أوردت الجرائد اليوميّة التونسيّة خلال
الأسبوع الأوّل من شهر جانفي 2012 عديد الأخبار المثيرة للقلق منها :
الخبر1:
أطرد تلميذ مسجّل بمدرسة إعداديّة بمدينة
سجنان من ولاية بنزرت، أُُطرد طردا نهائيّا بسبب اعتدائه بالعنف على أستاذه داخل
المدرسة ...
لكن بعض
السلفييّن هاجموا منزل مدير المؤسّسة التربويّة أثناء عطلة الشتاء واستحوذوا على
دراجته الناريّة وهددوه بحرق المنزل وبتعنيفه وبتخريب المدرسة وبمنع الأساتذة من
التّدريس إن لم يتراجع في قرار رفت التلميذ!!!
الخبر2:
كهل في عقده الخامس إتّهمه
السلفيّون بنقل أخبارهم إلى مركز الأمن الذي يسمّى بلغتهم " الطّاغوت "
وأدّبوه على طريقتهم بالاعتداء عليه بالضرب المبرّح وهددوه بحرق ممتلكاته إن بلّغ
عنهم ثانية !!!
الخبر3:
مواطن عنّفته عناصر سلفيّة فاضطر
إلى التحوّل إلى المستشفى للمعالجة رافضا أن يفصح عن سبب إصابته خوفا من تهديدات
السلفيّين له !!!
ويتواصل سيل الأخبار المتعلّقة
بالإمارة السلفيّة بمدينة سجنان وبهؤلاء السلفيّين الجهاديّين الذين يرون ضرورة
العودة بالأمّة الإسلاميّة إلى الحالة التي كانت عليها في صدر الإسلام، ويعتمدون
تكفير المجتمعات والحكومات ، ويبيحون بالتالي دماء المخالفين لمنهجهم، ويرون أنّ
حمل السلاح لإعادة حكم الإسلام بالقوّة أمر واجب، وإنجازاتهم في هذا الباب تكاد
تسجّل يوميّا.
فهذا مواطن يبيع المشروبات
الكحوليّة يهاجم وتسلب أمواله وتخرّب ممتلكاته ويؤدب بالضرب أمام أعين زوجته،
فيخيّر الهجرة من المدينة التي ولد فيها وترعرع واشتغل وبنى بيتا يأوي أسرته.
وهذا مواطن آخر يؤاخذ على سلوكه "غير المتديّن" فيعنّف أمام
زوجته ووالديه وأبنائه، ويكره على الالتزام بأداء الصلاة والانخراط في المجموعة
السلفيّة إذا رغب في الحفاظ على ممتلكاته من الحرق!!!
المصدر : http://shr.tn/v3nk |
وورد في إحدى الجرائد أنّ
الجماعة السلفيّة المتمركزة بمدينة سجنان تتكوّن من عدد من الشبان والكهول يتراوح
بين 250 و 1000 نفر، أغلبهم من ذوي السوابق العدليّة ومن بين قادتهم من شارك في
حوادث مدينة سليمان وحكم عليه بالسجن لأكثر من مائة سنة، قبل أن يتمتّع إثر الثورة
التي لم يشارك فيها، بالعفو التشريعي العام، علما وأن مستوى هذا القيادي لا يتجاوز
التعليم الإعدادي . أمّا أميرهم فهو شاب في بداية عقده الثالث، ليس حافظا للقرآن
وغير ملمّ بأصول الدين ومع ذلك يبيح لنفسه تحليل وتحريم ما يشاء!!!
ويبقى السّؤال الحارق، إلى متى
سيتواصل هذا الوضع؟؟؟
وهل بالإمكان أن يتّسع الفتق وأن تمتد بقعة الزيت لتشمل ولايات أخرى؟
وإلى متى سيستمرّ هذا الفراغ الأمني وهذا: "الإنفلات الديني"؟
وإلى متى ستبقى الحكومة جاثمة على الربوة، لا تحرّك ساكنا، غير عابئة بما
يحدث، أو لعلّها عاجزة لما تفتقر إليه من خبرة سياسيّة، عن اتّخاذ ما يستوجبه
الوضع من قرارات حازمة تضع حدا لهذا الخور؟
إنّ عذر الحكومات الثلاثة
السابقة في عدم القيام بالخطوات اللاّزمة والحاسمة لمواجهة الاضطراب النّاجم عن
المظاهرات والاحتجاجات المبالغ فيها، والإعتصامات الفوضوية وإيقاف جهاز الإنتاج،
مفهوم لأنّ كلّ الأطراف المتعامل معها تعتبرها حكومة مؤقّتة، وبالتالي لا شرعيّة
دستوريّة لها بل انّ شرعيّتها وفاقيّة لا تسمح بغير تصريف الشّؤون اليومي"ة ،
ولو أن حكومة الباجي قائد السبسي عملت بمبدأ اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا واعمل
لآخرتك كأنّك تموت غدا، وهو في رأيي عين العقل.
أمّا اليوم وقد انتصبت حكومة
شرعيّة منبثقة من انتخابات شفّافة وحرّة وديمقراطيّة، وبعد مصادقة المجلس الوطني
التأسيسي عليها، فإنّ كلّ خطوة تخطوها ستكون مراقبة ومحلّ محاسبة ونقد وانتقاد
وهذا في رأيي أحد أوجه الديمقراطيّة. لذا فإنّ السّؤال المطروح هو التالي: ما هي
المبادرات التي ستقدم عليها لإدخال شيء من الانفراج والاستقرار على الأوضاع وبعث
الطمأنينة في نفوس المتساكنين الذين باتوا يقفون حائرين يتقاذفهم توجّس يتعاظم
يوما بعد يوم إزاء ما يحدث في بعض الجهات.
وممّا زاد في تضخّم تلك الحيرة
في الأيام الأخيرة، وضاعف من ارتباك المتساكنين، التشدد الذي أصبح يميّز سلوك
السلفيّين الملتحين والمكفهريّ الوجوه والمرتدين عباءات غريبة عن عاداتنا في
الّلّباس، عباءات مورّدة من خارج البلاد بالنسبة للرجال، ومثيلاتها داكنة اللّون
تحجب كامل الجسم بالنسبة للمرأة باستثناء عينيها وتسمّى نقابات. ولعلّ أبلغ ما
قرأته حولها ما كتبه أستاذ العلوم الإسلاميّة، حافظ بن شلبيّة في إحدى الجرائد
اليوميّة، إذ قال:
"مساوئ النقاب كثيرة منها طمس الهويّة وإخفاء الحقيقة وهو بدعة
ابتكرتها السلفيّة والوهابيّة إمعانا في ظلم المرأة’ وتجريدها من إنسانيّتها.إنّه
مغالطة دينيّة ومخالفة شرعيّة ام يثبت لها أيّ دليل قطعيّ في الكتاب والسنّة، هو انتهاك
لشخصيّة المرأة المسلمة وكرامتها والرجوع بها إلى عصر الظلمات وهو إثارة للفتنة
بين فئات المجتمع وتشجيع على الطّائفيّة، إنّه اضطهاد للمرأة وجعلها أقلّ من
الحيوان إذ الحيوانات كلّها تكشف عن وجوهها لكي تعرف بعضها ويعرفها النّاس فيميّزوا
بينها ... إنّه عادة قديمة مارستها بعض القبائل قبل الإسلام، ولمّا جاء الإسلام
دعا إلى إبطالها"
ويتجسّم تشدد السلفيّين في مصادرة الحريّات الفرديّة وفي إكراه النّاس على
الصلاة والالتحاق بحركتهم تحت التّهديد بفقدان ما اكتسبوه طوال حياتهم، والتعرّض
إلى" محاكمات" أصبحت تجرى في عقارات افتكّت من أصحابها أو متسوّغيها لتنتصب فيها محاكم تذكّرنا بمحاكم
التفتيش التي نصبها المسيحيّون في الأندلس للمسلمين الذين رفضوا التمسّح وذلك إثر
حروب الاسترجاع.
يحدث كلّ هذا في مدينة من مدن
الشمال التونسي، لا تبعد عن قلب العاصمة أكثر من خمسين كيلومترا، بينما لا تحرّك
الحكومة ساكنا بل تفضّل الصمت المريب وتتفرّج على المشدوهين من المواطنين الذين
تتقاذفهم أمواج الحيرة مم|\ذا يشاهدون والمتخوّفين ممّا سيسفر عنه قادم الأيّام من
مفاجآت لن تكون حتما سارّة، مفاجآت فضّل بعضهم عدم انتظارها وبدأ يحزم حقائبه
للمغادرة والعيش في فضاء مناخه أقلّ توتّرا وأقلّ تدخّلا في الشّأن الخاص وأكثر
تسامحا وتقبّلا لمبدأ الاختلاف وهو ما يدعو إليه الإسلام الحقّ لا إسلام
السّلفيّين
هذا الوجه الأوّل من تخوّف
المتساكنين، أمّا الوجه الثاني فهو التعجّب من صمت الحكومة الرّهيب والمريب بعد أن
وعد العديد من أعضائها - وهي المنبثقة من حزب حركة النّهضة – بإرساء مجتمع مدنيّ
خلال الحملة التي قادوها قبل انتخابات 213 أكتوبر 2011، كما وعدوا بعدم التدخّل في
معتقدات النّاس وعدم تغيير عاداتهم وعدم فرض نوع معين من اللّباس وعدم تغيير عادات
التّونسييّن وعدم المسّ من المكتسبات الاجتماعية خاصّة ما يتعلّق منها بمكتسبات
المرأة التي تضمّنتها مجلّة الأحوال الشخصيّة منذ سنة 1956.
هذه الحكومة لم تحرّك ساكنا
إزاء " تحرّش " السّلفيّين بالمتساكنين( التحرّش هنا ليس المقصود به
المعنى الجنسي كما قد يتراءى للنّهضويّين
ذلك، إنّما المقصود هو المعنى السياسي الذي يعني الاستفزاز أو جسّ النبض أو إطلاق
بالونات اختبار لمعرفة رد فعل الشارع إزاء قضيّة ما ). ويذهب البعض إلى تأويل
الصّمت إياه على أنّه تواطىء ونظرة بعين الرضا لما يحدث، ممّا يُسقط النهضويّين في
خانة الدجّالين والمتحذلقين والمنافقين والنّاكثين لعهد معنويّ عقدوه مع النّاخبين
أساسه دعم الصبغة المدنيّة للمجتمع التونسي.
المصدر : seifnechi.posterous.com |
إنّ تواصل صمت الحكومة والبطء
الذي ميّز تحرّكها وتفاعلها مع مستجدات الساحة السياسيّة المهددة لمدنيّة المجتمع
والتي ستنتهي بالإلقاء به في مصير مجهول إنّما هو آخر الاختبارات التي ستواجهها
البلاد قبل أن يتحدد مصيرها القريب. فإمّا أن تتحرّك المصالح الحكوميّة المختصّة
لتطويق المشاكل والقطع مع جناحها اليمينى
والمتشدد والذي يدفع نحو مزيد التطرّف، وتقرّر وضع حد للعنف السلفي بمختلف صنوفه ( وهي قادرة
على ذلك)، والذي بات يرهّب المواطنين أين انتصب، وإمّا فإنّ البلاد سائرة إلى
مجهول لا يعلمه إلاّ اللّه وواضعو الأجندات السياسيّة من السّلفيّين، مستقبل
يكتنفه الغموض والظلاميّة ورجعيّة عقيمة الجدوى تنبئ بالتدخّل في شؤون المواطنين
الخاصة عن طريق فرق شبه عسكريّة تدعي امتلاك أدوات قيس درجة إيمان المواطن، ولها
صلاحيّات للتّحقيق مع من لا يطبّق قواعد الإسلام، وتحاكم مرتدي اللّباس "غير
الإسلامي" من الفتيات والنّساء، ومراقبة أساليب التعبير الفنّي كالفن
التشكيلي والمسرح والسينما والموسيقى والنحت والرقص والمسرح، وتكفّر المصطافات
بثياب سباحة غير الجلابيب التي تلتصق بأجساد"الأخوات" وتجسّد عند خروجهن
من مياه البحر ما حاولن عبثا إخفاؤه عن أعين الفضوليين فيصبحن أكثر إثارة من " السّافرات"، وتقاوم
كلّ مسّ من "المقدسات" بدعوى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ذلك
الشعار الذي لطالما أُريد برفعه باطل.
ثمّ انّ فرقة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر التي أحدثت هرجا ومرجا قبل أن تتأسّس حتّى، وذلك بوقوفها" بحزم " ضد قرار تعيين
مديرة لإذاعة الزيتونة، تذكّرنا بفرق البوليس الأخلاقي الناشطة في المملكة
العربيّة السعوديّة وفي إيران، وكذلك
بالفرق الفاشيّة في إيطاليا زمن حكم
الدوتشي بنيتو موسوليني، وفي ألمانيا في عهد الفوهرر أدولف هتلر، ولا يخفى
ما قامت به تلك الفرق في البلدين من جرائم أضرّت أيّما ضرر بالحقوق المدنيّة
لمواطني البلدين في فترة ما بين الحربين العالميّتين، وما أزهقته من أرواح ظلما
وعسفا وطغيانا.
إنّ هذه الفرق التي انتصبت
وستنتصب في كل نواحي البلاد ستحرم أبناءنا من التلذذ بالإبداعات الأدبيّة
والفكريّة والفنيّة العالميّة والمحليّة، ستحرمهم من تجلّيات الفلاسفة القدامى والمحدثين أمقال أفلاطون
وأرسطو، ومن مسرحيّات أريسطوفانيس وسوفوكوليس ، ومن استقراء عيون المصادر العربيّة
من تأليف الطبري وابن عربي والسيوطي، ومن مؤلّفات ابن رشد وديكارت والفرابي
وسبينوزا والغزالي ونيتشه، ومن أعمال هيجل
وكانت، ومن التمتّع بحكم ابن المقفّع ولافونتان، ومن تحاليل كارل ماركس وفريديريك
أنجلس وسمير أمين، ومن شعر الأخطلين والمتنبي والمعرّي وابن هاني والبحتري
ولامرتين والشّابي وبودلار وقبّاني وأدونيس، ومن روح تحدّي الطاهر الحداد وخالد
أحمد خالد وعلي عبد الرازق، ومن قراءات الجابري وهشام جعيّط ومحمد الطالبي وعبد
المجيد الشرفي ونصر حامد أبو زيد لتجديد
الفكر الإسلامي، ومن نقشات عبد الوهاب بو حديبة والطاهر لبيب ونوال السعداوي للغوص
في ثنايا النفسيّة العربيّة لمعالجة المركبات التي تعاني منها والبحث عن حلول لها، ومن هبلات
صعلوك الفلاسفة وفيلسوف الصعاليك سليم دولة، ومن ألفاظ أحمد حاذق العرف الثائرة
والتي يشترك فيها مع محمد الصغير أولاد أحمد، ومن فكر سارتر وكامو وروسو ...،
تحرمنا وتحرم أبناءنا من التدرب على إعمال
الفكر في هذا الزخم الهائل من الإنتاج الإنساني بدعوى" منافاته للإسلام "!!!
هذا ما ينتظرنا في الغد القريب،
ما لم تسع الحكومة الحاليّة إلى "مسك الثور من قرونه" وتطبيق القانون
لوضع حد لهذا "الإسهال الديمقراطي" الذي أصاب بعض "الطوائف
الفكريّة والدينيّة" بعد طول إمساك. ما أعسر حالة الإسهال بعد الإمساك، ما
أعسر السقوط في تطرّف نقيض التطرّف لأنّ كلتا الحالتين لا طبيعيّة!!!
وحتّى لا يقال أنّ التونسي علّق منجلا بديلا ليسف حاد على حد تعبير مطربة
تونس الخالدة صليحة.
جانفي 2012.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire