بدو
اننا لم نُدرك تمام الإدراك أهميّة تلك التحرّكات الصاخبة
انها ليست جديدة حتى تُفاجئنا، بل عرفها التاريخ
التونسي قديما وحديثا، ولطالما عبّرت عن رفض " الجماهير الشعبيّة " للظلم
والضيم والازدراء الصادر عن أولي الأمر الذين لم يُدركوا أن جين الثورة هو أحد
مُكوّنات الشخصية القاعدية للإنسان التونسي...
لوحظ ذلك في مناسبات عديدة من تاريخ هذه البلاد، فكانت ثورة الدوناتيين في العهد الروماني، كما كانت ثورة علي بن غذاهم ، وثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي 2011...
انها انتفاضات وثورات عاكسة لصراع طويل ونضال لا
ينقطع ضد الظلم والغطرسة وإرادة تهميش المركز للأطراف...
ان المُتأمّل في تاريخ البلاد التونسية يُدركُ أن
التحرّكات الاجتماعية ضاربة في عمق التاريخ... ولم تكن البتّة مُباغتة، أو مُنبتّة، أو معزُولة عن واقعها المعيش، بل اندلعت دوما من
أسّ تستند إليه، وانبثقت من مرجعيّة تحتفظ
الذاكرة الشعبيّة بها، وتتوارثُها جيلا
بعد جيل...
انّها ليست إلاّ
حلقة من سلسلة طويلة، لعلّها بدأت منذ أولى
مُحاولات الفينيقيين القادمين من شرق المتوسّط، غصب البربر، سُكّان هذه
الأراضي الأصليين، حُقوقهم ومُمتلكاتهم (الأرض) وإخضاعهم لإرادتهم...
أكاد أرى في
أسطورة عليسه، زعيمة القادمين من أرض
كنعان، والذين توصّلوا إلى امتلاك جزء من أراضي سيُقيمون عليها مدينة ما سيُسمى لا حقا قرطاج،
تكون ملجأ لهم و يعيشون داخل أسوارها وينعمون بأمان فقدوه في مسقط رأسهم المدينة – الدولة صور،
أكاد أرى صورة للصراع بين دخيل شره، طفح
طموحه الفيّاض فتحوّل إلى قهر وغصب واستبداد للسكان الأصليين ، الذين أدركوا أن انفتاحهم على الآخر، وتسامحهم معه ومُساعدته، بات يُهددهم بفقدان مكاسبهم، في ظل وضع جغراسياسي جديد وميزان قوى رجح لجانب
من وفّروا لهم ظروف العيش
بين ظهرانيهم...
عليسة المصدر : http://kikojo.over-blog.net/article-10023028.html |
تتواصل السلسلة مع تصدي البربر لسياسة" الرومنة
" وفرض الدين المسيحي على سُكان المدن، فكانت تحرّكات الدوناتيين ، كرمز لتمسّك
السكان الأصليين بذاتيّتهم وبموروثهم الثقافي عموما والديني تحديدا.
وكذلك كان الشأن مع صمود البربر أمام " الزحف
العربي الإسلامي " أكثر من نصف قرن، برزت خلاله شخصيّات نضاليّة لا تزال
تُضيء تاريخ هذا الشعب، من أمثال الكاهنة، وكُسيلة زعيم قبيلة اوربة البربرية،
وصاحب الحمار لاحقا، وصولا إلى العصور الحديثة، لتبرز في القرن التاسع عشر شخصيّات
علي بن غذاهم زعيم أولاد ماجر، وفي القرن العشرين شخصيّات مصباح الجربوع وعلي بن
عمّار العيّاري وغيرهم...
مصباح الجربوع |
يجدر التذكير بعديد الانتفاضات الشعبية التي تداخل
فيها في زمن ما ، الصراع ضد المستعمر الأجنبي بالصراع ضد السلطة الحاكمة ولو
صوريّا، والتي كانت دواخل البلاد مسرحا لها منذ مطلع القرن العشرين، مثل انتفاضة
سنة 1909، بمنطقة تالة والتي قادتها تلك القبيلة "المُشاغبة جدّا "،
قبيلة الفراشيش، وهي التي يعتبرها الأستاذ الهادي
التيمومي (أي الانتفاضة ) على
غاية من الأهميّة لكونها تُمثّل حسب رأيه:
" انتقال الفلاحين ... من حالة الخُضُوع السلبي
للإستعمار الفرنسي إلى التمرد المسلّح ضده ... وهي أول انتفاضة دامية بعد
المقاومة
البدويّة الكبرى لسنة 1881 ..."
ورغم خُطورتها فإنّ
" خطرة الفراشيش " لا تنسينا انتفاضات أخرى عرفتها البلاد ضد الظلم
والقهر والتهميش و " الحُقرة " تُجاه ما يقع خارج أسوار المُدن الكبرى
والسّاحلية منها تحديدا، والتي تمتّعت بوافر الحُظوظ قرونا طويلة، مثل انتفاضة
أولاد دباب في الجنوب الشرقي بين 1915 و 1918 ، وانتقفاضة أولاد بلواعر في
النفيضة، إلى جانب " حرب العصابات " الفلاحيّة التي عمّت الكثير من
الأرياف والبوادي في بداية خمسينات القرن العشرين يُلاحظ أن أغلب الإنتفاضات انطلقت من دواخل البلاد:
سيدي بوزيد، قفصة، القصرين، الكاف، سليانة، ... وكانت مُوجّهة ضد من ناصب
المُهمشين العداء من أصحاب الأموال والأعمال والماسكين بمقاليد السلطة السياسية المركزيّة، وضد كل
من كانوا ينظرون من عليائهم نظرة دونيّة إلى غيرهم ممن تُطلق عليهم عبارة آفاقيين
تلك النظرة لم تكن وليدة دولة الإستقلال التي استفادت منها نُخب المدن الساحلية دون غيرهم من سّكان الأرياف
والبوادي، وهندسوا سياسة تنمية اُقصيت منها أو كادت مناطق داخل البلاد التي لا تزال بعد ما يُناهز ستين سنة من التخلص من الحضور الإستعماري، تشكو فقرا شديدا للتجهيزات ولأبسط المرافق العمومية ، وتعيش شبه مُنعزلة عن المراكز الحضرية الأخرى، بل انها شكلت على امتداد عشرات القرون، احدى الأثافي الثابتة التي عليها ارتكزت ايديولوجيّات مُختلف الدول التي حكمت البلاد مُنذ تأسيس قرطاج، وتطفح بها كتابات المثقفين من ذوي المنشأ الحضري، من أمثال ابن خلدون، وابن عرفة، وابن أبي دينار، والوزير السرّاج، والباجي المسعودي، وأحمد بن أبي الضياف... و لا تخلو منها عديد الأعمال الفنيّة كالمسرحيّات " الهزلية" التي كثيرا ما اتخذت من سكان الأرياف والبوادي مواضيع للتندر تكرس تفوّق تلك النظرة وتلك المفاهيم المدينية (نسبة إلى المدينة)، على مفاهيم ونظرة ولهجات وأنماط عيش أهل الداخل
من كانوا ينظرون من عليائهم نظرة دونيّة إلى غيرهم ممن تُطلق عليهم عبارة آفاقيين
ڢان ڨوڨ : الصرخة |
تلك النظرة لم تكن وليدة دولة الإستقلال التي استفادت منها نُخب المدن الساحلية دون غيرهم من سّكان الأرياف
والبوادي، وهندسوا سياسة تنمية اُقصيت منها أو كادت مناطق داخل البلاد التي لا تزال بعد ما يُناهز ستين سنة من التخلص من الحضور الإستعماري، تشكو فقرا شديدا للتجهيزات ولأبسط المرافق العمومية ، وتعيش شبه مُنعزلة عن المراكز الحضرية الأخرى، بل انها شكلت على امتداد عشرات القرون، احدى الأثافي الثابتة التي عليها ارتكزت ايديولوجيّات مُختلف الدول التي حكمت البلاد مُنذ تأسيس قرطاج، وتطفح بها كتابات المثقفين من ذوي المنشأ الحضري، من أمثال ابن خلدون، وابن عرفة، وابن أبي دينار، والوزير السرّاج، والباجي المسعودي، وأحمد بن أبي الضياف... و لا تخلو منها عديد الأعمال الفنيّة كالمسرحيّات " الهزلية" التي كثيرا ما اتخذت من سكان الأرياف والبوادي مواضيع للتندر تكرس تفوّق تلك النظرة وتلك المفاهيم المدينية (نسبة إلى المدينة)، على مفاهيم ونظرة ولهجات وأنماط عيش أهل الداخل
ولئن كانت
هذه النظرة مفهومة، او مقبولة زمن الإستعمار، فان ما لم يستوعبه سكان الداخل --
والذين أصبح لهم امتداد في الأحياء الشعبية المُحيطة بالمدن الكبرى، تأسّس بعضها
بعد أزمة الثلاثينات الإقتصادية كالأحياء
القصديرية بالملاسين والجبل الأحمر ، وبرج علي الرايس والسيدة المنوبيّة،
في حين تأسس بعضها الآخر في ستينات القرن العشرين، اثر فشل النمط الإنتاجوي
الإشتراكي، مثل حي التضامن وحي هلال وحي 5 ديسمبر-- هو استمرار استعلاء
الحواضر على البوادي والأرياف، بعد ان تحصّلت البلاد على استقلال ساهم في كسبه
سكان المناطق المهمّشة بالقدر نفسه الذي ساهم به سكان المُدن الساحليّة الكبرى، إن
لم نقل بقدر أزيد بكثير...
ان عبارة "الحُقرة " التي كثيرا ما يلجئ إليها
المُحللون في تفسيرهم لأوضاع
البلاد قبيل وبُعيد الثورة، هي في نهاية المطاف وراء ردة فعل سُكان المناطق المُهمّشة ضد مركزيّة
الدولة العاجزة عن رسم سياسة تنمويّة يكون
لهم فيها الدور الأساسي لتحقيق ما
ينتظرون منذ قرون...
المصدر : من اجل الاعتراف بڨبلي كولاية تونسية http://kebilitunisienne.unblog.fr/2011/06/20/tunisie-le-taux-de-pauvrete-entre-le-maquillage-et-lexageration/ |
لذا فإنّ "ثورة الياسمين" لا تُختزل في فرار رأس السلطة، كما أنها ليست "انتفاضة" كما يحلو للبعض تسميتها للتقليل من شأنها، انما هي ثورة بكل
المقاييس، وبكل ما تحمله عبارة ثورة من معاني عميقة... غير أنها ثورة من صنف جديد
لم يعهده العالم، وبأسلوب غير مسبوق ،
اسلوب أكثر "حضريّة "، لأنها ثورة سلميّة أوّلا ، وثورة للمطالبة بالحق
في تنمية عادلة ترفض قطعيّا عدم توازن أقاليم البلاد، وترفض تقسيمها بالطول إلى
ساحل وداخل ثانيا...
وما لم يدرك من بيدهم زمام الأمور، مهما كان
انتماؤهم، هذه الخصائص المميّزة للثورة
التونسية، وما لم يتخلّوا عن شبقهم للسلطة
الذي قد يطمس ادراكهم للمغزى الحقيقي من خروج الشباب إلى الشوارع، وما لم
يُعالجوا بالحكمة المطلوبة المشاكل المطروحة، فإنّ ثورة أخرى قد تشهدُها البلاد،
وقد لا تكون هذه المرّة سلميّة كسابقتها بل لعلّها ستُدخلُنا في مُنعرجات خطيرة لن
يكون الخروج منها يسيرا، وقد ترهن إلى
المجهول مُستقبل أجيال كاملة...
لقد ثبت تاريخيّا أن سكّان غرب البلاد وتحديدا
الفراشيش والهمامة وأولاد ماجر وأولاد عيّار، وغيرهم، هم القلب النابض وهم روح
تونس المُنتفضة عبر التاريخ، والتي تعود مُجدّدا إلى الإنتفاضة عندما ... "
يصلُ الوجعُ إلى حد لا يُطاقُ ولا يُحتملُ، أو لمّا ترى خيانات الحاكم ومكره، أو
ترصد عجز نُخب مُصابة بالعمى الأيديولوجي" ، كما عبّر عن ذلك الأستاذ لطفي النجّار.