|
أغلبُ الثورات الناجحة
التي عرفها تاريخُ البشريّة كانت قادحا
أدى إلى تغييرات هامة إن لم تكُن عميقة
قطعت مع تعاسة الماضي وفتحت آفاقا رحبة لتحقيق حُلم لطالما راود أجيالا مُتعاقبة، لكن
دون أن يعني ذلك أنّها كانت بمنأى عن بعض
الهنّات التي يُسمّيها البعضُ سلبياّت أو نقاط ضُعف أو ما شابه ذلك من العبارات المُستعملة
في هكذا موضوع.
من بين السلبيّات المُلفتة
للثورة التونسيّة ، التي فتحت عهدا أصبح
يُطلقُ عليه مُصطلحُ " الرّبيع العربي "، وُصول فئة من القادة
السياسيّين إلى سدة الحُكم بفعل "
الشّرعيّة الانتخابية "، تدل
مُمارساتهم، وجلّ نقاشاتهم ومُجادلاتهم، ذات العلاقة بتحرير دُستور جديد للبلاد، طالب به
متظاهرو القصبة2 ، على عشقُهُم الدفين
للكراسي، ورغبتهم الشديدة لتأبيدُ بقائهم
فيها.
غير أنّ المنطقُ السليمُ يفرضُ على الذين عاشُوا المحن، وقبعوا سنوات طويلة في
السّجون، أن يكونوا أقرب النّاس إلى نبض الفئات التي سحقها التهميشُ والتمييزُ
والمحسوبيّةُ والجهويّةُ المقيتةُ، التي باسمها أُديرت البلاد لأكثر من نصف قرن، وأن
يكونوا أكثرهم رحمة و رأفة بالشعب، وأن يتخلوا عن نزعة الانتقام التي تُحرّكهم، وعن نزعة الحقد على نظام حكم البلاد بعد الاستقلال
، يعتبرونهُ عميلا للغرب، وآلة يُحرّكُها المُستعمرون القدامى، لاستئصال البلاد من فضاء الثقافة العربيّة الإسلاميّة التي عاشت في ظلّه أكثر من 14 قرنا، في حين يثمّنُه مُنافسوهم ويرونهُ نظاما
تقدّميّا حداثيّا مُواكبا لمُتغيّرات العصر، ومُنخرطا في السّيرورة التاريخيّة، بدفع من قراءة مقاصديّة للنصّ القرآني ،
تُوازيها قراءة نقديّة للموروث الثقافي
برُمّته ، لا تقبلُ كلتاهما غير ما يتنزّلُ في منهج المنطق السليم والعقل
القويم، وترفُضان الأحاديث الموضوعة عن
الرسول الأكرم، والفتاوى التي ما أنزل اللّه بها من سُلطان، والتي تُثير في
المُسلم الحق الاشمئزاز...
كما يفرض ذات المنطق عليهم، أن
يتجاوزوا ما صدر عن البعض منهم من مُطالبة بمُكافآت ماليّة، مُقابل سنوات الجمر التي عاشوها، كمُقابل لنضال ألقى بالبعض منهم في السّجون الرّهيبة، أين عانوا ألوانا من التعذيب ، في
حين تمكّن البعضُ الآخرُ من الارتماء في أحضان الغرب "الكافر"، أين تنقّلوا بحريّة ونشروا أفكارهُم دون رقابة،
وأسّسوا الشركات المُربحة، وسجّلوا أبنائهم في أشهر الجامعات، قبل أن تمنحهُم
الثورة فرصة العمر للعودة مُظفّرين إلى بلاد فرّوا منها أيّام المحن وذهب في ظنّهم
أنّهُم مُكلّفين بواجب اعادة "فتحها "
...
رمز الفشل السياسي |
إنّ أطماعهُم
اللاّمحدودة، وتعامُلهم مع الدولة على أساس أنّها غنيمة، نسفت أحلامهُم، وقوّضت توقهُم إلى مرتبة" الأبطال الوطنيّين"، وحوّلتهُ
إلى وهم وإلى طمع دنيويّ دنيء، وأفرغت العمليّة النضاليّة التي قامُوا بها
من المعاني ومن المبادئ النّبيلة التي من المفروض أن تكون قد أسّست عليها، إذ أضحت عمليّة مُقايضة
من أجل ربح ماديّ لا يُمكن بأيّ حال من الأحوال أن يرتقي إلى مرتبة النضال ، إضافة
إلى ذلك فما أن أجلستهُم الشرعيّة على كراسي الحُكم حتى إنصهروا مع معدنها، لتأبيد
بقائهم عليها ، وهو ما اعتبرهُ أحد المُفكّرين سبب كلّ المآسي التي تعيشُها
البلادُ اليوم...
هؤلاء لم يتقدّموا في رأيي على درب مُعالجة مشاغل المُواطنين مُعالجة
جديّة... لم يستوعبوا الدرس الذي أراد ذاك
الشّابُ الذي أضرم النّار في جسده، ذات 17 ديسمبر 2010، أن يُخلّدهُ... لم يفُكّوا شفرة الرسالة التي أورثهُم إيّاها... لم يكونوا أمناء لصاحبها وإلاّ لما كان هُناك
إضرام، وإضرام، وإضرامُ نيران أخرى، في أجساد شباب كان آخرُهم ما اتاهُ الشّاب عادل الخزري صبيحة 13 مارس 2013، أمام مبنى المسرح البلدي بقلب العاصمة، و لم
يتجاوز عمُرُه 27 سنة ... نزح من مسقط رأسه في ريف مدينة جندوبة المنكوبة خلال
العهدين السّابقين، نحو العاصمة ، في أحد مواسم الهجرة إلى الشمال، بحثا
عن بعض كرامة لا تتحقّق بغير العمل
...
facebook.com/pages/Zwewla/244524092300855 المصدر صفحة مجموعة زواولة فايس بوك |
ها أن مأساة البوعزيزي
تتكرّرُ مرّات ومرّات ... فهل كُتب على شباب هذه الأمّة البُؤسُ والإحباطُ واليأسُ
والانتحار فُرادى وجماعات وما التفت إليهم أحد من أصحاب الكراسي؟
ماذا فعلنا للبوعزيزي؟
خلّدنا عربته... أقمنا لها مُجسّما...حولناها
إلى رمز يكاد يحمل معنى قُدسيّا عند البعض... لكن هل توفّقنا في وضع حُلول للمشاكل
التي دفعتهُ إلى تقديم جسده قربانا ؟
أسلنا مدادا كثيرا ...
أدرنا جدالا طويلا ... عقيما حول رقصة " هارلم شايك " أدّاها شباب
مدرسيّ كاد يقتلهم الضجر وتهميشُ الكبار، لهُم وعدم المُبالاة بهم، وفساد منظومة تربويّة
أصبحت مصنعا كبيرا لتخريج أفواج من المُرشّحين لإحباط جماعي ...
انشغلنا بزيادات منح أعضاء
المجلس الوطني التّأسيسي ... تجادلنا في " شرعيّة " رشّ من تركوا الديار في مدينة سليانة ليُعمّرها
وال أصمّ يأتمر بأوامر حزبيّة ولا يجتهدُ للبحث عن حُلول لمشاغل"
رعيّته"، واليوم يُشاعُ أنّ " الرشّ " لحق أهالي مدينة قفصة ...
فتحنا الأبواب على
مصراعيها أمام فرق" بلطجة " تجول وتصول في البلاد طولا وعرضا، تُفسد اجتماعات
" المُنافسين " ... تُهاجمُ مواكب دفن الشُهداء بدون حياء ولا احترام
لحُرمة الموت...
انسقنا في مُسلسل التّحوير
الوزاري الذي كانت إحدى حلقاته تغيير حكومة الترويكا، وبعد نقاشات استغرقت أسبوعين من عُمُرنا، أحلنا
محلّها ترويكا ثانية، تأسست على وهم تحييد بعض الوزارات لامتصاص احتقان
شارع لم يعُد قادرا على استيعاب المزيد من الإحتقان ، بعد سُقوط ثاني ضحيّة للعُنف
السياسي يوم 6 فيفري 2013 ...
لم ينجح أصحابُ الكراسي في
قراءة رسالة البوعزيزي ورسالة الخزري من بعده؟
لو كان الأمرُ كذلك لما كان لمحمد البوعزيزي حواريون، ينسجون على
منواله لعلّهم يُذكّرون أولي الأمر منهم بمضمونها.
عادل الخزري هو أحد هؤُلاء الحواريين، فهل يكون آخرهُم؟
محمد البوعزيزي فتح الباب لثائريّ ما قبل الثّورة، وللثّائرين الجُدد
اللّاهثين للالتحاق بالثّورة ، وللمُستثورين
الذين امتطوا صهوة الثورة... فتح لكلّ
هؤُلاء الباب، فاندفع الكلّ يسعى إلى الاستئثار بها لنفسه، وأصبحت ترى الكلّ
يتكلّم باسمها دون حياء ويتوهم التخاطُب ب "اسم الشعب "... وأمسيت تستمع
مُرغما إلى المُتحصّنين بشعار " الشّرعيّة "، ومن موقع من لا سُلطة فوقهُم، يُطالبُون بما لم
يُطالب به منجزو الثّورة الحقيقيّين...
يستقدمُون
دون استشارتنا شُيوخا استحكم الجهل في عُقولهم فانبروا يُسرّبون في صُفوف شبابنا طُقوسا
مُرعبة و مُربكة، لا عهد لنا بها، تهدفُ إلى تفكيك سلوكيات أجمع الشّعب عليها من
قُرون طويلة، طُقوس تنحر تاريخ وثقافة شعب بأكمله على مذبح الجهل ... بينما يتفرّغ
مُستقدموهم إلى تمرير مشاريع قوانين استئصاليّة، تُقصي مُنافسيهم من انتخابات طال انتظارُها تحت
عنوان " تحصين الثّورة "، وإلى المُطالبة بتطبيق الحُدود من بتر وقطع وجلد، والمُناداة
بختان البنات واعتباره عمليّة تجميليّة ، فضلا عن كبحه جماحهنّ، وكبته لغريزة غرسها اللّه فيهنّ كما غرسها في
الرّجال، ومُحاولة تشكيل عُقول لا تهتمّ بغير تلبية ما في الرجال (أمثالهم ) من
غرائز بهيميّة، والتبشير بقُرب إقامة نظام الخلافة، وإطلاق فتاوى تؤكّد على " شرعيّة "
التعدديّة الزوجيّة" لاعتبارها
" مطلبا شعبيّا "، وإباحة زواج المسيار والزواج العُرفي على لسان " عُلماء " سمحوا لهم باستباحة البلاد
والتنقّل فيها، حتّى أنّ أحدهُم زار ماخُورا وصوّر تفاصيله في فيديو عرضهُ عبر
قناة تلفزيونيّة ليُعيّر به لاحقا المرأة التونسيّة، سيّدة كلّ نساء العرب... وفي
المُقابل ترفُض المصالح ذات النّظر منح ترخيص لأحد المُفكّرين ببعث جمعيّة قرآنيّة
...
facebook.com/takarifsheihk المصدر صفحة تخاريف الشيوخ في فايس بوك |
حقّا كم في التاريخ من مهازل ...
الواضحُ أنّ هذا الصنف من " العلماء " تحرّكُ أصحابهُ عُقد
جنسيّة لم يتحرّروا منها، أضحت السمة البارزة للمُجتمعات التي نشأوا فيها،
مُجتمعات غارقة في الانغلاق، مغمورة بظُلمات الجهل، مُتمسّكة به، تحنُ إليه دوما حنين الرّضيع إلى صدر أمّه، يخشى الفطام،
رافضا انفتاح الأبصار والبصائر على بيئته، مُعرضا عن التعايُش مع ما تشهدهُ من
مُستجدات، مُستحضرا طُفولة تاريخه ودينه،
مُتمثّلا مُميّزاتها، هيأة ولباسا وسُلوكا، وعاجزا عن تخطّي عتبة " السقيفة " التي لم نُشف
كعرب ومُسلمين من جُرحها، رغم أنّ "
اللّه وقى المُسلمين شرّها "...
فهل أنّ رسالة البوعزيزي أخطأت العنوان، أم أنّ الثّورة سُرقت
وحُوّلت وجهتها إلى غير الوجهة الصحيحة، مما قد يُدخلُ البلاد في متاهات يذوب معها كلّ
ما تحقّق من انجازات اجتماعيّة وثقافيّة؟
وهل من مُغيث يُعيد الأمور إلى مسارها الصحيح؟
العوينة، 28 مارس 2013.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire