mardi 18 octobre 2011

جدليّة العلاقة بين الحريّة واللاّحريّة




قضيّتان أثارتا هذا الأسبوع جدلا واسعا احتد و يكتسي درجة متقدّمة من الإثارة بين تيّارين على طرفي نقيض فكريّا وهما تيّار الحداثة و تيّار السلفية أوالرجعيّة أو الماضويّة ...
هذا الجدال ليس غريبا في حقيقة الأمر عمّا يحدث في البلاد منذ 14 جانفي 2011، يوم فكّ لجام الألسن وحرّرت العقول المكبّلة طويلا والممنوعة من التفكير ومن إبداء رأي مخالف لما كان سائدا، في قضايا تهمّ الشّأن العام. ذلك لأنه( الجدال)
 ليس سوى إحدى حلقات مسلسل ، نعلم متى بدأ لكن نجهل منتهاه وإلى أين بنا يسير، مسلسل يقوم بدور البطولة فيه أنصار تيّار سلفيّ،  متستّرين بحزب ديني فاعل في الحركيّة السياسيّة ومعترف قانونا بنشاطه ونجح في زرع خلايا تابعة له في شكل حزيبات تتقاسم معه الأدوار في مسرحيّة يعبّرعنها باللسان الشعبي التونسي بعبارة: " لعبة خاين وقعيدة"!!!
أمّا أهمّ حلقات هذا المسلسل الذي لم ينته بعد فهي :

  • إنزال العديد من الأئمّة من منابر المساجد الجامعة لأنّهم ليسوا من رجال المرحلة! وتعويضهم بأئمّة أغلبهم من فئة الشباب المتحمّسين ، تعوزهم الرصانة أو ما يعبّر عنه ب" الحكمة" عند التطرّق إلى مسائل حسّاسة ،لا يفرّقون عن وعي أو عن غير وعي بين إرشاد المصلّين وتثقيفهم في شؤون دينهم بالموعظة وحسن الكلم وبين العمل الدعائي لتيّار فكري معيّن ، بل منهم من يدعو بصريح العبارة إلى إنزال الحدّ بمن تجرّأ وعرض فلما مسّ حسب رأيهم ب" المقدّسات"!!! كلّ ذلك أمام صمت مريب للدوائر المسؤولة عن الشعائر الدينيّة لوزارة الإشراف.
  • اعتراض المصطافات صيفا ، في الشواطئ ومنعهنّ من السباحة بمايوهات لم تعهد أعيننا منذ عقود غيرها كثياب سباحة نسويّة ، غاية ما في الأمر أنّها تزيد أو تقلّ طولا حسب ظروف الوضع ودرجة " حياء" المصطافة ذاتها.
  • التهجّم على البيعة اليهوديّة بشارع الحريّة بالعاصمة التونسيّة كسابقة لعدم التسامح تجاه فئة من التونسيّين لعلّهم أكثر عراقة وتجذّرا في هذه الأرض الطيّبة من مهاجميهم.
  • الاعتراض العضلي L' opposition musclée أمام قاعة العرض أفريكارت لمنع عرض فلم المخرجة نادية الفاني " لا سيدي لا ربّي" والذي تحوّل عنوانه بقدرة قادر إلى " لائكيّة إن شاء اللّه". وكان ذلك أوّل تنازل!!! 
  • إعلان قيام إمارة إسلاميّة بمخيّم "الشوشة" قرب مدينة راس جدير بالجنوب الشرقي التونسي أين وجد إخوان لنا في نضالهم ضدّ الطاغوت ملجأ يحميهم من نيران كتائب نظام استبدادي منهار هو الآخر.

  • استفزاز طالبة جامعيّة بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بمدينة سوسة إدارة الكليّة بإلحاحها على التسجيل وهي منقّبة بنقاب لا أحد يدري ماذا يخفي تحته، وأمام رفض طلبها لسبب أمني وبيداغوجي، عادت من الغد مصحوبة بمجموعة من " البانديّة" يحملون عصيّا وأسلحة بيضاء، من الملتحين وغير الملتحين، لترويع موظّفي المؤسّسة الجامعيّة وبثّ الرعب في صفوف طلبة علم لا طلبة "بلطجة"، وتبليغهم رسالة مفادها "نحن هنا الآن وغدا، لا شيء يمرّ دون أن تكون لنا عليه رقابة لنمنحه صكّ المرور أو الاعتراض عليه" !!!
  • مهاجمة مقر قناة تلفزيّة خاصّة عرضت شريطا متبوعا بنقاش ، يتطرّق للعلاقة بين الحداثة والأصوليّة ، تدور أحداثه في بلد يمسك فيه الملالي بالحكم بقبضة من حديد، وفيه لقطة تجسّم حوارا بين طفلة وما تمثّله خيالها الخصب والذي لم يدرك بعد أبعاد الفضاء من طول وعرض وعمق، من صورة للإله، لا تختلف كثيرا عن الصور التي رسمها كلّ مسلم أو غير مسلم في ذهنه، عندما كان صغيرا، للذات الإلهية، يحاورها ويلجأ إليها في لحظات ضعفه يطلب منها الصفح والغفران لخطيئة ارتكبها، أو يطلب منها مساعدته على إنجاز فعل ما.
لا علاقة لهذه الصبيّة في رأيي بالصفات الإلهيّة. وهل يطلب من فتاة في مثل سنّها الخوض في هذا المشكل المتشعّب؟ وهل مطالبة هي بأن تكون قد اطلعت على آراء المفكّرين في الصفات الإلهيّة ؟

هل كان عليها أن تعرف مثلا رأي المعتزلة في ذلك، والتي ترى أنّ اللّه :" واحد ليس بجسم ولا شبح ، ولا جثّة ولا صورة، ولا لحم ولا دم ولا شخص، أي أنّ اللّه ليس كائنا ماديّا، ولا جسما إنسانيّا ولا حيوانيّا، ولا يتكوّن من جواهر، ولا تلحقه أعراض، لأنّه لا لون له ولا مجسّة ولا طعم ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول له ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ... ( لا تتجزّأ ذاته ) ولا تبتعض، ليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء ... لم يزل أوّلا سابقا، متقدّما للمحدثات، موجودا قبل المخلوقات، لم يزل عالما قادرا حيّا ولا يزال كذلك... قديم والقدم أخص وصف ذاته، لم يكن له في الأزل اسم ولا صفة، لأنّ الصفة وصف الواصف، ولم يكن في الأزل واصف ولا اسم، هو التّسمية ولم يكن في الأزل مسمّى، إنّه شيء لا كالأشياء، عالم قادرلا كالعلماء القادرين، حتّى لا كالأحياء لا إلاه سواه".
أي أنّه في نهاية الأمر "ليس كمثله شيء".

هل يطلب منها وهي في مثل تلك السنّ الإلمام بالمتشابه من الآيات، أي تلك الآيات التي يحفّ بها غموض الشبهات والالتباس، في ظاهر بعضها صفات للّه كقوله تعالى : " إنّ اللذين يبايعونك إنّما يبايعون اللّه يد اللّه فوق أيديهم"، وفي بعضها ما يدلّ ظاهرها على الجهة كقوله : "للّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه إنّ اللّه واسع عليم" أو قوله تعالى : "إنّ ربّكم اللّه الذي خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش يدبّر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه ذلكم اللّه ربّكم فاعبدوه أفلا تذكّرون"

من منّا في لحظة ما من حياته، طفلا أو كهلا أو شيخا لم يجنّح به خياله في عالم من المتصوّرات والتخيّلات لوجه اللّه أو ليده أو للعرش الذي يجلس عليه، كلّما قرأ ما تيسّر من كلامه أو أنصت لتلاوته؟؟؟

ثمّ ألم تفض هذه الآيات ومثيلاتها إلى مناقشات وجدل أفرز علما برمّته له أصول وقواعد ومبادئ سمّي ب "علم الكلام" والذي يعرّفة الأستاذ محجوب بن ميلاد بكونه ترجمة لكلمة Logos اليونانيّة الدالة على ثلاث معان هي العقل والكلمة والحساب ، فالكلام هو علم الجدال المعتمد على العقل.

  • تنظيم احتجاجات ومسيرات لعشرات الشبّان من الفتيان الملتحي أغلبهم والفتيات" اللاّبسات" جلّهنّ، رافعين شعارات مجّها الرأي العام لكثرة ما كرّرتها الحناجر إلى حد إفراغها من معانيها مثل: " يا ...(صاحب القناة) يا جبان الإسلام لا يهان"!!! علما وأنّهم احتلوا محطّات المترو وأعاقوا النّاس على التنقّل لقضاء شؤونهم، فلا تقل لي بعد هذا أنّ في صنيعهم لا وجود لاعتداء على حقوق المارّة في التنقّل أنّى شاؤوا؟ هذا وقد سبق أن قدّم صاحب القناة اعتذاراته للشعب التونسي. وهذا تنازل ثان!!!
  • المناداة من خلال معلّقات ألصقت على واجهات الدكاكين في الأحياء الشعبيّة وعلى واجهات المغازات في الأحياء الأكثر رقيّا، تدعو إلى مقاطعة القناة في ليلة كذا وعلى السّاعة كذا بهدف "إسقاطها"( القناة)لأنّها" معادية للإسلام وللإسلاميّين وتدعو إلى الإلحاد وتشجع عليه" !!!
القضيّتان هما حريّة التعبير من ناحية والحدود التي يجب أن تقف عندها -  إن اتفق على وجود حدود من عدمه  وتلك قضيّة أخرى- ، والزمن الذي أختير لبثّ فلم برسيبوليس من قبل القناة إيّاها من ناحية أخرى.
ولئن كانت قضيّة الوقت الذي بثّ فيه الفلم ثانويّة في رأيي لاعتقادي أن لا وجود لوقت مناسب وآخر غير مناسب لطرح قضيّة ما، لأنّه علينا تنسيب كلّ شيء ، بمعنى أنّ ما هو مناسب لي زمنا قد لا يراه غيري مناسبا إذا ما نظر إليه من زاوية ذاتيّة، إذ لكلّ منّا دوافعه التي يحدّد على ضوئها الزّمن الذي يرتئيه مناسبا لها. إضافة إلى ذلك فإنّه لا وجود لإختيار بريء براءة مطلقة حسب علماء النّفسRien n'est gratuit  ، وهذا يجرّنا إلى طرح إشكاليّة على علاقة وثيقة بمسألة إختيار الوقت المناسب وهي : من يخوّل له إختيار الوقت المناسب لفعل ما وحسب أية مقاييس يتمّ ذلك الاختيار؟

ليس هيّنا الإجابة على هذه الإشكاليّة لأنّها تدخلنا في متاهات يعسر الخروج منها بتوافق كلّ الأطراف.

إلاّ أنّ القضيّة الأساسيّة في رأيي، والتي أعتبرها حجر الزّاوية في هذا الجدال الذي استحوذ على مجال فسيح من فضاء اهتماماتنا في الأيّام الأخيرة، إنّما هي قضيّة حريّة التّعبير وهي في تقديري الخاص قضيّة "أن نكون أو لا نكون"، لأنّ الحريّة إنّما هي منشد كلّ كائن بشريّ أينما كان، يرى أنّ الحياة التي نعيش لا تكون جديرة بأن تحيا ما لم يتوفّر فيها مناخ من الحريّة المطلقة والتي تعتبر حريّة التفكير والتّعبير أثافيها الأساسيّة وأهمّ تجلّياتها.

ولعلّ انعدام الحريّة، حريّة التعبير تحديدا، في تاريخنا العربي الإسلامي قد ساهم في انحطاطنا الحضاري وأفضى إلى بروز حركات دينيّة / سياسيّة باطنيّة وظاهرة، لا يزال  لها العديد من الأنصار والمريدين إلى يوم النّاس هذا مثل الإسماعيليّة والنصيريّة والقدريّة والجبريّة والمرجئة والزيديّة والخوارج وأصنافها صفريّة وإباضيّة وأزارقة ...وقد كان لها دور خطير ليس فقط في التّاريخ السياسي، بل كذلك في التّاريخ الرّوحي للمسلمين منذ القرن الثّاني للهجرة.

وفي المقابل عندما توفر مناخ الحريّة المشجع على العلوم والمعرفة، واعتبر الإقبال عليهما شرف لا تغني عنه الوظائف السياسيّة أو الدينيّة المقرّبة صاحبها من مصدر السّلطة، بدأ العرب يعيشون أزهى فترات تاريخهم وذلك منذ عهد المأمون.

لقد كان وراء هذا المناخ قرار سياسي اتّخذه المأمون بعد "حلمه الشهير" ببعث حركة ترجمة الآثار الفلسفيّة اليونانيّة وغيرها ، تلك الحركة التي كان عديد النصارى من روّادها بترجمتهم إلى العربيّة الكتب الفكريّة والعلميّة ووضعها بين أيدي طلبة العلم من العرب ومنها كتب فيثاغورس وأبوقراط وجالينوس وأفلاطون وأرسطو ...
ولعلّه من العدل تجاه هؤلاء الذين قاموا بأعباء الترجمة ذكر أسماء أشهرهم أمثال جورجيس بن جبرائيل ويوحنّا بن ماسويه ويوحنّا أبو يحي البطريق والحجاج بن يوسف الورّاق الكوفي وقسطا بن لوقا البعلبكّي وعبد المسيح بن ناعمة الحمصي وحنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين وثابت بن قرّة وحبيش الأعسم إبن أخت حنين ...



ويبقى الرهان الذي يستوجب علينا كسبه، رهان الحريّة الذي لم ينجح أيّ طرف كان من الأطراف السياسيّة والفكريّة في تونس خلال العقود الخمس الأخيرة في طرحه للنّقاش على نطاق واسع بسبب إحكام قبضتي نظامين سابقين على الحريّات الأوّل بداعي الحفاظ على تماسك الوحدة الوطنيّة والثّاني بداعي التصدّي للإرهاب، ويعود الفضل في وضعه على محكّ الجدال إلى شباب طفحت كأس صبرهم فنزلوا إلى الشوارع سلاحهم عزمهم على التحدّي ورغبتهم في التغيير، ووسيلتهم تقنيّات الاتصال الحديثة.
لذا علينا اليوم ألاّ نترك هذه الفرصة ، نادرة الحدوث في تاريخ الشعوب، تتسرّب من بين أصابعنا لنحقّق مستقبلا أفضل لأبنائنا من الجيل الصّاعد ومن الأجيال القادمة، مستقبل مغاير لماض حالك فكريّا على الأقلّ علكناه طويلا وطحنته أسناننا غيضا  وأوشكنا أن نقذف به خارج الأفواه من فرط اليأس الذي استبدّ بنا وأنهك نفسيّاتنا التي ما تكاد تخرج من انهيار حتّى تسقط بين براثن انهيار آخر أكثر فتكا وتدميرا لذواتنا.

إنّ الحريّة اليوم هي المحكّ الذي تختبر فيه إرادتنا للبناء والتّشييد وتحقيق التنمية الشّاملة، فإمّا أن نكسبها إلى جانبنا وإمّا لا معنى لثورة 14 جانفي.

إنّ الحريّة هي الأصل وما سواها سراب. وأمّا التقييد وتكميم الأفواه واغتيال العقول ووضع خطوط حمراء يمنع تجاوزها فإنّها  ليست غير استثناء ما أنزل اللّه به من سلطان.

                                                                                         العوينة، تونس، 15 أكتوبر 2011.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire