vendredi 15 août 2014

أصبح الإرهاب خبزنا اليومي : العوامل الداخليّة


العُنف، الإرهاب، لم يولدا في الحقيقة مع "ثورة الحُريّة والكرامة"، بالشكل الذي نعيشُه اليوم، ذلك أن البلاد عاشت عُنفا أو إرهابا سياسيا اهتزت له أركان البلاد في مطلع ستينات القرن الماضي، وقعت حيثيّاته خارج الديار، ونعني اغتيال الزعيم صالح بن يوسف بأمر من خُصومه السياسيين في الحزب الدستوري الحاكم آنذاك، والذي لا يزالُ لوقعه أثر في أعماق " اليوسفية " وفي أعماق " غير اليوسفية " ممن يُعادون اللجوء إلى العنف والإرهاب والاغتيال في العمل السياسي.
ثم عاشت البلاد فترة من الهدوء خلا فيها المسرح السياسي من العنف باستثناء "العنف الشرعي"، عنف الدولة المُسلط على مُعارضيها من  الطلبة اليساريين الذين عرفوا المنافي والسجون مهم في عنفوان الشباب، وأنصار الإتجاه الإسلامي الذين لجؤوا بدورهم إلى العنف ممارسة برشّ خُصومهم بماء النار في مدينة تونس وإضرام النار في مقر لجنة التنسيق الحزبي بحي باب سويقة، نتج عنه وفاة أحد حراس المقر، وتفجيرات مُنتجعات سياحية بمدينتي سوسة والمنستير هندس لها أحد قيادي حركة حزب النهضة والذي ترأس لاحقا حُكومة الترويكا لمدة سنة تقريبا.
في أواخر العهد البورقيبي حوكم الإخوان وزُجّ بهم في السجون لتدخل البلاد فترة هدوء لم تشُبه سوى عملية قفصة بتخطيط من نظام القذافي كرد فعل لإحباط مشروع الوحدة بين البلدين والذي أمضيت وثيقته بجزيرة جربة.
في عهد الرئيس ابن علي عاشت البلاد قضيّتين هما قضية " برّاكة الساحل " في بداية التسعينات والتي قُدم فيها للمحاكمة مجموعة من الضباط العسكريين وعدد من الإطارات الأمنيّة المُنتمين لحركة الاتجاه الإسلامي بتهمة الضلوع في محاولة لقلب النظام السياسي، وكذلك قضية سليمان.
لذا بالإمكان القول أن البلاد عاشت بمنأى عن الهزّات الإرهابية للجماعات المُتطرّفة دينيّا بفضل القبضة الحديديّة التي كان ابن علي يُسيّر بها شُؤون البلاد. 
لكن خلال السنتين الأخيرتين 2011-2012 و2012-2013 وبداية سنة 2014 أصبح الإرهاب ظاهرة يتكرر وقوعها في مناسبات مُتقاربة في الزمن ما أدخل الحيرة إن لم نقل الرعب في قلوب عامة المُتساكنين وأصبحت الأسئلة الأكثر ترددا على الألسُن: إلى أين سيجر هذا العنف والإرهاب المتكرر البلاد؟
ولماذا عجزت المصالح الأمنيّة عن قطع دابره وإراحة النّاس من تداعياته؟
ليس من اليسير الإجابة عن هذين السّؤالين ما لم تتضح الرؤيا بخصوص الجذور المُغذية للإرهاب في بلادنا خلال السنتين الأخيرتين لنتبيّن بعض سُبُل معالجتها.
أصبح من البديهي القول أن الإرهاب تجاوز الإطار المحلّي ليُشكّل حلقة من مُخطط عالمي الأبعاد كانت حربُ أفغانستان ضد الإكتساح السوفياتي  أولى محطّاته لتعقبها حرب الغرب على العراق وهي في الحقيقة أسّ نظرية الفوضى الخلاّقة التي أرسى قواعدها الأولى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر قبل لن تتجسم ملامحها في عهد كونداليزا رايس،  ما يعني أن المناخ الممهد للإرهاب في بُعده  الديني، وهو الذي يعنينا الأكثر، قد توفر ليكون رد فعل من قبل المسحوقين ضد قوى الظلم والاضطهاد والتعسّف وكل القوى" الكافرة" والتي تجوز مقاومتها برفع السّلاح.
بعد ثورة 17-14 في تونس لا حظنا بالعين المجردة تزايد أنصار التشدد الديني من خلال مظهرهم الخارجي: ارتداء الفتيان للحجاب ثم النقاب وقضية كلية منوبة وتوريد عميدها في قضية اتهم فيها بالعنف تجاه طالبة، وارتداء الشبان لأقمصة مُورّد أغلبها تُلبسُ فوق سراويل قصيرة مع انتعال أحذية خفيفة وإطلاق للّلحى حسب أشكال مُختلفة، وحتى من خلال بعض الأنشطة التجارية التي اتخذت من المساجد فضاء لعرض " البضائع الحلال" من عطور وبخور وألبسة وكتب وحتى بعض الخلطات المقوية جنسيا والتي تُلاقي إقبالا من الرجال.
ثم تتالت الأحداثُ التي ساهمت في تصلّب عود المُتشددين دينيا وكانت أهمها.

 تراخي حكومات ما بعد الثورة وتفكيك جهاز الدولة


بعد سُقوط حكومة محمد الغنّوشي الوزير الأول لنظام ابن علي سنوات طويلة، عيُن الباجي قائد السبسي وزيرا أولا مُكلفا بتصريف شُؤون الدولة وقيادة البلاد إلى أول انتخابات ديمقراطية دارت يوم 23 أوت 2011، واختار السبسي لوزارة الداخلية القاضي فرحات الراجحي الذي سرعان ما أقيل لعجزه عن إدارة وزارة على درجة من الحساسية خلال الفترة القصيرة جدا التي  قضاها كوزير والتي  تميزت  بمردوده الذي لم ينل  لضعفه استحسان الخبراء ، ولإسراعه

  
بتفكيك أكثر أجهزة الداخلية دقّة وهو جهاز البوليس السياسي، وإحالة عشرات الضباط على التقاعد الوُجوبي، فيما كان بالإمكان استيعابُهم وإدماجهم في الموجة الثورية التي غمرت البلاد وجعلهم إحدى ركائز المنظومة الجديدة والأستفادة من خبراتهم بتحويل وظيفة الجهاز من آلية لتحقيق أمن الرئيس وعائلته إلى جهاز يساعد على تحقيق أهداف الثورة.
إن جهازا كجهاز البوليس السياسي كان ثمرة تراكم للتجارب وللكفاءات عقودا من الزمن بحيثُ لم يكن من الحكمة التخلّص منه بجرة قلم ، وقد دلّت الأحداث التي شهدتها البلاد على أن القرار كان خطأ سياسيا واستراتيجيا قاتلا إذ خلّف ثغرة أمنيّة وهُوّة سحيقة في إدارة الشؤون الأمنيّة.
ولئن صحّ القول بأن التعفّن نخر الجهاز وعمّه الفساد إلا أن ذلك لا يطمس ما كان يقوم به في باب التصدي للإرهاب في الداخل كما في الخارج، وتحركه استباقيّا لإجهاض المخططات الإرهابيّة. إلا انه من المُؤسف أن يكون ذلك النشاط  موجّها كذلك ضد المناضلين السياسيين والحقوقيين والطلبة من اليمين ومن اليسار على حد سواء وعابثا بحقوق الإنسان أيما عبث.
لذلك فقد كان علي " السيد النظيف " كما يحلو للإعلام تسميته، الإستفادة من  خبرات قيادة الجهاز مع مُحاسبة من تورّط منهم في الفساد مُحاسبة رصينة وموضوعية، لا مُحاسبة ثأريّة فيكون بذلك قد رسم طريق العدالة الإنتقالية التي لم نر تجسيما لها إلى يوم النّاس هذا.
وهكذا فإن الفراغ الأمني مكّن المتطرفين من النشاط دون خشية من المُحاسبة والعقاب، فنصبوا الخيمات الدعويّة في الشوارع وفي الأسواق اليوميّة والأسبوعيّة، وفي محيط المدارس والإعداديّات والمعاهد لنشر الفكر الوهابي ولتجنيد عناصر جديدة من بين شُبّان لم يشتد عودهم بعدُ ويشكُون فقرا على مستوى الثقافة الدينيّة.
إن حزب التحرير على سبيل المثال، والذي تحصّل كغيره من الأحزاب التي توالدت بعد الثورة بالعشرات، حتى غدا المُواطن عاجزا عن التفريق بينها لتشابُه أسمائها،  وأحيانا تشابه شعاراتها وأهدافها وبرامجها( ان كان لها برامج)، يتمتّع بالدعم المادي للدولة ، وفي المُقابل يدعو جهرا إلى رفض الدولة المدنية والوطنية،   وإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوّة والتي تخلف الملك العضوض، ويطرح الإسلام كحلّ ويرفض الدستور العلماني، ويُكفّر  العلمانيين، ويقوم بتوشية جدران المدينة بمناسبة عقد مُؤتمره الثاني، بمُعلقات تدعو إلى العصيان المدني وإلى رفض دستور يراه مُنافيا للنص القرآني، صادق عليه  أعضاء المجلس الوطني التأسيسي بالإجماع، ويطرح في المُقابل دُستورا إسلاميا لا على التونسيين فحسب بل على كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. كل هذا على مرأى ومسمع من المصالح الأمنيّة والقضائية والتي لم تُقاضيه بتُهمة بثّ الفوضى وللدعوة للعصيان، ما من شأنه أن يُدخل البلاد في دوّامة فتنة تأتي على الأخضر واليابس وقد لا نعرف السبيل للخروج منها. 

 جدال عقيم لقضايا هامشيّة

وقت طويل لا يُقدّر بثمن أضاعه نوّاب المجلس الوطني التأسيسي بطرحهم قضايا خلنا أن الأمر قد حُسم فيها منذ عقود من الزمن. وكان ذلك بتحريك من نوّاب حزب حلركة النهضة الهادفة صراحة إلى تغيير طبيعة المجتمع التونسي من خلال تغيير سلوكاته وعاداته وتقاليده وروزنامة أفراحه وأعياده الوطنية منها والدينية.
لقد تصدّرت قضايا هُويّة الشعب التونسي، ومكانة المرأة في المُجتمع، وإقرار الشريعة، جدول نقاشات المجلس شهورا طويلة في وقت كان عليه وضع دستور للبلاد، لم ينتخب الشعب نوّابه إلا لإنجازه.
لقد ذهب في اعتقادنا أن الفصل الأول من دستور 1 جوان 1959 قد حسم مسألة الهويّة ، إلا أن " النقاش البيزنطي" أعاد القضية إلى السطح وطفق الكل يُبدي  فيها رأيه ، خاصة   نواب طرف  سياسيّ – دينيّ أعاق  قصرُ  نظر بعضهم ، وأغشى التعصب بصيرتهم، ومنعهم جهلُهم لتاريخ شعب، لم يعشوا طويلا بين أحضانه ولم يُقاسموا  أفراده أتراحهم وأفراحهم وهمومهم ، بسبب هجرة إختاروها عن طواعية فعادت عليهم بالخير العميم، عكس الذين بقوا في غياهب سجون النظام السابق، من تناوُل المسألة بالفكر الشمولي الضروريلإعتقادهم أن انبلاج فجر الحضارة في هذا الوطن بدأ مع قُدوم العرب منذ محاولتهم الأولى فتحه سنة 27 للهجرة يقودهم  عبد الله بن أبي سرح أخو الخليفة عثمان بن عفّان من الرضاعة، مُتناسين أن الهويّة التي ربطوها بقُدوم المسلمين إنما هي " تفاعل الكلّ الاجتماعي مع الطبيعة والتاريخ، وهي بذلك ثمرة تكيّف جماعة انسانيّة مع تحديات المحيط الطبيعي الذي فيه نعيش منذ أزمان، اكتسبت خلاله جُملة من الخبرات والرؤى والمواقف والترميز وتنظيم الفضاء العام، وحددت فيه ملامح نمط تفكير وسلوك له سمات وصفات مُشتركة تسمى " الميزات القاعدية للشخصية الثقافيّة"(3) "إ، وذلك ستنادا إلى مُقوّمات عديدة منها اللغة التي هي أداة تواصُل بين الأفراد والأجيال المُشتركين في مرجعيّة لسانيّة تميّزُهم عن مجموعات بشرية أخرى، ومنها المعتقدات والقيم كالخير والشر، والحلال والحرام، والمُقدّس والمُدنّس، والعدل والظلم، والحق والباطل، أي تلك القيم التي يلتحمُ فيها الكُلّي بالجُزئي ليُكوّنا و حدة ذات مرجعية ثابتة وذاكرة جماعية تختزن صُورا تاريخية للإخفاقات وللنجاحات، للهزائم وللإنتصارات، للفواجع وللأفراح، للأهداف وللتحديات المُشتركة.
يُقر العالم كلود ليفي ستراوس في كتابه " العرق والتاريخ " أن الهوية في جانبها الثقافي، بقدر ما تتشكّل في بوتقة القيم والروابط ، فإنّها تتشكل بالإضافة إلى ذلك من الخبرات التقنيّة وأدوات الإنتاج الاقتصادية التي راكمتها مجموعة ما في علاقتها بالطبيعة وبالتاريخ.
  
قضية  "التناصُف" أو " التكامُل " التي اعتمدها المُتديّنون حسب تعبيرهم المُعتمد في تصنيف المواطنين، استهلكت بدورها وقتا ثمينا كان من الأجدر استثمارُه لمُناقشة قضايا التنمية وعدم التوازن الجهوي وتفاقم البطالة، وهي قضايا حارقة طرحتها الثورة للنقاش لإيجاد حُلول لها، خاصة وأن قضية المرأة كانت  محسومة في رأي أبناء الجيل الحالي وكذلك الجيل الذي سبقه والذي عاش بدايات الإستقلال، بعد أن ضبطت فُصول مجلّة الأحوال الشخصية غداة التحرر من الإستعمار، مكانة المرأة ضمن تصور مُتكامل لتنظيم المُجتمع وبعث هياكل مختصة من أجل ذلك.
لقد أصبحت المرأة منذ 1956 صنو الرجل في تونس، ومعه تشتركُ في كل الحقُوق والواجبات، وهو قرار وا انفك يُثير مطامح المرأة العربية التي " تحلم بربع حقوق المرأة التونسية" كما عبرت عن ذلك المُفكرة المصرية نوال السعداوي في مناسبات عدة.
هذا الحلم لدى الأخريات، حوّله دعاة الفكر الرجعي إلى كابوس أقض مضاجع التونسيين لأشهر طويلة، وفتح المجال أمام نائب لم يستح من أم حملته وهنا على وهن، وأرضعته رحيقها حولين، وسهرت على راحته تغذية وتنظيفا وتطبيبا إلى أن اشتد عوده واستوى" رجلا "، ليتفوّه بعبارت تخلو من الحياء، تُنادي بحبس المرأة في البيت واقتصارُها على أداء الوظيفة البيولوجية الوحيدة حسب رأيه وهي الإنجاب وتربية الأبناء فضلا عن غسل أٍجُل بعلها قبل أن تضع نفسها على ذمّته ليُفرغ فيها شهواته البهيمية وأطنان كبته وعُقده المتراكمة عبر السنين. والأنكى من كل ذلك أن نرى نائبات عن حزب سياسي يقُمن بارتهان مستقبلهن ومُستقبل بناتهنّ، مُستعدات للتصويت على مبدإ مُخجل ألا وهو " تكميل المرأة للرجل "، تطبيقا لأموامر بارونات حزبهن مُتجاهلات قوله تعالى:" خلقناكم من نفس واحدة وقوله :" وليس الذكر كالأنثى ". (4)
لعلّي ألتمس لهنّ عُذرا وذلك لضيق أفُقهنّ الثقافي واقتصارهن على مرجعيّات معيّنة وعلى فهم أحادي لكتاب الله وسُنّة رسوله بالإستعانة بكتب ابن تيمية وابن قيم الجوزية وأبي حامد الغزالي وحسن البنا والسيد قطب والقرضاوي والمودودي، وعناوين من قبيل " ما يجوز وما لا يجوز في نكاح العجوز "(5) و " المُباح في جهاد النكاح "(6) و " الطريقة النبوية السليمة في نكاح المرأة والبهيمة "(7)، ينشُر بعضُها مجمع الملك فهد للقرآن الكريم.

 انتشار ثقافة الكُره والقتل 

هذه ثقافة جديدة دخيلة على المُجتمع التونسي، عشنا مؤشّراتها الأولى لمّا ذُبح عون الأمن بجبل الجلود من قبل الشرطة السلفية، وفي حوادث جندوبة في فيفري 2013، وفي سفح جبل الشعانبي عندما نُصب كمين وعمليّتي سوسة والمنستير في أكتوبر 2013، والتي تأكّد لا حقا أن التخطيط لهما دبّر فيمدينة درنة اللّيبية، عاصمة الجماعات التكفيرية
  
لتسعة جُنُود ذُبحُوا في رمضان لسنة 2013 ومُثّل بجثثهم ما نغّص على التونسيين عموما صيامهم وأفسد عليهم مناخ شهر الصيام وخُصوصيّاته من عبادات ، وعادات، وطُقوس غذائية، وخُشوع تعبّدي، وكذلك عمليتا سوسة والمُنستير في أكتوبر 2013 التين دُبّرا لهما في مدينة درنة الّليبية،  عاصمة الجماعات التكفيريّة .
ولئن وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي في التنديد بمظاهر العنف الجديدة، واعتبارها دخيلة عن مجتمعنا وغريبة عن تسامح التونسيين وكُرههم الشديد للقتل وللتشفّي ولذبح الإنسان لأخيه الإنسان، مهما كانت الدوافعُ، فإنّ المُتمعّن في نوعية الخطاب الذي تبثّه الجماعات التكفيرية في المساجد، التي لا يزالُ عدد منها تحت سيطرتهم، وفي الخيام الدعوية، يُدركُ أنّه مُناف لما تحرصُ وسائل الإعلام العلمانية على جعله أحد الثوابت المُكونة للراي العام. وانى لها ذلك في وقت يُموّل الفكر التكفيري من قبل جمعيّات دعويّة لها أموال طائلة تحت تصرّفها مجهولة المصدر، يُديرها تكفيريّون تبنوا وتشبّعوا وتشبّثوا بفكر مُتحجّر ظلامي قبليّ يعيش في فترة ما قبل الدولة، وما قبل النّظُم والمُؤسسات، ولا يُؤمنُ لا بالدساتير ولا بالقوانين التنظيميّة، ويعيشُ خارج إطار الزمن الحالي بوعي قولبتهُ عقيدة الكراهية إلى حد أصبح يرى أن الذبح والقتل إذا كانا مسبوقيت بالتهليل والتكبير هما فرضا عين على كل تكفيري  القيامُ به لينال بالمقابل مكانا في جنات الخُلد يتمتع فيه بمئات من حور الأعيُن الأبكار ممن لم يمسسهن قبله إنس ولا جان.
لقد تتلمذ  الصنف الأول من  هؤلاء التكفيريين في العراق في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، بينما تتلمذ البعض الآخر في أفغانستان اين شارك في مُقاومة الجيش السوفياتي، وضلع  أفراد منهم في عملية قتل الزعيم شاه مسعود، فيما إلتحق آخرون بتنظيمات  القاعدة بزعامة أسامة بن لادن والزرقاوي وأيمن الظواهري، قبل أن يعودوا إلى تونس مُتشبّعين بعقيدة الذبح ويُشاركوا في أحداث سليمان.
بعد الثورة شملهم العفو التشريعي العام الذي لم يقتصر على فتح أبواب السجون على مصراعيها أمام الإرهابيين التكفيريين في المُرناقية وبُرج الرّومي والهوارب، بل سمح بعودة أولئك  الذين تمرّسوا بالقتال في أفغانستان واليمن والعراق وسوريا لاحقا، وفي العديد من مناطق النزاع وفي جراب كل واحد منهم خبرات قتالية كثيرة.
أما الصنف الثاني منهم فقد نبت في مدارسنا، يعيشون بيننا، في أحيائنا الشعبية بالخصوص تلك التي زُرعت في أطراف المدن في زمن الأزمات بداية من ستينات القرن العشرين، ومنهم أفراد من عائلاتنا، ومنهم من يعيشُ داخل بُيوتنا وينتمون إلى خلايا نائمة برز بعضُها إلى السطح بعد أن وجدت في ثورة 17-14 التي لم يُشاركوا فيها، مُتنفّسا لها، وطفق أفرادُها يُدلون بدلوهم في بعض القضايا وينشطون في المساجد ويشاركون في الإجتماعات العامة وفي الوقفات الإحتجاجية وفي الإضرابات وفي معارضة مواقف العلمانيين وذلك بالتجمع ببطحاء باردو في قبالة مقر المجلس الوطني التأسيسي في رمضان لسنة 2013 وحتى في تزعم مظاهرة تندد بالإرهاب دعا إليها الإتحاد العام التونسي للشغل إثر عملية هنشير التلّة.
وفي الأثناء قام بعض المسؤولين في الدولة والبعض من مُستشاري رئاسة الجُمهورية، بمعيّة أقربائهم باستقدام شيوخ يدعون الإلمام بالعلوم الشرعيّة، جاؤوا يحدوهم الأمل ب " فتح البلاد مُجددا للإسلام " ولتعليمنا كيفية حجب بناتنا ونسائنا ب " اللباس الإسلامي " وغسل أدمغة صغيراتنا ، أمهات الغد، وتلقينهنّ عبارات البغضS والموت والغيظ،  وغرس مُعاداة من يُخالفهن الرأي في لا وعيهن.
ومن هؤلاء الشّيوخ من جاب البلاد طولا وعرضا واعتلى منابر المؤسسات الجامعية ونظّم الإجتماعات في الشطوط المعدة للسياحة التي يسترزق منها ملايين المواطنين،  من أجل تلقيننا دروسا في فنّ تغسيل الموتى قبل مواراتهم التراب.
وبالتوازي مع كل ذلك انتشرت الكتب المُجانبة للبحث العلمي والمركزة على الغرائز البشريّة وعلى المُعالجة بالأعشاب وبالرقية القرآنية، تُباع أمام المساجد وتغزو معارض الكتب، وتُعرض على شبكات التواصل الاجتماعي، تختلف مواضيعها بين الأدعية والفتاوي وجهاد النكاح ونكاح الزوجة المُتوفاة نكاح وداع وتعدد الزوجات...
 وتعالت الدعوات بمُراجعة بعض فصول مجلة الأحوال الشخصية المُتعلقة بمنع التعددية الزوجية وقانون التبني والسن لزواج الفتاة. والأدهى أن عددا من نواب اختارهم الشعب لإعداد دستور للبلاد أضحوا يبررون جهاد النكاح ويدعون إلى تبني ما في بطن الحاملات للاتي عُدن إلى البلاد بعد أن صُدّرن إلى المحرقة السورية، فيما ينادي آخر من الذين ينهلون من التراث الفقهي لصدر الإسلام بالقتل والصلب وقطع الأطراف من خلاف لكل  متظاهر لكل معارض علماني مُتناسيا صفته كنائب للشعب ومُبرزا عجزه عن التخلّص من " مرجعيّة الدعوة " التي اندمج فيها سنين طويلة.
وهكذا أضحينا نعيش تديّن السياسة، وتديّن الفضاء العام، وتسخير الدين لتنظيم حياة المواطنين في ظل تراخي الدولة في التصدي لبعض الظواهر التي مسّت من هيبتها وألحقت بعلاقاتها الخارجية ضررا كبيرا مثل مُهاجمة سفارة الولايات المتحدة ونهب المدرسة الأمريكية ذات عشية 14 سبتمبر 2011، وكذلك تأمين فرار زعيم أنصار الشريعة من جامع الفتح بعد أن نصب له الأمنيّون كمينا وكانوا قاب قوسين أو أدنى من القبض عليه مما اعتبره الملاحظون تغطية على الإرهاب الذي تعاظم منذ ذلك الوقت كالورم السرطاني في ظل انعدام المحاسبة، وذلك من خلال عديد 
الأحداث ومن بينها
:
  • الإعتداء على منزل مالك إحدى القنوات التلفزية التي عرضت فيلم برسيبوليس والذي اعتبر التكفيريون إحدى لقطاته مسّا من الذات الإلاهية، بينما عُرض نفس الفيلم في إيران مهد الثورة الإسلامية ولم يُحدث الهرج الذي أحدثه في تونس  

  • مهاجمة قاعة سينما أفريك آرتوتهشيم واجهتها البلورية إحتجاجا على عرض فيلم لا ربي لا سيدي
  •  الإعتداء اللفظي والمادي على مفكرين وإعلاميين وتهديدهم بالقتل ونهب مُحتويات منزل أحدهم: ألفة يوسف،  ومحمد الطالبي،  ويوسف الصديق،  والنوري بوزيد، وسُفيان بن حميدة، وسُفيان بن فرحات، وحمادي الرديسي...
  •  انتشار ظاهرة الزواج العُرفي في الأوساط الطلابية وفي بعض المدن أين يتمتع بعض الدعاة باشعاع واضح.
  • اختلاق قضية النقاب بجامعة منوبة واتهام عميدها بالإعتداء على طالبة ووفاة طالبين بسجن المرناقية بعد أن دخلا في إضراب جوع وحشي.
  • تسفير بناتنا إلى سوريا للجهاد من نوع خاص وتشجيع وزير الشؤون الدينية على ذلك جهرا.
  •  ظهور نظام تعليمي مُوازي للنظام الرسمي يتمثل في انتشار الرياض والكتاتيب القرآنيةوالتي ترتدي فيها بنات الخمس سنوات الحجاب ويُفصل بينهن وبين الذكور درءا لمساوىء الإختلاط.
  • قتل الزعماء السياسيين: محمد لطفي نقض وشكري بلعيد ومحمد البراهمي
  • ظهور جماعات يدعي أفرادُها حماية الثورة وأكثرهم يُحاول غسل ما علق به من أدران تجمعية أو طرابلسية، ركبوا على الثورة وارتدوا عباءات الأبطال المُساهمين في إسقاط النظام الدكتاتوري
  • الإعتداءات الغادرة لعناصر من الجيش في مُناسبات عديد نخشى أن نعجز مُستقبلا عن إحصائها.


هذه بعض العوامل  الداخلية التي شجّعت على تنامي الإرهاب. فما هي العوامل الخارجيّة؟



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire