الثورة اللّيبية وانتشار فوضى السلاح
ثورة فبراير الليبية التي دعمتها قوات حلف الناتو، أسقطت
نظاما تواصل لأكثر من أربعة عُقود، إلا أنّها افرزت وضعا كارثيّا على كل الأصعدة
أهم ميزاته تدمير الدولة وهدم البنى التحتيّة وما ترتّب عن ذلك من انتشار رهيب
للفوضى شمل كل رُبُوع البلاد ما أصبح يُشكّلُ خطرا على سلامة سُكان أصبح
قاسمهم المُشترك امتلاك الأسلحة القتاليّة، الخفيفة منها والثقيلة، بأعداد لا توجد
أحيانا في ترساناتةعدد من الدول النامية.
انعكست هذه الحالة الآبوكاليبسيّة على الوضع الداخلي في تونس عبر
بُوابتين:
البوابة الأولى هي لُجوء أنصار النظام الليبي المُنهار- ومن
غير الأنصار أيضا- إلى بلادنا أين شكّل
بعضهم قوى معارضة تسعى إلى اخماد
الثورة وهي في خُطواتها الأولى.
البوابة الثانية تتمثّلُ في تسرب كميّات كبيرة و
مُتنوّعة من الأسلحة عبر الحدُود المُستباحة دوما من قبل المُهرّبين لمُختلف أنواع
البضائع في الإتجاهين، ليصل بعضُها إلى الجزائر ومنها إلى التشاد والنيجر فيها
يبقى البعض الآخر بين أيدي الإرهابيين المُقيمين بين ظهرانينا في الجبال كما في
المُدن.
لقد تحوّلت ليبيا ما بعد الثورة إلى بلد يتخبّط في فوضى
عارمة ويتوزع فيه السلاح بين القبائل والأحزاب والجماعات التكفيريّة الإرهابية،
وكذلك بين التجار الذين أضحوا يُعرضون" بضائعهم " من مختلف قطع السلاح، في الأسواق العمومية على مرأى ومسمع من كل
الأطراف، وفي واضحة النهار كما تُعرض الدواب للبيع في الأسواق الأسبوعيّة.
وتحوّل بلد شيخ المجاهدين عمر المُختار إلى فضاء شاسع
تتركز فيه مُعسكرات تدريب أو "صناعة
" الإرهابيين منها معسكرات الغرب القريبة من الحدود التونسية الليبية أين يتدرب حسب بعض المصادر مئات من مواطنينا قبل أن
يتم تصدير البعض إلى سوريا للجهاد و يُعاد تصدير البعض الآخر إلى تونس.
المال الخليجي ودعمُه الجمعيّات الخيريّة
آلاف الجمعيّات
خيرية كانت أو مدنية أو دعوية تأسست في الثلاث سنوات الأخيرة. وتُشير
الأرقام الرسمية في أواخر عهد النظام المنهار إلى وجود ما يزيد عن ستة آلاف جمعية
مدنية من ضمنها جمعيات صيانة وحراسة العمارات السكنيّة، والجمعيّات الحقوقية، والرياضية، وجمعيات حماية
البيئة والمُحيط ، و ذلك تلميعا لصورة نظام حرص على الظهور في مظهر المُشجع لحرية
التعبير، ولحرية تأسيس الجمعيّات، واحترام حقوق الإنسان
بعد الثورة تزايد عدد الجمعيّات ذات المضمون والشكل
الدينيين تحت عنوان جمعيّات دعوية، أو خيريّة، قامت بعد تأسيسها بالتدخّل – إلى
جانب جمعيات و منظمات المجتمع المدني -
لفائدة المواطنين المنكوبين جرّاء الفيضانات التي اجتاحت أجزاء من الشمال الغربي،
اثر هطول كميات كبيرة من الأمطار والثلوج ما عطل الحركة في ولايتي جندوبة والكاف
خاصة.
اقتصرت الأنشطة " المدنية "لهكذا جمعيّات مع
قدوم شهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى أول الأمر على الجانب الاجتماعي والتضامُني،
مع شيء من دعاية تسمى عند اللغويين رياء.
لكن نمت بالتوازي مع ذلك ظاهرة بعث الكتاتيب ورياض
الأطفال القرآنيّة، وكذلك المدارس القرآنية المُوازية للمدارس الرسميّة لإحياء
التعليم الزيتوني الذي اختفى بعد توحيد نظام التعليم غداة الإستقلال والإعتماد على
النموذج الصادقي المُتميز بانفتاحه على العلوم الصحيحة والعقلية وعلى النمط الغربي
مع تأصيل للثقافة العربية الإسلاميّة. وقد بدأ هذا النمط التعليمي الحديث يرى
النور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وهكذا غدت المنظومة التعليميّة مُزدوجة ببروز منظومة
جديدة مُوازية للمنظومة الرسمية ولا تلتزم بالأهداف التربوية التي رسمتها السياسة
التعليمية.
إضافة إلى كل
ذلك، تم الإستيلاء على مئات امساجد من قبل متطرفين أنزلوا من المنابر عُنوة أئمة
مُعيّنين من قبل وزارة الشؤون الدينيّة، ليُنصّبوا مكانهم أئمة تبنوا خطابا لم
يألفهُ المُصلّون من قبلُ، قوامُه نشر الويل والثبور، وروايات عن عذاب القبور،
وتكفير للعلمانيين ولبعض الأحزاب السياسية، وللعديد من الجمعيّات الحقوقيّة
والجمعيّات المدنيّة، فتوتّر مناخ المساجد التي اُقيمت ليُذكر فيها اسم الله لا
غير، ما دفع عديد المصلين إلى هجرها ومُلازمة بيوتهم مُكرهين.
إلا أن الأخطر من هذا – رغم خطورته – هو تصرّف بعض
الجمعيّات في عشرات ملايين الدنانير تحصّلت عليها من مصادر تمويل خارجيّة، خليجية المنشأ تحديدا، هدفُها نشر
الفكر الوهابي في بلاد تميزت بالإعتدال تاريخيّا.
غزو الفكر الوهابي المُتشدد
تاريخ الفكر الوهابي في تونس لم يكن وليد الثورة. لقد
حاول الوهابيّون منذ القرن التاسع عشر تسريب فكرهم إلأى تونس من خلال رسالة بعث
بها سعُود بن عبد العزيز بن سعُود إلى الباي حمودة باشا الحُسيني، طالبا منه
اعتناق المذهب الوهابي، فما كان من الباي إلا أن طلب من علماء البلاد الرد على
الرسالة ل " يُوصحوا للناس الحق".
هنا نلاحظ أن السلطة السياسية قد تحملت وقتئذ
مسؤوليّاتها وقامت بدورها في الدفاع عن " اسلام تونس " السُنّي المالكي
الأشعري الجنيدي، أي المُعتدل والذي وفّق بين منهجي النقل والعقل، ومكّنت العلماء
من أساتذة جامع الزيتونة المعمور، والمثقفين، من مُمارسة دورهم كأمناء على ثقافة
هذا البلد، ونخبة مُجتمعه، من تقديم تصور معيّن للدين وللإسهام في إثراء الحقل المعرفي
عموما، وحقل البحث العلمي تحديدا.
وجاءت ردود الفعل من عُلماء أفذاذ من أمثال الشيخ عمر
المحجوب والشيخ إسماعيل التميمي، في رسالة ورد نصّها في كتاب اتحاف أهل الزمان
لأحمد بن أبي الضياف.
موقف الباي في القرن التاسع عشر كان أرقى من موقف
الترويكا الحاكمة بقيادة حزب حركة النهضة، ذلك أن هذه الأخيرة أبدت تراخيا واضحا
حتى، لا نقول مُتواطئا مع تسرب المال والفكر الوهابي إلى الفيالق التكفيريّة، ومع
رقصة الذئاب التي كان يُنشّطها دعاة وهابيين، امتهنوا التجارة بالدين، تعلّقوا
بقشوره أكثر مما تعلّقوا بلبّه وروحه، مما يذكرنا بذلك الصراع الذي قام في في
بداية القرن العشرين في تونس بين طرفين هما:
·
دعاة إسلام الإعتدال، اسلام مستنير، منفتح على عصره وعلى
العالم، اسلام الإبداع والخلق، اسلام الإيمان بحريّة الفرد المطلقة في تشكيل حياته
على النمط الذي يراه، وفي تحديد اختياراته وأفعاله، اسلام يُشجع على تدبّر كلام
الله واستنباط الحلول التي يتطلّبها تطور الحياة، وكان من بينهم العلامة الشيخ عبد
العزيز الثعالبي، المتخرج من جامع الزيتونة، ومؤسس جريدة سبيل الرشاد سنة 1869،
والمُشرف على القسم العربي لجريدة صوت التونسي، لسان حال حركة الشباب التونسي التي
كانت من أولى أشكال الحركات الوطنية في البلاد العربية في مطلع القرن العشرين. وقد
كانت للشيخ الثعالبي معرفة موسوعية بالدين والفقه الإسلاميين.
·
دعاة زيتونيون مُتزمتون، تشبّثوا بمفهوم مُتحجر لا
مُتحوّل للإسلام، وكانوا على علاقة متينة بمراكز التكلّس الفكري، من أصحاب الطُرق
الدينية وخاصة الطريقة القادرية، وبشيوخ الزوايا.
ولئن تميّز ذلك الصراع بتواطئي المُعارضين للنفس التحرري
مع السلطات الإستعمارية، وتدبيرهم إيقاف الشيخ الثعالبي سنة 1904، وسجنة مدة شهر إثر
نشره مقالا في مجلة " المنابر "
بتاريخ 13 مارس 1903، يشتكي فيه من تخلف الحياة الفكرية، ومُعربا عن يأسه من إمكان
إصلاح قومه الذين " يعتقدون في أن كل كلمة طيبة هرطقة وكل كلمة جادة زندقة
وكل خلق جديد كُفر وكل سعي إلى الأمام خُطوة من خُطوات الشيطان"، فإن
صراع اليوم بين المُتطرفين والعلمانيين دخل مرحلة الإغتيالات السياسية التي لا
نخالها توقفت بعد سقوط صقري المعارضة شكري بلعيد في 6 فيفري 2012 ومحمد البراهمي
في 25 جويلية 2013.
لذا فالفرق واضح بين مُتشددي بداية القرن العشرين
ومُتشددي بداية القرن الواحد والعشرين الذين أصبحوا ضالعين في الإرهاب وفي
الإغتيالات السياسية.
ونشير إلى أن قوى الشد إلى الى الماضي السحيق،
المُنشغلين عن عبادة العمل بعمل العبادة،
فما وجدوا في العمل كسبا ولا في العبادة أجرا، على حد قول الشاعر الرقيق علي سعيدان، يُعوزهم
التأقلم مع الحاضر، ويميّزهم الكسل الذهني،
ويكتفون باستحضار حلول استنبطها أجدادنا الأفاضل ليعالجوا بها قضايا
الحاضر، لأنها أيسر وتُغنيهم عناء بذل الجُهد، هؤلاء دخلوا في مُواجهة صريحة
ومُعلنة مع المجددين والمتنورين، والمُتأقلمين مع واقعهم المعيش، والمُستشرفين لغد
يريدونه أفضل من الماضي دونما قطيعة مع موروثهم الثقافي ، مواجهة لا أحد يعرف
مآلها.
في الحقيقة ليس جديدا هذا النوع من المواجهات، بل هو قديم
قدم الشمس ولن يتوفق إلا بتوقف نبض الحياة على الأرض، لذلك لم يخل منه لا زمان ولا
مكان لأنّه يندرج ببساطة في خضم جدلية المتحول والثابت، المُتغيّر والجامد.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الدور الذي كانت
تقوم به الزوايا والطرق الدينية بالأمس هو ذات الدور الذي تقوم به الجمعيات
الدعوية والخيرية اليوم، والتي تقع تحت هيمنة المتزمتين الرجعيين والمُتعصبين دينيا،
لكن مع اختلافين اثنين وهما:
الأول أن مُتزمتي الأمس كانوا مُنغرسين في تونستهم،
بينما يُميّز الإنبتات مُتشددي اليوم، المشرئبة أعناقُهم نحو الشرق الإسلامي،
يُراودهم حلم بخلافة سادسة وسابعة، مُعطّلة عُقولهم، يُعالجون قضايا حاضرهم بحلول
ماضيهم.
والثاني أن الطرق الدينية والزوايا ضخّمها الإستعمار
وغذّاها ليوسّع الفضاء الخُرافي والعقلية التواكليّة، وليُشجّع التحجّر الفكري
ويكبت أصواتا ترنو إلى الإنعتاق الثقافي والإجتماعي، فارتفع عدد الزوايا القادريّة
وزوايا العيساويّة بتونس وسوسة وصفاقس، المدن الكبرى وقتئذ، والتي كانت تستغل
عطايا أهل الخير ومداخيل الأحباس، فيما تتصرف جمعيات اليوم في أموال خليجية المصدر
وهابية الهوىـ تُناصب النفس التحرري العداء وتقطع طريق المنزع العقلي ولا تعترف
بقيمة الحُريّة وهي القيمة الأهم في الإسلام.
فهل من حلول لمُعالجة هذا الوضع المُتشعّب والمُركّب؟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire