jeudi 3 janvier 2013

ماذا أضاف للحياة السّياسية توالُد الأحزاب في تونس ما بعد الثّورة؟



إحدى ابداعات "زاد" Z الفنان الكاريكاتوري التونسي  


   ثورة الياسمين، هكذا سمّاها البعض رغم اعتراض  الكثيرين  على هذه التّسمية، ألقت في ظلُمات التّاريخ، وفي  فترة زمنيّة وجيزة جدا،  لا تزيد عن الشّهر الواحد، نظاما طغى على البلاد والعباد، وفتحت للحُريّة بابا اجتهد النظامان السّابقين في إحكام إغلاقه، وأطلقت العنان لألسُن ألجمت عقودا طويلة فانبرت تتلذذ نسمات تحرر الحياة السياسيّة من الحواجز التي أعاقت سيرها الطّبيعي، وهو لعمري مكسب غنمهُ الشعب و لا يُقدرُه حقّ قدره إلاّ من حُرم منهُ، في انتظار مغانم أخرى قد تأتي وقد ... لا تأتي !!!
   ومن البديهي أن يهيئ التحرر إيّاهُ مناخا مُلائما لظُهور عشرات الأحزاب السياسيّة والمُنظّمات المدنيّة.

 وبالفعل فقد بلغ أو ربّما تجاوز عدد الأحزاب السياسيّة في البلاد اليوم مائة وخمسون حزبا، أي بمُعدّل حزب واحد بالنسبة لكلّ 700 مُواطن، هذا دون اعتبار غير المُتحزّبين من المُواطنين، ممّا قد يُرفّعُ من عدد المُواطنين لكلّ حزب سياسي بغضّ النظر عن اختلاف أحجامها واختلاف عدد المُنضوين تحت لواء كلّ واحد منها، وهو لعمري مُعدّل قل أن وُجد نظير له في العالم بشقّيه النّامي حديث العهد نسبيّا  بتحرر الحياة السياسيّة، والمُتقدم الذي راكم تجربة الممارسة السياسيّة التي زادها دفعا عصر الأنوار واندلاع الثورة الفرنسيّة في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، والتي قضت أو كادت على الأنظمة السياسيّة في شكلها التّقليدي، لتفسح المجال لظهور النظام الجمهوري الحديث.

   ولئن  يرى جانب من المُلاحظين أن ما رافق عمليّة تحرير السياسة في تونس،  ونزع عنها عقال الكبت والخوف، من توالُد لعشرات الأحزاب السياسيّة أمرا سلبيّا، لما قد يترتّب عنهُ من تشعّب للحياة السياسيّة، قد  يؤدّي إلى عُزُوف جانب هام من المُواطنين عن الإقبال على الانخراط فيها،  خاصة وأن المناخ السياسي قد غلب عليه التوتّرُ، والتراشُق بالتّهم،  والميلُ إلى العُنف اللّفظي وحتّى الفعلي، فإنّ الجانب المُقابل يرى في ذلك علامة صحّة جيّدة،  ودليل على نجاح الثورة في إحياء الإدراك والوعي السياسي للمُواطن،  وترغيبه في المُساهمة في الحراك السياسي،  وإبداء الرّأي فيه على أساس أنّه شأن عام.

   يبدو أن لكلّ من الطرفين في ذلك مُبرّراته التي يراها منطقيّة ومُقنعة ومُتضمّنة لقدر ليس بالهيّن من " الحقيقة ". إلاّ أن الرّأي عندي أنّهُ لا سبيل إلى الحدّ من الحريّة التي أنتجتها الثورة، لأنّنا سنكونُ بذلك من دُعاة الاعتماد على الأساليب القمعيّة،  التي لطالما ركبتها الأنظمة الغاصبة لحُقوق شُعوبها،  وفي مُقدمتها حُريّة التعبير عن الرأي المُخالف، وهو ما لا سبيل إليه بعد أن لفظ الشعب المنظومة القديمة لفظا لا رجعة فيه. إلاّ أن هذا الموقف المبدئي لدعم الحريّات بمُختلف أشكالها لا يعني ضرورة النظر بعين الرضا لتوالُد التّشكيلات الحزبيّة،  توالدا لا محدودا حتّى يُصبح من العسير على المُواطن أحيانا التفريق بين حزب وآخر،  لا على مُستوى الاسم فحسب بل كذلك على مُستوى البرامج وطُرُق العمل والمُخططات،  متوسّطة وطويلة المدى والأهداف العاجلة والآجلة. إنّنا نُلاحظ اليوم على الساحة السياسيّة تواجُد عدد من الأحزاب استنسخت برامجها و أسماءها من أسماء وبرامج بعض الأحزاب الأخرى، ولا أدلّ على ذلك من أنّ أسماء البعض منها مُشتقّ من ألفاظ العدل والتنمية والعدالة والنماء والنموّ...

   ولئن ساهمت هذه الأحزاب في وقت ما في تنشيط الحياة السياسيّة،  إلاّ أنّها ساهمت من جانب آخر في تشتيت المجهود السياسي،  وأدخلت على إدراك المُواطن ارتباكا دفع به أحيانا إلى مُقاطعة العمليّة الإنتخابيّة كليّا، وبالإضافة إلى ذلك فإنّها  تعيش أوضاعا مُضحكة – مُبكية لعجز بعض أمنائها العامين عن دفع معاليم كراء مقرّاتهم التي تفتقر إلى أبسط التّجهيزات، فضلا عن عجزهم عن تركيز هياكل تنظيميّة لأحزابهم تتضمّن لجانا منها لجنة الدعاية،  ولجنة الإعلام والاتصال،  ولجنة الدراسات الإستراتيجيّة التي تعنى برسم السياسة الإستشرافيّة والسّهر على تنفيذها،  ولجنة تعنى بتركيز المقرّات الفرعيّة في مختلف جهات البلاد، ولجنة النشر التي تُدير جريدة ناطقة باسم الحزب،  يعبّر فيها عن مواقفه من القضايا الأساسيّة والهامشيّة منها،  خاصة تلك التي استنفذت من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي وقتا ثمينا مثل قضايا الهويّة الوطنيّة، وتطبيق الشريعة من عدمه، ومكانة المرأة في المُجتمع، وختان البنات الذي روّجه بعض دُعاة السلفيّة الموغلة في الجهل بمقاصد الدين، وإلزاميّة ارتداء الحجاب أو النّقاب، والاختلاط في المُؤسّسات التربويّة وفي مراكز العمل وفي وسائل النقل وحتّى في مناطق الاصطياف، وإعادة الحياة للتعليم الزيتوني، والجدال الذي قام حول استقدام دعاة سلفيين مشارقة بثّوا أفكارا غريبة عن مُجتمعنا، وثقافتنا وتقاليد هذه البلاد، بالإضافة إلى القضايا الأساسيّة مثل البطالة، والفقر،  وتهميش الأقاليم الداخليّة ، وظاهرة الانحراف، وارتفاع نسبة الإجرام ونسبة الانتحار، بالارتماء في أحضان البحر أملا في الوُصول إلى ضفّة الأحلام،  أو بالدخول في إضراب جوع مُتوحّش أدّى إلى حد اليوم إلى وفاة شابين في مُقتبل العمُر .

   لقد أصبحت ظاهرة أو موضة تعدد الأحزاب،  تثير قرف المُواطن من السّياسة وتوشك أن تدفعه إلى اللاّمُبالاة التي رافقته زمن النظام المُنهار، لأنّه أصبح يعتبرها سببا من أسباب بلائه لما يصدرُ عن البعض من السياسويين من تكفير،  وسباب وتراشُق إعلامي،  لا يُمكن بأيّ حال من الأحوال أن يرتقي بدرجة الوعي لدى المُواطن، بل يُسقطنا في الابتذال السياسي ويبعدنا عن تحقيق أهداف الثّورة.

   إنّ السّؤال المطروح اليوم هو التالي: لماذا لا تتحّد الأحزاب التي تشترك في نفس المرجعيّات الفكريّة ولها نفسُ  البرامج وتتقاربُ في الأهداف  في جبهة مُوحّدة،  كما يحدث في صفوف الديمقراطيين والمُساندين لمطامح الطبقات الشعبيّة، و ما قد يُسفر عنه في  قادمُ الأيّام من اتحادات وتجمّعات وجبهات أخرى، فتنقسم الأنشطة السياسيّة بذلك إلى أربع تيارات أو عائلات سياسيّة كبرى وهي تيّار الإسلام السياسي ويضم النهضة والسلفيين بشقّيهم الدعوي والجهادي، ومن لفّ لفّهم،  والتيار الليبرالي الذين يّطلق عليهم أنصار الإسلام السياسي اسم " أزلام النظام السابق" والتيار اليساري، والتيار القومي.

   وهكذا تُصبحُ الحياة السياسيّة أكثر توازنا ممّا أسفرت عنه انتخابات 23 أكتوبر 2011، التي أفرزت  استئثار حزب حركة النّهضة بنسبة مُرتفعة من الأصوات،  لكن غير كافية لتحقيق الأغلبيّة،  فاضطرّت إلى التحالُف مع أحزاب ضعيفة تضمن لها  الحُصول على الأغلبيّة،  لكن  في المُقابل تفرض عليها اختياراتها إن كان الأمر يتعلّق بإصدار القوانين المُنظّمة للحياة العامّة،  أو بوضع دستور على مقاسها، نخشى أن يُتراجع فيه يوم تتغيّرُ موازين القوى السّياسيّة في البلاد.

   وهكذا تُخلّصُ الحياة السياسيّة من التشعّب،  ويُصبح المُواطن على إدراك أعمق بمُكوّنات المشهد السّياسي، وتتّضح الرّؤية لديه،  ولا نشهدُ تشتّت أصوات النّاخبين كما حدث خلال آخر انتخابات، أو ربّما عُزوف جانب منهم عن الإقبال على صناديق الاقتراع والتصويت لفائدة من يستأنسون بكلّ حريّة واقتناع،  وهو حقّ آخر إلى جانب حريّة التعبير، ضمنته لهم الثورة.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire