شهد مطلع سنة 2017 صدور كتاب للفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري، عن دار
النشر"قراسي"، عنوانه "لنتفكّر الإسلام"، تطرق فيه لعديد
القضايا المتعلّقة تحديدا برؤية الغرب "للإرهاب الإسلامي" المُستهدف للبلدان
الغربيّة، ولموقف الإعلام الغربي من
الإرهاب. كما تطرّق للكتاب المقدّس، القرآن، وكُتب السيرة والأحاديث النبويّة، وما
تتضمّنه من تناقضات تضع المسلم في حيرة من أمره حين يريد إختيار المنهج القويم.
عنوان الكتاب يطرح في حد ذاته إشكالا على
مستوى التعريب، إذ يضع بين ايدينا خيارات
عدة تعكس مضمون الكتاب مثل: لنتفكّر الإسلام، لنتدبّر الإسلام، لنتأمّل الإسلام
...
هذا العنوان يذكّرنا بعناوين أخرى، يعسُر
عدها لكثرتها تناولت ذات الإشكاليّات التي تناولها أونفري في كتابه، وذلك منذ
سبعينات القرن الماضي تحديدا في إطار نظرة جديدة للموروث الديني الإسلامي بدءا
بالكتاب المقدّس، على غرار كتب سليمان بشير دياغني ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد
ويوسف الصديق ومحمود محمد طه وغيرهم كثيرون ...
لذلك فان كتاب أونفري يتنزّل في سياق
اجتهادات مفكري الغرب لفهم أعمق وأشمل للعالم الإسلامي، ولتفسير ما يصدر عن "الذئاب المنعزلة" من عنف
وأعمال إرهابيّة تُسبب للغرب أضرارا ماديّة وبشريّة ثقيلة ...
جاء الكتابُ في شكل حوار أدارته الإعلاميّة
بجريدة "الجديد"، أسماء كُوار، أثارت خلاله عديد القضايا ذات الصلة
بالإسلام كدين وبالعنف كممارسة ...
ولأهميّة الأجوبة المُقدّمة رأى المُحاور
ضرورة جمعها في كُتيّب، اعتبره "كتاب مواطن"، تناول فيه الدين الإسلامي
الذي يراه مشغلا فلسفيّا بقدر ما هو مسألة مُواطنة . ولتبرير موقفه هذا يرى أن
التفكير في الإسلام كدين لا يستوجب ضرورة اعتناق المفكر للإسلام بقدر ما يتطلّبُ
منه أن يكون "مدفوعا برغبة حرّة
للتدبّر".
يتمحور الكتاب حول ثلاثة عناصر أساسيّة:
- نقد اليسار الفرنسي وابراز فشل الحُكومات اليسارية بالنأي بفرنسا عن بُؤر الصّدام المسلّح.
- موقف الغرب من "الإرهاب الإسلامي" وخلفيّاته.
- إشكاليّة التناقضات في الموروث الإسلامي.
نقد اليسار الفرنسي
استهل الفيلسوف كتابه بهذا المشغل، واختار له
عنوان"تفكير فيما بعد الجمهوريّة "، عبّر ضمنه عن موقفه من اليسار
الفرنسي منذ سنة 1983، مؤكّدا على "خيانته" لليساريّين منذ وصول الرئيس
فراسوا ميتيران إلى سدّة الحكم، وذلك في مناسبتين شكّلتا القادح الذي فتح المجال
لتسلّل اليمين المتطرّف إلى الساحة السياسيّة وتدعيم موقعه فيها، وأخرجتا في ذات
الآن السياسة الخارجيّة الفرنسيّة عن صبغتها "السلميّة" التي لازمتها
عُقودا طويلة، وألقتا بها في مركب السياسة الخارجية العُدوانيّة لعائلة بوش،
الماسكة بزمام الجكم في الولايات المتحدة الأمريكيّة، مما ورّط فرنسا وأشركها في
إعتداءات أسقطت حوالي أربعة ملايين ضحيّة تتحمّل فيها جُزئيّا مسؤولية أخلاقية ...
ويطرح الفيلسوف السؤال الإنكاري التالي: هل
بالإمكان تصوّر أن ما يستهدف فرنسا اليوم
من أعمال "إرهابية" صادرة عن مُسلمين مُتشددين يعيشون داخل فرنسا
ويحملون جنسيّتها، لا صلة لها بالسياسة
الخارجية التي مارسها اليسار؟
هذا التساؤل فتح الأبواب على مصراعيها لتشويه الرجل وتلويث سمعته منذ أن توعّد الوزير الأول الفرنسي، إمانوويل فالس،
المفكرين ( فلاسفة، علماء اجتماع، علماء نفس ، ديموغرافيون، مؤرخون...) والإعلاميين
الغيورين على شرف مهنتهم ، الذين رفضوا الإستبداد الأيديولوجي وسيطرة رأس المال
والنظام الليبرالي ككلّ ، مما اضطرّه إلى
التأكيد على مواصلة انتمائه لليسار الفرنسي لما قبل 1983 فيما يتعلّق بالسياسة
الداخليّة وليسار ما قبل 1991 فيما يتعلّق بالسياسة الخارجيّة.
موقف الغرب من "الإرهاب الإسلامي" وخلفيّاته
تناول الكاتب ظاهرة
"الإسلاموفوبيا" في الغرب و في فرنسا تحديدا، داعيا إلى الرجوع إلى
أسبابها العميقة، وهوما قام به، عوضا عن
الإقتصار على تحليل نتائجها.
جاءت محاولته تلك في غاية الدقة ، وعكست اطلاعه العميق على الخلفيات التاريخية للأسباب التي
ولّدت"الإرهاب"، بالرجوع إلى بدايات ظهور النزعة الإستعماريّة للغرب
المُصنّع في النصف الأول من القرن التاسع عشر، مُستدلا في ذلك بخطاب الوزير الأوّل
الفرنسي جول فيري الذي ألقاه في 28 جويلية سنة 1885 أمام أعضاء الجمعيّة العامة،
والذي عبّر فيه عن "تفوّق" الحضارة الفرنسيّة وما يتطلّبه ذلك منها من
فرض للقانون ولنمط عيشها على البلدان المُستضعفة ...
ويواصل أونفري في هذا السياق مُشيرا إلى
الأكاذيب التي تجترّها سياسة الغرب مُقدّما كمثال إدعاء الأمريكي كولن باول حيازة
الرئيس الأمريكي صدّام حُسين أسلحة دمار شامل تُهدد "الأمن القومي
الأمريكي" وهو يُقدّم "الدليل القاطع" مُلوّحا من أعلى منبر الأمم المتحدة بأنبوب اختبار يحتوي
على سائل لا أحد غيره يعرف طبيعة المحلول الذي يحتويه ...
كما حاول دحض ذريعة الغرب "للتدخل في
البلدان الأخرى" والتي روّج لها وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، كوتشنار فيما
يتعلّق بالعراق، وبرنار هنري ليفي فيما يتعلّق بليبيا-، دفاعا عن حقوق الإنسان، وهو ما تذرّعت به
الولايات المتحدة الأمريكيّة وفرنسا عند مهاجمتيهما، بمشاركة أعضاء من حلف الناتو، بلدانا إسلاميّة،
مُتسائلا لماذا لا تُهاجمُ البلدان التي تدُوس فعلا تلك الحقوق ، والتي تخترق القانون الدولي مثل الصين
وكوريا الشماليّة والمملكة العربية السعوديّة وإيران وباكستان وقطر، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ، التي
ما انفكّت تدعم سياسة الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينيّة؟
ويُضيف أن من بين هذه البلدان من تُزوّد
"الإرهابيين" بالمال وبالعتاد العسكري: علاقة أسامة بن لادن
بالولايات المتحدة الأمريكيّة وإيواؤه من قبل باكستان نموذجا ...
ويُؤكّد أن السياسة العالمية الجديدة انما هي
سياسة إستعمار جديد، يستهدف بلدانا تزخر بواطن أراضيها بثروات طبيعية هائلة
ومتنوّعة، يسيل لها لُعابُ الغرب ولُعابُ
مؤسساته الصناعية الخاضعة للوبيات ماليّة تتحكّم في الإقتصاد العالمي وتبحثُ عن
أسواق تُروّج فيها منتجاتها وتستمد منها المواد الضرورية لديمومة انتاج
مصانعها، فيما تُقصف في ذات الوقت بلدان لا قدرة عن الدفاع عن سيادتها خدمة لتجّار
الأسلحة الأمريكيين بالأساس.
ويُقدّم أجوبة لأسئلة طرحتها عليه مُحاورته
من أهمّها :
- اندماج الجالية المسلمة في فرنسا من عدمه .
- مدى معرفة الفيلسوف المُحاوَر للإسلام.
- قضية منع المسلمات من ارتداء الحجاب والنقاب في بعض البلدان الغربية.
ويتولّى بدوره طرح أسئلة حارقة على غرار:
أليس من الظُلم استهداف المسلمين بترويج
الفكرة القائلة بأنّ الإسلام كدين مسؤول عن الإرهاب؟
قبل أن يطرح سؤالا خطيرا: كيف لا تكون فرنسا
مُستهدفة اليوم إرهابيّا بعد أن حاربت طيلة ربع قرن، بدعم من النخبة الفكريّة، بلدانا
اسلامية وساهمت في إسقاط أنظمتها الحاكمة وفي تدمير بناها التحتيّة؟
إشكاليّات التناقض في الموروث الإسلامي
يتعرّض الفيلسوف في هذا الجزء من الحوار إلى
إشكاليّة التناقضات في الموروث الإسلامي ، مُتناولا ما في النصّ القرآني وفي كتب
الحديث والسيرة النبويّة وكتب الفقه من تضارُب ، مُشيرا إلى انّها تُقدم الرأي
ونقيضه.ففيها دعوة للحب وللتحابب وللتسامُح والتضامن والإخاء والتكافل والتعايُش،
بقدر ما فيها من دعوة للتقاتُل ولسفك الدماء والضرب على البنان وقطع الأعناق وبتر
الأعضاء من خلاف ، وأمر بالجلد وبمعاداة الأسامية، وتشييىء للمرأة وإذلالها
وتعنيفها بالضرب وبالهجر في المضاجع، وبحرمانها
من حق في الميراث يُعادل حق الرجل.مشيرا إلى أنّه ليس مُعاديا للإسلام بل
داعيا إلى ضرورة قراءة التوراة والإنجيل والقرآن كما نقرأ أثار ارسطو وافلاطون، أي
بتدبّر للتناقضات وبسعي لفهم المقاصد، معتبرا ان كل من يحرّم هذا النوع من القراءة
العقلانية والنقدية يكون معاديا لحريّة التعبير ولإعمال العقل.
ويحاول أونفري في هذا الباب استعراض معرفته
العميقة للإسلام بالإستشهاد بعديد الآيات القرآنيّة وبالأحاديث النبويّة، وبعمليّة
تدوين القرآن وجمعه وترتيب آياته وسُوره ...
لكن ما يُعابُ عليه في هذا الباب بالذات
اعتماده المتكرر على أحاديث لا يستسيغُها العقل وردت في كتاب صحيح البخاري الذي لا
يوجد في العالم الإسلامي اتفاق بين العلماء حول ما يتضمنه من احاديث نبوية تغذي
العنف والقتل والصلب ينسبها لمن بُعث رحمة للعالمين .
وكذلك تأكيده على أن الخليفة الراشدي الثالث،
عثمان بن عفّان، اعتمد في ضبطه المصحف على التسلسل التاريخي لنزول السور والآيات،
مرتّبا السور حسب عدد آياتها من الأكثر إلى الأقل آيات.وهذا مُجانب للحقيقة لأن
السور لم تنزل كاملة دفعة واحدة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، لا يُطابق ترتيبها
حسب عدد الآيات الحقيقة، ذلك لأن السورة الخامسة(سورة المائدة) تتضمّن 120 آية،
فيما تتضمّن السورة السادسة(سورة الأنعام) 165 آية، والسورة الثامنة(سورة الأنفال)
75 آية، والسورة التاسعة (سورة التوبة) 129 آية.ممّا يدحض ما ذهب اليه أونفري.
لذا فان مرجعيّة الفيلسوف الدينية ، فيما يخص
الدين الإسلامي تتسم بعدم الدقّة وبعدم تنزيل استشهاداته في سياقها الزماني
والمكاني، وباقتطاف الجزء الذي يدعم فكرته
مع اهمال بقية الآية ، على غرار ما قام به عند استشهاده بدعوة الإسلام إلى معاداة
الأساميّة معتمدا في ذلك على الآية 30 من سورة التوبة.
وقبل ختمه كتابه يُجيب أونفري على أسئلة
فرعيّة منها :
- قضيّة منع المُسلمات من ارتداء الحجاب التي
وعد بها ساركوزي في حملته الإنتخابية الثانية
- قضية اعتبار الرسول
محمد رجل حرب بينما كان الرجل شديد الحرص على التواضع وعلى نشر المحبّة حوله.
- العلاقة بين الإلحاد
والأخلاق.
- دور الميديا الغربية
في المزج بين الإرهاب والإسلام.
- مدى تطبيق المقولة
الماركسيّة"الدين أفيون الشعوب" على الدين الإسلامي.
- علاقة اليسار الفرنسي
بالإسلام في تصدّيه للليبيراليّة.
- وفي الخاتمة نلمس حرص الفيلسوف على لفت نظر
السياسيين الفرنسيين إلى خدمة بلادهم لا إلى الإستفادة منها، وإلى عدم جعل فرنسا
عُرضة لمخاطر الإرهاب ولللإعتبار من التاريخ الذي تبقى أسمى معانيه أن الجنوح إلى
السلم أفيد.
خلاصة القول
نُشير إلى ان الكتاب قيّم المحتوى، مفيد
وثريّ إلى أبعد حد، لما يحتويه من استشهادات تنم عن سعة معرفة الكاتب لما يتناول.
استشهادات مُستقاة من التاريخ الوسيط والمُعاصر.لكن يبقى الجزء المتعلّق بالموروث
الديني الإسلامي في حاجة إلى مزيد من الدقة ومزيد من التعمُق والتمكّن من مضامين
الكتاب المقدّس وكتب السيرة النبوية حتى لا تخرج الأحاديث أو الآيات القرآنية عن
سياقاتها، كما جاء في اعتماده على الآية 30 من سورة التوبة والتي استشهد بها على
مُعاداة الإسلام للأسامية في حين ان الآية لا تتحدث عن اليهود فقط.وكذلك استشهاده
بكتب الشريعة التي ليست سوى اجتهاد بشري خال من القدسيّة وفيها من الأخطاء بقدر ما
فيها من الصواب.
ورغم ذلك يبقى الكتاب لبنة ذات بال في صرح
المكتبة الفكريّة، حاول صاحبه إنارة الرأي العام الغربي قبل غيره حول
"الإرهاب الإسلامي"، ما يجعل قراءته ودراسته مفيدة.
مراجع يُنصح بالإطلاع عليها
بالعربيّة:
بالعربيّة:
-
نصر حامد أبوزيد، التفكير في زمن التكفير، ضد
الجهل والزيف والخرافة، المركز الثقافي العربي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة
الأولى، الدار البيضاء، المغرب 2014.
-
-جلال الربيعي، في قراءة في القرآن، دار محمد علي للنشر، الطبعة
الأولى، تونس 2013.
-
- محمود محمد طه، نحو
مشروع مستقبلي للإسلام، ثلاثة من الأعمال الأساسية، دار رؤية للنشر والتوزيع،
الطبعة الأولى، القاهرة 2012.
بالفرنسية:
بالفرنسية:
-
Soulaymane Bachir Diagne,
comment philosopher en Islam ?,ed.Jimsaan,France 2014.
-
-Youssef Seddik,Le Coran autre
lecture,autre traduction,ed.de l’aube,France 2002.
-
-Mahmoud Hussein,Ce que le
Coran ne dit pas,Mohamed Ali editions,premiere édition,Sfax 2014.
-
-Mohamed Arkoun,Lectures du
Coran,Alif les éditions de la méditerranée,Tunis 1991.
-
-Olfa Youssef, Le Coran au
risque de la psychanalyse ;Albin Michel,Paris 2007.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire