في التدوينتين السابقتين، طرحنا اسئلة حول تخلفنا، ثم ركزنا على العلاقة بين الديني والسياسي. هنا، نذكر كيف اقفلنا على أنفسنا أبواب التفكر
ولقد دعّم الإمام أبو حامد الغزالي موقف الإمام الشافعي وعاضد جهده في دعم
السلف الصالح، منكرا التيار التجديدي للفكر الإسلامي ومُعارضا كل جهد عقلاني هبّت
به نسائم فكر ابن رُشد، مما أوصد الأبواب أمام الفكر الحرّ والنير الذي أضحى تُهمة
يُدان صاحبه ويُكفّر ويُهدرُ دمُه، بداعي الإختلاف الذي عوضا ان يكون رحمة، تحوّل
إلى بدعة، وإلى فتنة، ثم إلى ضلالة مصيرُها ان تُلقى في نار حامية"حفاظا
على وحدة الأمة".
وهكذا
توقّف التيّار العقلاني أو كاد، وصار التفسير النقلي المُستند
إلى الآثار المنقولة عن السلف، أي المُعتمد على الصحابة والتابعين هو الطاغي، فيما
أصبح التفسير الراجع إلى اللسان في معرفة اللغة والآداب والبلاغة، وفي تأدية
المعنى بحسب المقاصد والأساليب وباعتماد العقل في التدبّر محلّ إتهام كما عبر عن
ذلك عبد الرحمان بن خلدون في المقدمة.
وكانت
النتيجة أن وقف التقليد في الأمصار عند الأئمة الأربعة، إمــام أهل الحجاز و دار
الهجرة مالك ابن أنس، وإمــام أهل الرأي أحمد بن حنبل، والإمــام الشافعي صاحب
كتاب الأم، والإمــام أبو حنيفة النعمان.
"
وسدّ الناسُ باب الخلاف، وطُرقه لمّا كثر من الإصطلاحات في العلوم.ولما عاق من
الوصول إلى رتبة الإجتهاد، ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله، ومن لا يوثق برأيه
ودينه، فصرّحوا بالعجز والإعواز، وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء ... ولم يبق إلا
نقلُ مذاهبهم ...
ومُدّعي
الإجتهاد لهذا العهد مردود منكوص على عقبه مهجور تقليدهُ، وقد صار أهل
الإسلام
اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة ..."
هذا ما
كتبه ابن خلدون في المقدمة، فصل في الفقه وما يتبعه من الفرائض.
في
المقابل بدأ الغرب "الكافر"، ومنذ منتصف القرن الثامن عشر، ينفض عن نفسه
غُبار الجهل المُتراكم عبر
القرون، وينظر بعين الناقد إلى دور الدين الذي كان
مُكبّلا للأيادي، ومُسيطرا على جل أنشطة
الحياة. وأدرك مفكروه أن رجال الكنيسة
يستخدمون الدين ذريعة ليفعلوا ما يشاؤون وليُقسّموا المجتمع إلى ملل ونحل
وشيع، لا بدافع من رغبة صادقة للوصول إلى
الحقيقة، لأن هذه الرغبة النبيلة في حد ذاتها تؤدي إلى الطيبة والتسامح والتضامن
والتآخي ، بل بدافع المسك بزمام السلطة والتحكّم في رقاب النّاس وإخضاعهم لمشيئة
صاحب الأمر والنهي.
وانطلاقا
من ذلك وُجّهت أصابعُ الإتّهام إلى المكفّرين من رجال الدين ، واعتُبروا دُعاة
فتنة، يُحرّضون الناس على أفكار وكتابات من يُخالفهم الرّأي، و من مُثيري الشغب
الحقيقيين الرافضين للعيش في مناخ يسوده التفكير
وحريّة التعبير.
وشكّل القرن الثامن عشر بعد
ذلك انتفاضة الفكر الحر وأطلقت عليه تسمية"عصر الأنوار" وأصبح منطلقا
لخروج الإنسان من حالة الخُنوع التي لازمته قرونا طويلة، ومُبشّرا بانبلاج عصر
جديد، عصر الإنفتاح والحريّة والتسامُح والإستناد إلى أثمن ما في الإنسان وهو العقل في القضايا
المُتّصلة بالدين، وبالسياسة وبغيرها من
القضايا التي تتمحور حولها حياة الإنسان، بما في ذلك من
مشاغل حياتية وماورائية على حد سواء.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire