أمّا اليقين فلا يقينَ وانّما أقصى اجتهادي أن أظنّ وأحدُسا
أبو العلاء المعرّي
"الموضوعية المطلقة مستحيلة، وكل من
يدّعيها مغرور أو مُغَرّر به"
محمد الطالبي
اهتزّ
العالم بين 1914 و 1918 على إيقاعات حرب عالمية الاولى من نوعها.كانت حربا فريدة
بالنظر لما تسببت فيه من خسائر لحقت الحضارة الانسانيّة، فضلا عن الخسائر البشريّة
والإقتصادية غير المسبوقة.
امتدت الحرب على أكثر من 1500 يوم وأفرزت
تغييرات استراتيجية وجغراسياسيّة ونفسانيّة وانتهت بوضع خمس معاهدات سلم أبرِمت
بين الذين خرجوا يجرّون أذيال الهزيمة المُرّة، مُثقلين بما شهدته بلدانُهم من
خراب ودمار للبنى التحتيّة وللهياكل الإقتصاديّة، وبين الذين توهّموا النصر
مزهوّين بما حقّقوه رغم أنهم لم يُسجّلوا خسائر أقل حجما ونوعية من تلك التي
سجّلها أعداؤهم، و قد تطلّبت عمليّة
تجاوزها من الجانبين عديد العقود
الزمنيّة.
كان
لهذه الحرب تأثيرات جد عميقة على عرب ومُسلمي المشرق والمغرب الإسلامين لما خلّفها من بُعد نفساني وروحي،
وشعور بالغُينِ واليُتمِ بسبب ما أقدم عليه أبو الأتراك مصطفى كمال من إلغاء
للخلافة العثمانيّة يوم 3 مارس 1924.
كان
لهذا القرار وقع الزلزال المدمّر في أعماق كل مؤمن ومتثبّث تثبثا وثيقا بنظام
" الحكم الخلافي"، وولّد حركات إرتداديّة تجسّمت في بروز تيّارين ينشُد
كل منهما الخلافة، لكن لكل منهما طريقته للوصول إليها ولإعادة تركيزها.
مثّل
التيار الأوّل العائلات المُتنفّذة في المشرق العربيـي، المُعتبِرة نفسها وريثة
لحكم الخلافة، وامتد أفقيّا وعموديّا بين قارتي آسيا وشمال افريقيا.
أما التيار
الثاني فمثّلته مجموعة قامت تطالبُ بإعادة" النظام الخلافي" وتميّز بعض
قادتها بطمع لا محدود في أن يكون أحدها هو الخليفة المنتظر، في مُحاولة مزجت الدين بالسياسة مزجا غلب فيه
الجانب الثاني على الأوّل، وتعزّزت برفع
شعارات مغرية للسواد الأعظم من المسلمين أبرزُها "الحاكمية لله وحده ولا
حاكميّة للبشر" ووجوب "تطبيق الشريعة".
الحاكميّة لله
رُفِعَ
هذا الشعار لترويج فكرة إقامة حكومة دينية وإرساء نظام إسلامي والمطالبة بالجهاد
لضمّ دار الحرب إلى دار السلم، وتأسيس وطن
واسع يشمل كل مسلمي الأرض ، دون اعتبار للحدود الإقليميّة التي رسمها المُستعمِر،
وفيه تُطبّقُ الشريعة الإسلاميّة وما يُصاحبُها من فرض الجزية على أهل الذمّة.وإذا
لم يتحقق ذلك فانّ جموع المسلمين تبقى مُتخبّطة في الجهل والكُفرِ بالله.
ومن
هذا الشعار الفضفاض تولّد شعار آخر وهو شعار"الإسلام هو الحلّ"، إنتماءا
واعتناقا، بمعنى أن لا جنسيّة غير الجنسية الإسلاميّة ولا ولاء للوطن وإنما الولاء
للجماعة الإسلاميّة.
شعار
يدعو إلى إرساء ثوابت جديدة تحدد مفهوم الهويّة، لا مكان فيها للوطن ولا لرايته
الرمز التي يعتبرها البعض "مجرد خرقة" لا معنى لها ما لم تكن راية سوداء
اللون ومكتوب عليها بأحرف غليظة عبارة لا الاه الا الله محمد رسول الله، وتُقرأ من الأسفل إلى الأعلى.
حكومة
دينيّة، الحاكمية لله، نظام إسلامي، إرساء الخلافة الإسلاميّة ... شعارات واسعة
المعاني، تفتقد للدقّة التي يتطلبها استعمال المصطلحات، و تُؤثّثُ بحملات دعائيّة
فتكون بذلك أقرب إلى الشعارات الهُلاميّة منها إلى الشعارات القابلة للتنفيذ على
أرض الواقع.
شعارات
لا تصمد أمام الجدال العقلي والنقد الموضوعي.انها مجرد عملية دعائية تهدف إلى
تشكيل عقل المسلم المنزوع من أسلحة النقد، بشكل يجعله يستهلك عن
"طواعيّة" ما يُروّجُ له ضمن أعمال لوجستية مدروسة وتتكون من نصب للخيام
في الاماكن الاستراتيجية، وتنظيم اجتماعات عامة ومؤتمرات وندوات "علمية"
وتوزيع مطويات لتعبئة ولتجنيد أكثر ما
يمكن من المريدين.
شعارات
تنزل بالاسلام إلى معترك الحياة، تُسيّسُهُ وتُديّنُ الحياة اليومية للمواطن
المسلم.
شعارات
لا تُقدّم أجوبة واضحة المعالم ومُقنعة ومنطقيّة لعديد الاشكالات المطروحة وذات
العلاقة بحياة المسلم في القرن الواحد والعشرين.
وهي شعارات
لا تقدم لنا النموذج الأمثل لحكومة"النظام الاسلامي" المُكرّس لحاكميّة
الله.
فهل
هي حكومة فقهاء ومُفسّرين ومحدّثين، يتمتّعونَ بحصانة سرعان ما تتحوّلُ إلى
"قُدُسِيّة"، ومن ضمن وظائفها تكفير كل المعارضين لسياستها بعد اتهامهم
بالفسقِ والزندقة والمُروق عن الجماعة وحتى اتهامهم بالردة إن لزم الأمر، مما
يستوجب إقامة الحدود عليهم من قطع وبتر للأعضاء من خلاف، واتهام كل من يدعو إلى
الإصلاح بالفساد في الأرض؟
أم
هي حكومة تؤمن بتجديد الروح الإسلاميّة، وترى من أوكد واجباتها تحديث عقل
المسلم.لها وعي شديد بالماضي كمرجع روحي دون الذوبان فيه، تتعايشُ مع الحاضر
وتتأقلم مع مُستجدّاته، ترنو إلى مستقبل نيّر وتسعى جاهدة إلى إسعاد مواطنيها
.تنفتح على العلوم العقليّة الصحيحة والدقيقة، تُساهم في تطويرها بالاستثمار في
الذكاء الإصطناعي وبدفع الناشئة للبحث فيه ليتحوّل المجتمع الإسلامي إلى مجتمع
المعرفة ، يُساهم في انتاج المعرفة ولا يقتصر دوره على استهلاك ثمارها؟
وهل
هي حكومة لها مقدار من الجرأة لتتخلّى عن أسلمة السياسة لأنّ السياسة دنيئة
الأساليب في إدارة الشأن العام، انتهازيّة ووصوليّة، تنجذبُ إلى عقد تحالفات لا
منطقيّة لتضمن تموقعا جيّدا يفرضه تغليب السياسة على الدينِ؟
بمعنى آخرهل تضطرّ " حكومة الإسلام
السياسي" إلى مباشرة"الأمر" بالتدنيّات السياسية والتلاعبات
الحزبيّة والمُحاصصات المقيتة والتوافقات المغشوشة بين أيديولوجيّات مُتنافِرة؟
أم
تراها تبذُلُ أقصى جهدها الروحي والعقلي للنهوض بالشعبِ وجعله شعبا يُؤمِنُ بقيم
الحريّة ويتثبّث بكل حقوق الإنسان الكونيّة بما في ذلك المساواة بين الجنسينِ في
كل المجالاتِ، ويُمارِسُ قيم العطاء والإخاء والتسامُحِ والتطوّع والصّدقِ في
القول والتفاني في البذلِ في مراكز العمل، ويكرّسُ كل المبادىء المُنضويةِ تحت
مفهوم المُواطنة ؟
وهل
تؤمن حكومة "النظام الخلافي" بحريّة
ضمير الفرد وبحريّة اختياره لمن يقوم بإدارة الشؤون الوطنيّة بواسطة
إنتخابات حرّة وشفافة وديمقراطيّة؟
بل
لعلّها تُفضّلُ أسلوب التعيينِ والتزكية لمن والاها ايديولوجيّا دون اعتبار لمقدار
الكفاءة فيه تطبيقا لمبدأ "التمكين"؟
ثم
هل هي من المؤمنين بالولاء للوطن أم تراه مظهرا من مظاهر الجاهليّة لأن الولاء
الصحيح في رأيها يكونُ بلا معنى ما لم يكن للجماعة، جماعة المسلمين؟
إنّ شعار الحاكميّة في رأيي شعار مُظلّل، ولعلّه
من المفيد تنزيله في السياقين الزمني والمكاني الذي وُلد فيه لإدراك أبعاده الحقيقيّة.
فمتى ظهر لأوّل مرّة في التاريخ الإسلامي؟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire