اعتدت كل سنة، نشر مقال بمناسبة إحياء ثورة
17 ديسمبر-14 جانفي، أشيرُ فيه إلى نقائص الثورة تارة، وأحُثّ على ضرورة إستكمال
الإطاحة بالنظام القديم تارة أخرى، وأدعو إلى ثورة ثقافيّة تقطعُ مع السّائد وتفتح
آفاقا جديدة لشعب أغلبُ سكّانه شباب، سيعيشون بالطول والعرض قرن الرقمنة في أجلى
مظاهرها. هذا دون السهو عن انتقاد بُطء الإصلاحات الإقتصاديّة والتردد في أخذ
الإجراءات الجديّة والجذريّة لمُراجعة نمط الإنتاج الإقتصادي ...
في الذكرى السادسة للثورة وجدتني لا أحيد عن
المسار الذي خطوتُ فيه، غداة 14 جانفي 2011، أولى الخُطوات لتأثيث مُدوّنتي، مُنبّها إلى بعض النقائص التي تشوبُ المسار
الثّوري، إيمانا مني بأنّ النقد هو السبيل المُثلى لتحسين المردود في أي مجال كان،
خاصّة إذا كانت "ثورتنا" منقوصة، بمعنى أنّها لم تنته بعدُ، ولم تستنفذ
كل قُدراتها، ولم تقطع كلّ مراحلها ، وأنّها تُواجهُ قوى الردّة التي تُحاولُ
الإنحراف بها عن مسارها ، والإلتفاف على أهدافها...
قوى تحلُمُ بالإعتراف بدورها
"البطولي"، وتنتظر توشيح صُدور
أبنائها بأوسمة "الثوريّة"، ساعية إلى إيهام الرأي العام بدورها في
المُشاركة في الإحتجاجات الشعبيّة التي انطلقت في الحقيقة من الحوض المنجمي سنة
2008، وانتهت عشيّة 14 جانفي في العاصمة وقد أكرهت رأس النظام على الفرار ...
بينما الواقع أنّها كانت تتفاوض معه إلى آخر
لحظة لتضمن لنفسها إعترافا يُخوّل لها
التعايُش مع حُكم استبدادي امتد على أكثر من عقدين.
صدقا، لم أشاهد يوم 14 جانفي من المُشاركين في المسيرة التي انطلقت من نهج محمد علي بالعاصمة،
بتنظيم من الإتحاد العام التونسي للشغل، من يوحي مظهرهُ الخارجي على الأقل بالإنتماء
إلى التيار السلفي بالمفهوم العام للمصطلح، كما اني لم ألحظ رفع شعارات ذات مدلول ديني ...
إضافة إلى ذلك فانّه لا دليل على مشاركتهم في الإجتياح الشعبي
لمقرّات السيادة قبيل يوم 14 جانفي وبُعيد
إيقاف "قبيلة الطرابلسيّة" بالمطار، ولا في أحداث الرديّف، ولا في
انتفاضة الخُبز في مطلع شهر جانفي 1984، ولا في حوادث 26 جانفي 1978 ...
محمد البوعزيزي(طارق حسب بطاقة تعريفه
االوطنية)، لم يكن منتميا لأيّ تيّار ديني أو سياسي ...
لقد قام بمفرده بدور البطولة المطلقة أمام
أحد مقرّات السّيادة بمدينة سيدي بوزيد، كرد فعل على سياسة قهر سحقت الشباب طويلا ... وأدت
أحلامهم في المهد ... أزهقت روح مطامحهم ... جعلت أفاقهم مُدلهمّة ... همّشتهم ودفعت بهم إلى المحارق بعد أن طبّقت
إزاءهم استرايجيّة التحكم في الشعوب التي من أهم عناصرها:
إلهاء الرأي العام وتحويل انتباهه عن المشاكل
الحقيقيّة، وجعل الشعب مُنشغلا بوابل هائل من التفاهات حتى لا يكون لديه وقت للتفكير
حسب نظريّة المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي.
- إبقاء الشعب في حالة جهل وحماقة، وذلك بجعل التعليم العمومي المُوجّه للطبقات السفلى، التي تشكّل أغلبيّة المجتمع، ذو نوعية معرفيّة رديئة، حتى تُكرّس الهوّة المعرفيّة بينها وبين الطبقات الميسورة، التي ترسّم منظوريها في مؤسسات التعليم الخاصة ذات النوعية المعرفية الجيّدة نسبيّا.
- تشجيع الشعب على اعتبار الرداءة أمرا عاديّا، وإقناعه بانه من "الرائع" أن يكون غبيّا ...همجيّا، جاهلا ... ميّالا إلى العنف، سلوكا ولفظا ومظهرا خارجيّا، بواسطة منظومة إعلاميّة مُخترقة، انخرط العديد من أفرادها طوعا أو إكراها في خدمة النظام، لنشُر التفاهة، والتقاعُس والتواكُل، وللتشجّيع على عدم بذل الجُهد لكسب المعرفة، وللإعتماد على ألعاب الحظ لكسب ملايين الدنانير دون جٌهد يُذكر،ولاتخاذ "فناني" الزمان الرديء ورياضيي المنظومة الرياضية المُنحرفة، امثلة يطمح الشباب المُهمّش إلى النسج على منوالها ...
سياسة القهر طالت كذلك المفكرين والمثقفين
والإعلاميين والفنانين والطلبة التقدميين وكل مُعارضي النظام القائم ... سياسة حوّلت أحد الباعة المُتجولين بمدينة
المُنستير إلى كومة تضطرم نارا امام مقر البلدية، بضع أشهر قبل حادثة البوعزيزي ...
لقد كُنت شاهد عيان على أحداث أقل خطورة،
ولكن ليست أقلّ عُنفا، بين الباعة
المُتجوّلين عبر أنهُج العاصمة يُحاصرهم
أعوان التراتيب البلديّة ... أحداث كانت عبارة عن مُؤشّرات حيّة لعُمق
تأزّم الوضع، و لبلوغ النظام آخر مراحل
وجوده التي فجّرها رد فعل البوعزيزي ...
البوعزيزي أضرم النار في جسده الفاني تعبيرا
عن رغبته المُلحّة في عيش يضمن كرامته كإنسان.عيش كبّلته القوانين الجائرة، ورسم
طريقهُ عجز الحكومات المُتعاقبة عن فتح الأفاق أمام العاطلين من الشباب ...
ثورة الشباب لم تُطالب بالشغل فقط، بل طالبت
بما أرقى من ذلك بكثير، إذ طالبت بالحرية والكرامة الوطنية...
انها ثورة نبيلة الأهداف، راقية المعاني
والغايات والمقاصد...
انها صرخة مدوية ملأت الآفاق مُعلنة عن رفضها
للقهر وللإستبداد، ومُعبّرة عن كُفرها باستغباء الشعوب
وباستغلالها ...
ثورة طالبت بمبادئ انسانيّة... أعلنت عزمها
عن التمسّك بها، وعن عدم التخلّي عنها، مهما اجتهد دُعاة الماضي الغابر في إعاقة مسيرة
تقدمها، بتكبيل الأرجُل والعقُول لمنعها
من مُعاصرة زمانها...
ثورة ضد الإنتهازيين والباحثين عن المكاسب
الماديّة، والساعين بشتى الطرق للوصول إلى
أرائك الحكم الوثيرة، لتأبيد امتيازاتهم والتنعّم برغد عيش، بعيد المنال عن خمس شعب يعيش الفقر المُدقع في
أكثر الظروف المناخيّة قساوة ... ظروف شتاء 2017 ...
ثورة تفوح بعبق الشباب ممزوجا بالعرق ...
شباب وضع على حد قول الكاتب التونسي محمد المحسن
:" حدّا لهزائمنا المُتعاقبة، قطع مع كل أشكال الغُبن والإستبداد، خلخل حسابات المنطق، جسّد هزّة عنيفة مُخلخلة للوعي المُخدّر والمُستلب، وضع بالتالي بدماءهُ الطاهرة إشراقات ثوريّة، قدرُ الطغاة فيها هو الهزيمة ..."
ثورة فجّرها شباب يُؤمنون بوضع حد لزمن ردىء
طال أكثر من اللازم ...
شباب يوقنون بأنّ غدهم لن يكون أفضل من أمسهم
إلا إذا استمر النفس الثوري متيقّظا ... مُتأججا في أعماقهم ، لأنّ النضال من أجل
الحريّة إنما هو صراع متواصل لا ينتهي، ولا يترك أي مجال لعودة دُعاة الماضي، دعاة
الثورة المُضادة ...
فهل يرضى الشباب اليوم، وقد انقضت ستّ سنوات
من عمر الثورة، بمختلف أنواع الشد إلى الوراء، عبرتكرر المحاولات التي بلغت مرحلة التهديد
بالإرهاب... وبعد اليأس من تغيير هُويّة الشعب، وإفلاس ساسة تقسيم المواطنين إلى
مؤمنين وعلمانيين، والتوعّد بسحل المعارضين في الساحات العامة، والفشل الذريع في
تدجين المرأة التي لم ترض بالوقر في البيت، وُصولا إلى تنظيم عمليات القتل في
باردو وعلى شاطىء مدينة سوسة وعلى الحدود، وفي قلب العاصمة باستهداف حافلة الأمن الرّئاسي
...؟
محاولات الشد إلى الوراء بدأت منذ عودة زعيم
قوى الردة إلى البلاد، واستقباله من قبل أنصاره،
كما استُقبل محمد عند وصوله يثرب، بعد أن غادر أحب المُدن إلى قلبه حيث ضاقت به
وبأتباعه السّبُلُ ...
تواصلت تلك المُحاولات بالتبشير بإعادة نظام الخلافة إستجابة لإشارات
ربّانيّة لم تلقطُها غير بصيرة مُهندس
عمليّات تفجيرات النزل في سوسة والمنستير ذات صيف، وأدّت بحياة عدد من السيّاح الأجانب، وباستقدام "علماءّ" تُحرّكهم
عقد جنسيّة لم يتحرّروا منها، افتوا بجواز إرضاع الكبير، وبجواز ضرب المراة،
ومنعها من أبسط حُقوقها كاستخراج بطاقة هويّة، والحصول على رخصة لقيادة السيارات، وأجازوا نكاح الميّتة ونكاح العجوز ...
"علماء" قدموا من مجتمعات موغلة في
الإنغلاق، مغمورة تحت ركامات الجهل المُتكلّسة ... مُجتمعات مُتمسّكة بماضيها
السحيق، تحنّ إلى صدر الإسلام حنين الرضّيع إلى صدر أمّه، رافضا الفطام...
مُجتمعات مُصابة بعمى الألوان، وترفض فتح
أبصارها على مُحيطها الكوني، مُعرضة عن التعايُش وعن التفاعُل مع مُستجدّات عصرها
...
مُجتمعات تأبى الإنصهار في زمانها لتستحضر طفولة تاريخها وبدايات دينها، مُتمثّلة
إياها هيأة، ولبسا،
وسلوكا، وحتى علاقات جنسية ...
إن ثورة البوعزيزي لم تصل في رأيي، وإلى يوم
الناس هذا، إلى العنوان الصحيح، لأنها سُرقت وحُوّلت وُجهتُها ...
ثورة الشباب سرقها " الشيّاب" ...
حوّلوها تحت التهديد إلى وُجهة غير الوُجهة التي من أجلها
فُجّرت ...
هددوها بالإرهاب لفرض نظام سياسي هجين قُسّمت
فيه السلطة إلى رؤوس ثلاثة، تقسيما أصبح أخذ القرارات الحاسمة معه، وإعادة هيكلة
البلاد، وبعث المؤسسات الضامنة للحريّة ، وللعدالة، وللكرامة، وللديمقراطية،أمرا
أقرب إلى المُستحيل منه إلى المُمكن ... فدخلت البلاد في متاهات مُحاربة الإرهاب،
واستقبال "التائبين" من الإرهابيّين ... وضاعت أو كادت تتبخّر أحلام
الشباب، وتقلّص مجال حُلم الكهول والشيوخ بغد أفضل لطالما انتظروا حُلوله ...
وخفتت، و كادت تخمُد أصوات المُطالبة بثورة ثقافيّة واجتماعية واقتصادية وقيميّة
تُكلّلُ المسيرة الثوريّة ...
حدث
كل هذا تحت وطأة قوى الشد إلى الوراء،
التي تُعارضُ القطع مع الماضي والتحرّر من هيمنته ... ترفُض دراستهُ دراسة علمية
ونقدية، مُتجاهلة بانّ من يتشبّثُ يالماضي هو في الغالب، وعلى حد قول المُفكر عبد
الله العرويّ "أكثر النّاس جهلا به لأنّه يختزل الثقافة العربيّة في الإنتاج
الدّيني ... ومنهم من لا يعرفُ من الثراث إلا فتاوى ابن تيميّة ..."
فهل من ثورة تصحيحيّة تُعيد الأمور إلى
مسارها الصحيح؟
ملاحظة
يقول نور الدين البحيري، احد صقور قادة حزب
حركة النّهضة، عندما كان وزيرا للعدل:
"من يُعوّلُ على أن تتسحّر النهضة بالسلفيين فهو واهم."
اما أنا فأكرر ما قاله المُفكّر علي شريعتي:
"من الصعب أن تتعايش مع أناس يرون أنفُسهم دوما على صواب."