lundi 17 décembre 2012

دعاةُ السلفيّة والفتاوى الغريبة


   أنا من مواليد جيل الاستقلال، أمّا أجدادي وآبائي فقد وُلدوا زمن الاستعمارين العثماني ثم الفرنسي بعده، و عاشوا على غرار الأغلبيّة السّاحقة من مُتساكني هذا البلد الطيّبين، الفقر والهُوان في ظلّ أنظمة طاغية،  وتجرّعوا علقم الجهل وتعرّضوا لفتك الأمراض والأوبئة.
أبناء جيلي عايشوا استقلال البلاد وحلموا بالحريّة والإنعتاق والتمتّع بخيرات البلاد التي كان الغرباء عنّا يستغلّونها بدون حياء، ليُطلّقوا الفاقة ... هذا ما كان يُمنّيهم به قادة حزب الدستور الذين تزعّموا الحركة الوطنيّة.
   كم كانت جميلة تلك الأحلام ... لكنّ الواقع بددها، بخّرها فتسرّبت من بين أصابع أيدينا كتسرّب الثروة النّفطيّة من بين أصابع أيدي العرب من غير أن تُحقّق لهم اقتصادا متينا أساسُه الاكتفاء الذاتي وعدم التبعيّة لدول الشّمال...
    صدمنا الواقع المرّ، وعانينا القمع في الجامعات واقتيدت نُخبنا من اليساريين إلى السّجون والمنافي أين ذبُلت أزهار شبابهم وتعطّلت مسيرتهم لكسب المعرفة...Quel  gâchis!!!

   وكما لو أنّ هكذا مُصاب لم يكُن كافيا،  فقد عشنا انتكاسات العرب المُتعاقبة بدأ ب 1948 ثم 1965 ثم 1967 ثم احتلال بيروت في الثمانينات وصولا إلى الاعتداء على روح الأمّة العربيّة في العراق الشّامخ دوما  ...

   خيبات  تجرّعنا مرارتها  ... كسّرت أشياء كثيرة في دواخلنا  ... ملأتنا إحباطا  ... غرست فينا شُعورا بالنقص لم نتخلّصُ منه إلاّ ببعض إيمان بقي عالقا بأعماق الكثير منّا  ... تلك منّة من اللّه علينا لإعانتنا على تجاوز ذواتنا أو ... هكذا خُيّل إلينا ...

   عشنا في أقطار بذل آباؤنا من أجل استقلالها الغالي والنّفيس، لكنّها تحوّلت إلى مزارع خاصّة لطُغاة استفردوا فيها بالحُكم... أقصوا شعوبهم ... صادروا حُريّاتهم وسلبوا منهم أبسط حُقوق الإنسان بداعي تحقيق الوحدة الوطنيّة... لينعموا هم وحدهم بنعيم الدنيا ، بينما يُؤاخي سواهم  البُؤس والشّقاء والجوع ويمنعُهم عن الاحتجاج أو حتّى عن مُجرّد النّقد " علماء " رفعوا سُيوفهم دفاعا عن نظريّة " طاعة أولي الأمر " و " الولاء للحاكم " وانساقوا مُنسجمين مع الأنظمة القائمة.

  كتب أحد المشائخ وهو السعودي محمد صالح العثيمين ( ولد سنة 1929 وتوفي سنة 2001 )، وهو سلفيّ وهابيّ ومن مُتّبعي مذهب ابن تيميّة، في كتابه " شرح العقيدة الواسطيّة "، طبعة سنة 2006، الرياض، صفحة 657 ما يلي:

   " أهل السُنّة يرون ... إقامة الحج مع الأمير وإن كان من أفسق عباد اللّه ... ويرون إقامة الحج مع الأمراء وإن كانوا فُسّاقا حتّى وإن كانوا يشربُون الخمر في الحجّ، لا يقُولُون هذا إمام فاجر، لا تُقبلُ إمامته لأنّهم يرون أنّ طاعة وليّ الأمر واجبة وإن كان فاسقا بشرط أن لا يُخرجُه فُسقُه إلى الكُفر البُواح الذي عندنا فيه من اللّه بُرهان ... "

   يستشهد الشيخ في ذلك بقوله تعالى : " والذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه  ويقطعون ما أمر اللّه به  أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم  وسوء الدار " سورة الرعد الآية 25، معتبرا في ذلك أن أن الفُسق / الفُجور هو دون الكُفر، ومهما بلغ فإنّ الولاية لا تزول به بل هي ثابتة والطّاعة لوليّ الأمر واجبة في غير المعصية!!!

   إن كُهول اليوم وكذلك أولئك الذين دخلوا مرحلة الشيخوخة منذ بضع سنين ، عاشوا الظّلم والانكسار والقهر والانكسارات والانتفاضات الشعبيّة التي أغرقها النظام في الدماء ( مصر، تونس، السودان ...)
... قضوا عمرا بلا عزّة ...بلا هيبة ... بلا نخوة ... يلوكون المرارة تلو الأخرى لأكثر من نصف قرن ...
انقسموا إلى رافضين للأمر الواقع مُتعنّتين ومُنددين بصوت عالي بمُمارسات أنظمة انسلخ قادتُها عن أحلام شُعوبهم، فكان مصيرُهم أقبية السّجون، وإلى صامتين صابرين قانتين يعصف بهم اليأس أحيانا والأمل أحيانا أخرى، يرنون إلى الأفق الأعلى،  ينتظرون ما قد تجود به عليهم السماء من تغييرات، وإلى آخرين انساقُوا مُزمّرين مُهلّلين مُطبّلين مباركين لأنظمة لا يربطُهم بها سوى مقدار ما تٌحقّقُه لهم ولذويهم من امتيازات ماديّة ومناصب تختلف أهمّيتُها باختلاف ما يُبدون من ولاء .

   أما الشباب الذي قاسم آباءه سنوات الجمر وكبت الأصوات التي ترنو إلى التغريد بالحريّة، فإنّهم وفي لحظة ما زحفُوا رافضين وضعا مُعاكسا لصيرورة التّاريخ الطبيعي، يُنادون بوضع حد لكل المظالم والمآسي  التي عاشوها وعاشها آباؤهم من قبل، مُكسّرين،  بشعارات سلميّة،  أركان نظام نخرته الأمراض الاجتماعية،  وعمّه الجهل والفسق وأنانيّة مُفرطة،  واعتداءات على حُقوق النّاس وعلى مُمتلكاتهم،  ممّا أدى إلى فرار رأس النظام.
  
   إن هذا الشباب الذي كان بعضهم وقودا للثورة ليس اليوم على استعداد لتقبّل ما تجُود به قرائح من استقدمهم السلفيّون وأنصار الشريعة، بمُباركة من حزب حركة النهضة وبمُرافقة بعض رُمُوزه أمثال اللّوز وبو صرصار وشورو، من فتاوى يُطلقُ بعضُها على الهواء فتستقطبُها عُقول غير مُكتملة الإدراك، محدودة المعرفة والتّأويل والفهم الصحيح لمقاصد النص القرآني، عُقُول أفرزها بامتياز النظام الدكتاتوري بتركيزه منظومة تعليميّة أُفرغت من مُحتواها، وبإصداره كلّ ما يُشجّع على الكسب السريع بأقلّ ما يُمكن من البذل والجُهد والمُراجعة للمُكتسبات التعليميّة التي ما أن  يُختبر فيها المُتلقّون حتّى تتبخّر وتُصبح كأنّ شيئا لم يكُن، إلى حد  أن المُربّين أصبحوا يتعجّبون لوُجود بعض من ما زال من التلاميذ من هو مهووس بحبّ اكتساب المعرفة و بالسّعي إليها أينما كانت، كأنّه أطلّ عليهم من زمن أو من كوكب آخر.
  
   وبالرغم من كلّ هذه النقائص فإنّ الخير كلّ الخير في شباب رافضا شيوخا أطلّوا عليهم من زمن غير زمنهم، يُقدمون فتاوى، تنتشر عبر الشّبكات الاجتماعية،  بعضها يُثير الضحك وأغلبُها يبعث على الشّعور ب ...الغثيان، من بينها:
* تحريم اختلاء الأب بابنته في غياب الأم!
* ختان البنات لكبح جُمُوحهنّ الجنسي !
* جواز نكاح الزوجة المُتوفاة نكاح وداع! ( لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم، ألا يكفي الرجل مرارة فقدان زوجته حتّى يُجامعها؟؟؟)
* إرضاعُ الكبير ( أعرفُ كثيرا من المُراهقين يتحرّقون إلى الارتقاء إلى مرتبة الكبير!!! )
* وآخر بدعة / فتوى أخرجها الشيخ محمد العريفي،  تدعو إلى التساؤل بجديّة عن مدى صحة المدارك العقليّة للرجُل، وهي  تبريره الزنا بإضفاء صبغة الشرعيّة عليه، وتسميته ب " زواجُ المُناكحة " و يُعرّفُه بأنّهُ الزواج الذي تقُومُ به المُسلمة المُحتشمةُ البالغة 14 سنة فما فوق أو المُطلّقة أو الأرملُ، مع المُجاهدين في سوريا،  وهو في نظره  جائز شرعا، وليس أكثر من  زواج لبضع ساعات. والأنكى اعتبارُه  من موجبات دخول الجنّة لمن تُجاهد به!!!
بشرى لأخواتنا السوريّات، الجميلات اللواتي قيل فيهنّ أن من لم يتزوّج شاميّة فقد مات أعزبا، بشرى لكنّ بالجهاد في سبيل اللّه، بمنحكن أنفسكن لأخواتكن الثائرين في وجه الطاغوت الأسدي، مقابل الجنّة!!!

ما أيسر هكذا جهاد!!! أظنّ أنّه لا يوجد أيسر منه سوى" دُخول المرء الجنّة في هرّة ".  

   للعلم فإنّ محمد العريفي هذا قد زار بلادنا في الأسابيع الأخيرة ومكّنه السلفيّون من اقتحام معاقل الفكر عندنا،  وإلقاء المُحاضرات في جامعاتنا، في حين يُمنعُ أصحاب الفكر النير من التونسيّين من أمثال ألفة يوسف ويوسف الصدّيق من إلقاء مُحاضرات بمدينة قليبية الجميلة في الصائفة الماضية، ويُكفّر أستاذ الأجيال محمد الطّالبي ويُتّهم بالخرف!!! دنيا عجيبة وغريبة فعلا.

   إنّ أمثال هؤلاء الدعاة ليسوا في الحقيقة سوى دُعاة للكراهيّة العُنصريّة والمذهبيّة ، يقسّمُون المُجتمع، كما فعل ذات يوم الداعي الآخر، وجدي غنيم، إلى مُسلمين وكفّار، زارعين بُذور الفتنة والإساءة، يتقاطعون في دعوتهم مع السلفيّة الجهاديّة التي يرى المُنتسبُون إليها أنّ الخلف، وإن بالسّيف امتداد لسلف صالح، قافزين بذلك على حُدود الزمان والمكان، غير عابئين بما طرأ على العالم من مُتغيّرات وتحوّلات جذريّة عبر حقب تاريخيّة جعلت من الوضع غير الوضع، ومن العالم غير العالم، ومن السّياق غير السّياق، فأصبح الرّاهن غير الماضي البعيد، ومع ذلك تراهُم رافضين وُجود الآخر المخالف لهُم، ويُعادون الديمُقراطيّة التي اعتنقتها أغلب بلدان العالم اليوم،  واعتبرتها أقلّ الأنظمة عُيُوبا، ولا يرون فيها غير"  منظُومة كُفر وفساد "، لأنّها تمنح الإنسان حريّة التّشريع، في حين أنّ التشريع في نظرهم من الوظائف الإلهية المُطلقة.

   إنّ اللّه خلق الإنسان في أفضل صورة، وحمّله مسؤوليّة أشفقت الأرض والجبال والسماوات من حملها، وزرع فيه عقلا ليعقل الخبيث من الطيب، وليُدرك به حقائق الأمور وأسرار الكون الفسيح، وليرسُم الخُطوط الكبرى لخريطة وُجوده ككائن فاعل في هذا العالم، مالكا لمصيره، يُقارعُ الحُجّة بالحُجّة ، لا بحُجّة العنف الذي انطلق من عمليّات باب سويقة، وتفجيرات ببعض الفنادق السياحيّة  بمدينة المُنستير، في بداية ثمانينات القرن الماضي، ليتواصل بعد أن عرف فترة من الخمود مع عمليّة مدينة سليمان المُسلّحة، ثم الهجوم على بيت صاحب قناة نسمة التلفزيّة بعد بثّها لفيلم برسيبوليس التي اعتُبرت بعض لقطاته المصوّرة مسّا من الذات الإلهيّة، ليتواصل في مدينة بئر على بن خليفة، ثمّ في مدينة تونس يوم غزوة السفارة الأمريكيّة، فحوادث دوّار هيشر، قبل قتل المُواطن لطفي نقض بمدينة تطاوين وسحله، وليصل هذه الأيّام إلى المُطاردة بين قوات الجيش الوطني وعصابة مُسلّحين قتلت رجُل أمن من مواليد قرية الكرمة( الهوارب سابقا).

   كلّ هذه الأحداث ليست سوى تعبير صريح عن رُؤية السلفيين لقضايا المُجتمع، وتجسيم لطُرق مُعالجتها.

   فهل يسير بنا الفكر السلفي وما يُنتجُه من فتاوى غريبة عن واقعنا وتراثنا وتاريخنا الثقافي إلى حرب أهليّة،  تأتي على الأخضر واليابس وتنسف ما هو جميل في بلدنا، أم إلى انقلاب يُحوّل البلاد إلى رهينة بين أيدي المشائخ على غرار ما حدث في إيران حيث يشنق المُعارضون ويُعلّقون عاليا في رافعات ليكونوا عبرة لغيرهم؟

                                                                                            العوينة، ديسمبر 2012.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire