يُشهر البعضُ منّا السّيوف في وُجوه البعض الآخر؟ أليس الأفضل الجُنوح إلى
المُسالمة والمُجادلة باللّسان؟
أليس
من حقّ كلّ واحد منّا أن يكون له رأيُه الخاص وتوجّهه الخاص وطريقة عيشه ونمط
حياته مأكلا ومشربا ودثارا .
أليس
من الخطأ أن نرد على الرأي بغير الرّأي، وعلى الحُجّة بغير الحُجّة، وعلى الكتاب بغير الكتاب، وعلى الفيلم بغير الفيلم، وعلى الرسم
الكاريكاتوري مهما حمل في ثناياه من مسّ لكبريائنا و سوء لمن نراه كمُسلمين خير
الأنام، بالتكفير الغبيّ والإهدار الأحمق لدم مُنتجه؟
في هذه الحالات لا يُمكننا غير توظيف الحكمة
لأنّه بغير ذلك لن نهتدي إلى الحُلول الناجعة لمُعالجة القضايا المطروحة علينا وما
أكثرها وقد أصبحت تُرعبُ السواد الأعظم من شعبنا.
رحم اللّه المُتوفّين وعسى أن تكون وفاتهم
رسالة نستوعب مضمُونها لتحقيق توافُق بين كلّ الأطراف وأن يكُون لها معنى نستفيد منه جميعا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire