من إيجابيّات هذه الثورة في تصوّري – وإيجابيّاتها في الحقيقة لا تحصى ولا تعدّ، وحده التاريخ سيضعها في المكانة التي هي بها جديرة – أنّها فتّحت أعيننا، ووسّعت آفاقنا على ما تختزنه هذه البلاد من طاقات فكريّة ، لم يكن الواحد منّا يدرك حجم وثقل أصحابها في الحقل المعرفي .
وفي المقابل فإنّها ( أي الثورة ) أيقظت إدراكنا على مدى ما اقترفه النظام البائد من فظائع في حق هذه الأمة ( أعني المفهوم ذو البعد الجغرافي الضيق لمعنى لفظ الأمّة المرادف بالفرنسيّة للفظ Le Peuple)، من تسطيح للمعرفة وللفنون، وتكريس للرداءة المرفقة ببذاءة الذوق ونشاز الألوان وفقر للغة التخاطب التي أصبحت أكثر عباراتها بيانا وإعجازا لغويّا، وأكثرها تأثيثا لنقاشات النّاس وحواراتهم، عبارات من فصيلة: مكسيمو(Maximum)، كعبة لا، موش نورمـــــال، Sans Problème، Normalement... وغيرها من العبارات ذات المعنى الفضفاض والمستعملة عادة في غير محلّها.
لقد سعى النظام المنقرض إلى زرع البلاهة والبلادة الذهنيّة، والفقر الفكري في أجيال متعاقبة، يعلم اللّه وحده كم علينا أن نبذل من الجهد والاستثمار المالي لرتق الفتق، وإصلاح ما أفسده نظام كان له مع العقل والفكر عداوة مقيتة، ومع الجهل صحبة متينة.
إنّ إنجازاته في مجال التربية والتعليم خير شاهد على عمق الفظائع التي ارتكب، إذ زيادة عن إلغائه امتحان إنهاء الدروس الابتدائية ( السيزيام ) وتعويضه بامتحان جهويّ لا معنى له عند الأولياء والتلاميذ على حد سواء، ألغى إجباريّة امتحان ختم التعليم الأساسي ( النوفيام )، وأردف كلّ ذلك بإقرار الارتقاء الآلي انطلاقا من معدل سنوي يساوي 9،00 من 20، قبل أن يختم هذا المشروع الرئاسي بإقرار نسبة 25 % من المعدل السنوي يستعان بها لاحتساب معدل امتحان الباكلوريا!!!
النتيجة :
تضخّم أعداد الناجحين بالتوازي مع تدنّي المستوى المعرفي للتلاميذ، تدنّيا أصبح معه المربّون في حيرة من أمرهم، لا حول ولا قوّة لهم على التصدي لتيّار التصحر المعرفي، المفروض من سلطة الإشراف، وهي الطرف الأهمّ المشارك في تنفيذ أخطر مؤامرة ارتكبت في حق المعرفة في هذا البلد.
والأغرب أنّ رأس النظام، الذي لم يغب مرّة واحدة عن الاحتفال بيوم العلم " بقصر الشعب " بقرطاج، كان يتمايل انتشاء بارتفاع نسب النجاح المعروضة عليه، معتبرا إيّاها خير دليل على نجاح المنظومة التربويّة، لكن ما خفي كان أعظم، لأنّ أغلب الناجحين كانوا مرشّحين لتضخيم صفوف البطّالين الذين سرعان ما يصبح جانب كبير منهم يعيش على هامش المجتمع، في بلد عجز اقتصاده عن استيعاب بضعة آلاف من طالبي الشغل كلّ سنة، و نجح قادته بكلّ اقتدار في زرع المرارة، في أفواه فئة اجتماعية في عزّ العطاء، تقف كشاهد عيان عاجز أمام وأد أحلامها يوما بعد يوم!
فما أفظعها من مرارة.
لكن رغم كلّ ذلك، ورغم سياسة " التبهيم " الممنهجة، عجز النظام على اغتيال العقل التونسي ، وها نحن نشاهد يوميّا، ومنذ اندلاع ثورة الأحرار، التي انطلقت شرارتها الأولى من الحوض المنجمي بالرديّف سنة 2008، لمّا دفن " فئران الدّاموس"* الخوف في جبال عرباطة، ثمّ نسج على منوالهم جيرانهم، رجال سيدي بو زيد بعد 17 ديسمبر، يوم قدّم فيه محمد البوعزيزي جسده قربانا على مذبح الكرامة لتحرير شعب عانى من الظلم والدوس على حقوقه طويلا، لتبقى روحه الخفّاقة تلهم الاضطرابات التي عمّت كل ربوع البلاد.
أنّنا نشاهد العقول وقد فكّ عقالها، والألسن قد انطلقت خارج زنزانات الصمت المفروض، تحلل وتبيّن وتفكّر وتنظّر وتبرّر مواقفها من القضايا المطروحة، في أسلوب بلاغيّ خلت طويلا أنّه أصبح غريبا على التونسيين.
لقد كان التونسي إلى وقت قريب، عاجزا عن النقد المركّز، والتحليل المتماسك، في غير الميدان الرياضي. وكانت مشاركة البعض منهم في الحوارات والنقاشات عبر الفضائيّات العربيّة نادرة، ندرة عقّدت البعض منّا، فكنّا نتّهم القنوات إيّاها بإهمالها لمواطنينا، وعدم الاعتراف بهم كعرب من حقّهم أن يدلوا بدلوهم في القضايا التي تهم الأمة العربيّة. وحتى إن صادف أن شارك أحدهم، فإنّي كنت شخصيّا على وجل من أن يكشف ضعف قدرته على التحاور، باستثناء أولئك الذين كانت وكالة الاتصال الخارجي تعيّنهم للدفاع عن النظام المتهاوي، قبل أن ينسحبوا من المشهد الإعلامي، وحسنا فعلوا.
لقد كشفت الثورة أنّ لتونس رجالا مفكّرين، لهم القدرة لا على التحليل فحسب، بل على التنظير أيضا، أطلّوا علينا من الفضائيّات التونسيّة والعربيّة، واكتشفنا فيهم قامات فكريّة مديدة، منهم على سبيل الذكر : مصطفى الفيلالي، أحمد بن صالح، أحمد الهستيري ، توفيق البشروش، مصطفى كريّم، علي المحجوبي، عبد الحميد لرقش، يوسف الصدّيق، الحبيب الجنحاني، محمد الطالبي، عبد المجيد الشرفي، وغيرهم كثر.
أين كان هذا الجمع الطيب من المفكرين الذين يعتزّ بوجودهم المواطن التونسي ويزداد تجذرا في تونسته وهويّته الثقافيّة؟
لا سامح اللّه من حرمنا من فكرهم النيّر.
إنّ هؤلاء الذين تتلمذنا على أيديهم، هم من أبناء هذا الوطن ومن النسل الطيب لهذه الأرض الزكيّة . هم أحفاد حنّون وحنبعل وماغون برقة، والقاضيان سحنون وعياض ، وأحفاد البهلول بن راشد المنحدر بدوره من صلب البطل الفاتح عقبة بن نافع، ومن أبناء أعمام عبد الرحمان بن خلدون، ومن أقرباء خير الدين التونسي، وأحمد بن أبي الضياف، و الطاهر الحداد، وأبي القاسم الشابي، والشيوخ عبد العزيز الثعالبي، والطاهر والفاضل بن عاشو، ر والحبيب بلخوجة والسلاّمي، وكمال الدين جعيّط،، والعلماء علي والمنصف الشنّوفي، وأحمد عبد السلام، وبوحديبة، ورضا بوكراع، والأستاذ السطنبولي، والطاهر لبيب، وعلي البلهوان، وفرحات حشّاد، وأحمد التليلي، ومحمد علي الحامي، والدكتور محمود الماطري، والوزير الأديب محمود المسعدي، و الباهي الأدغم، والشاذلي القليبي .....
حنبعل خيرالدين باشا
كل هؤلاء وغيرهم من أبناء تونس العزّ، من نتاج هذه الأرض المعطاء والتي لا يتوقف عطاؤها إلى أن يرث اللّه الأرض وما عليها وهو خير الوارثين، ولو كره الطغاة و حاولوا إطفاء نورها الوقّاد.
فللّه درّك يا تونس كم أنت ولاّدة رغم محاولات البائسين للوصول بك إلى سنّ اليأس. فبؤسا لهم و شرّ مصير.
* العاملون في منجم الفسفاط وهو كذلك إسم لمسرحية تونسية تعنى ب«قضايا» الانسان «الجريدي» مستوحاة من واقع الحياة في الجنوب التّونسي : ولاية قفصة وأحراشها وحوضها المنجمي ( المتلوّي والرديّف وأمّ العرائس )
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire